الأستاذة الدكتورة عائشة محمد علي عبد الرحمن ولدت عام 1912م ،وهي حسينية النسب ،منوفية الموطن ،ودمياطية المولد والنشأة، أحبَّت العلم وعشقته ،وخاضت الصعاب في سبيل الوصول إليه وتحصيله، كانت زاهدة في المال وجميع مباهج الحياة إلاَّ في العلم ،فقد كانت طالبة له ،ساعية إليه ،نهمةً في التهامه استقته من أصوله وينابيعه الأصيلة ،فحفظت القرآن الكريم ،وعكفت على دراسة تفسيره وعلومه ،ودراسة الحديث الشريف ،والتعمق في اللغة العربية وآدابها ،وسلكت النهج الإسلامي في كتاباتها في وقت كان تيَّار التغريب مسيطراً على الساحة ،ولكنها ظلَّت محافظة على شخصيتها الإسلامية.” واستطردتُ قائلة :
كانت تعيش مع القراءة والكتابة ثمانية عشر ساعة يومياً عندما بلغت الستين ،أصدقاؤها وصديقاتها هم طلاَّب العلم وطالباته من المشرق والمغرب العربيين من تلامذتها ،وكانت على اتصال دائم بهم حتى رحيلها عنَّا في السابع والعشرين من شعبان عام 1419هـ ،أواخر أكتوبر عام 1998م،قدَّمت للمكتبة الإسلامية أربعين مؤلفاً في الدراسات القرآنية والإسلامية ،وفي الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية ،وبعض المجموعات القصصية ،وشاركت ببحوث أصيلة في واحد وعشرين مؤتمراً دولياً في مصر وليبيا والمغرب والجزائر وغانا والعراق وإيطاليا، وبريطانيا ،وأسهمت في إنشاء أقسام ومناهج الدراسات العليا في كلية التربية للبنات بالرياض بالمملكة العربية السعودية ،وجامعة أم درمان ،ودار الحديث الحسنية بالرباط ،وكلية الشريعة بفاس ،وتخرَّج على يديها صفوة من تلامذة مدرستها الجامعيين ممن أشرفت على رسائلهم وأطروحاتهم للماجستير والدكتوراة ،ومن تلامذتها معالي الأستاذ الدكتور عبد الكبير المدغري وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ،والأستاذ الدكتور عبد السلام الكنوني رئيس قسم التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين بتطوان،و الأستاذ الدكتور محمد يوسف عميد كلية الشريعة بفاس ،والدكتورة منيرة العلولا عميدة كلية التربية للبنات بالرياض ،وغيرهم كثير من أبناء وبنات المشرق العربي ومغربه.”
هذا ما يعرفه غالبية النَّاس عنها ،ولكن هناك أمور قد لا يعرفها الكثير من النَّاس عنها استطعتُ التعرَّف عليها من خلال ابن أختها الذي كان يلازمها ،ويرافقها في كل رحلاتها ،وكان مرافقها في بلاد المغرب الأستاذ مصطفى السنلاتي، لقد ذكر لي معلومات لم أوردها في الكلمة احتراماً لرغبتها هي ؛إذ كانت لا تريد أن يعرفها أحد ،وقد وعدته بأن لا أصرِّح بها ،فقلتُ:
كانت إنسانة جادة لا تعرف الهزل في حياتها حتى جلساتها العائلية كانت لا تخلو من المناقشات العلمية ،كرَّست حياتها للبحث العلمي الدؤوب ،وكانت صاحبة مبادئ لا تنافق ولا تزوق ولا تجامل على حساب الدين ،وكانت تختلف ولكن لا تخاصم ،فلقد اختلفت مع العقاد في ستينيات حول كتاب المرأة في القرآن ،وعندما توفي كتبت عنه مقالة قالت فيها : ” توفي الأستاذ الكبير العقاد وقلمه في يده”
كما اختلفت مع الدكتور مصطفى محمود في تفسيره العصري للقرآن الكريم ،وأصدرت كتابها “القرآن والتفسير العصري” هذا بلاغ للنَّاس”.
كانت عازفة عن الأحاديث الصحفية والإذاعية والتلفازية حتى لا يجرها ذلك إلى الحديث عن حياتها الخاصة المليئة بالمآسي والأحزان ،فقد ماتت ابنتها الدكتورة أمينة على يديها ،وهي ابنة الأربع والعشرين ربيعاً بعد حصولها على الدكتوراة في تخصص نادر في علم الرياضيات بسبعة أشهر ،وبعد ثلاث سنوات نُكِبت وثُكِلت بفقدها لابنها الوحيد المهندس أكمل وهو ابن الثامنة والعشرين عاماً في حادث مأساوي مؤلم ،وقبلهما فقدت زوجها وأستاذها الدكتور أمين الخولي الذي تعلَّمت منه ،وكما تقول : “كيف تقرأ”، وقد ألَّفت كتابها ” على الجسر ” أسطورة الزمان ،إثر وفاته عام 1966م ،تحكي فيه سيرتها الذاتية ،وكيف كانت قبل لقائها به ،وكيف أصبحت بعد فراقه.
واقتطفتُ هذه الباقة الحزينة من ورد كلامها إلى تعبر فيها عن حالها بعد فقده قائلة:
“إلى أن يحين الأجل ،سأبقى محكوماً عليَّ بهذه الوقفة الحائرة على المعبر ،ضائعة بين حياة وموت ،أنتظر دوري في اجتياز الشوط الباقي ،وأردد في أثر الراحل المقيم، عليك سلام الله إن تكن عبرت إلى الأخرى ،فنحن على الجسر”
فهذه حالتها عند وفاة زوجها فماذا كانت حالها بعد فقدها لولديها؟
لقد أضحت ذابلة شاردة تصعد يومياً إلى غرفة أكمل تتحسس سريره ،تتأمل حجرته ،تتفحص ملابسه ثُمَّ تنزل إلى سيارته تتأملها ،تتخيله بداخلها ممسكاً بالمقود لينطلق بها في طريق السلامة ،كانت تخفي أحزانها في داخلها بين أضلعها ،تظهر أمام النَّاس قوية صلبة ،لم تثنها كل تلك الأحزان عن مواصلة البحث والدراسة إلى أن فارقت الحياة ،إذ كانت آخر كلمات ترددها” مقالات رمضان أريد أن أصححها قبل النشر “
رحم الله هذه الأديبة الإسلامية الرائدة التي لم تنل بعد حقها من التكريم الذي تستحقه ،لذا رأى الملتقى الدولي للأديبات الإسلاميات في أول دورة له أن يُكرِّم هذه الأديبة الإسلامية التي وهبت حياتها لخدمة الإسلام ،وقد حزنت كثيراً على نيلها جائزة الملك فيصل العالمية عام 1414هـ ـ 1994م في الدراسات لأدبية ،وليس في دراساتها الإسلامية ،وخدمتها للإسلام ،ولعظم مكانة هذه المرأة جاء كبار الأدباء والكتاب والمفكرين اليوم ليقدموا شهاداتهم على شاهدة العصر.”