علاقة الشرق بالغرب:
يتعرض الإسلام إلى هجمة شرسة من الغرب ،ويتعرض العالم الإسلامي إلى مخطط خطير يستهدف الاستيلاء عليه ،و هذه الهجمة ،وذاك المخطط يعودان في جذورهما إلى قرون طويلة منذ بدء العلاقة بين الشرق والغرب ،أمَّا الهجمة على الإسلام فقد بدأت منذ ظهور الإسلام ،وهذا ما سأتعرض له فيما بعد.
فعند استعراضنا لعلاقات الشرق بالغرب نجدها في عهد الكنعانيين قد اتخذت طابعاً تجارياً ،ثُمَّ تلا تلك العلاقة علاقات حرب واحتلال بينهما ،ففي القرن السادس قبل الميلاد قامت الدولة الفارسية ،واتسعت رقعتها بحيث امتدت من حوض نهر السند إلى آسيا الصغرى ،وبعد ذلك نشبت الحروب الطَّاحنة بين الفرس واليونان،وكانت الغلبة في البداية لفارس على المدن اليونانية أثينا واسبرطة ،ثُمَّ رجحت كفة اليونان الذين استطاعوا في النهاية طرد الغزاة القادمين من الشرق .وبعد انكشاف الخطر الفارسي وانحساره رغب اليونان في التعرف إلى هذا العالم الذي أتى منه هؤلاء الغزاة،لتوضيح أسباب النزاع أولاً،ولمعرفة العدو معرفة وثيقة ثانياً.
غزوالأسكندر للشرق:
في أواخرالقرن الرابع قبل الميلاد ،قام اليونان بزعامة الشاب الغريب الأطوار “الإسكندر الأكبر” برد الزيارة التي قام بها الفرس لبلادهم ،فاحتل آسيا الصغرى ،ومعظم مناطق الشرق المعروفة مكتسحاً الفرس أعداء بلاده القدماء ،وتوغل في أراضيهم ،وبعدما أن دانت له تلك الأصقاع استمر في حربه حتى وقف على أبواب الصين عندما عاجلته المنية ،ولم يتعد عمره ثلاثاً وثلاثين عاماً .
وعندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق فكَّر في احتلال الجزيرة العربية بعد أن تمَّت له الغلبة على مصر والهلال الخصيب ،فأرسل بعثة استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة تمهيداً للاستيلاء على هذه الأصقاع المليئة بالغموض والأسرار الصعبة الاختراق ،فبنى اسطولاً قوياً ،واتخذ مدينة بابل قاعدة للانطلاق ،وأمَّر على أسطوله قائده الشهير “أرخياس ” ARCHIAS الذي عبر الخليج العربي ووصل إلى جزيرة البحرين الحالية ،وكان يطلق عليها في ذلك الزَّمان اسم “تيلَّوس ” ،وقدمت هذه البعثة البحرية وغيرها من البعثات الأخرى تقارير وافية عن المناطق التي وصلت إليها تناولت السكان والإنتاج والمبادلات التجارية والوصف الطبوغرافي للأرض والطرق السهلة التي يمكن لجيش جرَّار المرور منها في صحراء قاحلة خالية من الماء ،ومن كل الوسائل المريحة التي يحتاج إليها جيش مقبل على احتلال أصقاع لم يخترقها أحد قبل ذلك التاريخ .
ففتوحات الإسكندر هي التي قذفت بالإغريق والرومان إلى المسرح الشرقي ،وكان هذا هو أول التقاء حضاري بين هذيْن العالمين ،وكان من نتائج هذا التفاعل الحضاري بين الإغريق والشعوب السامية الذي بدأه الإسكندر المقدوني بفتوحاته ،والذي عزَّزه وأغناه السلوقيون في سوريا ،والبطالسة في مصر عن نشؤ حضارة جديدة أطلق عليها الحضارة ” الهلنستية” تمييزاً لها عن الحضارة “الهلينية”التي تعني الحضارة الإغريقية في البلاد الأم.وأصبحت الحضارة “الهنستية” الحضارة التي تميزَّت بها بلدان الشرق الأدنى في القرون الثلاثة التي سبقت المسيحية .
وكان غزو الإسكندر للشرق هو بداية للتطلع الغرب لخيرات الشرق واحتلاله،فعندما حلَّت الامبراطوية الرومانية محل الامبراطوية الإغريقية بعدما تغلبت روما على اسبرطة وأثينا، احتلَّت سوريا سنة 64ق.ب ،وانتهت بضم مصر إليها ،ثُمَّ غزت شمال افريقيا بكامله بعد قضائها المبرم والنهائي على مدينة “قرطاجنة” التي صيَّرتها خراباً إلى يومنا هذا ،وذلك بعد حرقها وتدميرها وزرع أرضها بالملح حتى لا تنبت مرة أخرى ،وبلغت حدود الامبراطورية الرومانية من المحيط الأطلسي غرباً إلى الصحراء السورية العربية شرقاً .
وهكذا نجد أنَّ علاقة الغرب بالشرق التي بدأت منذ الحروب الفارسية اليونانية إلى الحروب الرومانية مروراً بالفتوحات الإغريقية أدَّت إلى وصول الإغريق والرومان إلى هذه الأصقاع التي استعمروها سياسياً وحضارياً،وكان لها أثر بالغ من الناحية الاقتصادية باحتلال هؤلاء الغزاة للموانئ العربية ،وإقامة مركز تجارية بها ،كما عزَّوزها بقواعد عسكرية لحماية تلك تلك التجارة،وهنا نتوقف وقفة ؛إذ نجد التاريخ يعيد نفسه ،فهاهو الحضور الغربي في الخليج العربي لحماية مصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية ،ابتداءً من الاحتلال البرتغالي مروراً بالانتداب البريطاني ،وانتهاء بالاحتلال الأنجلوأمريكي للعراق ،ووجود قواعد عسكرية أمريكية في الخليج .
هذه بداية كان لابد منها لمعرفة أبعاد وجذور علاقة الغرب بالشرق قبل الإسلام،وأنَّها كانت علاقة قائمة على تفاعل حضاري وتبادل تجاري من ناحية ،وتطورت إلى أن أصبحت علاقات قائمة على أطماع ،ومصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية أدت إلى احتلال الغرب للشرق قبل الإسلام ،وعندما قاوم الإسلام الاحتلال الرومي لبلاد الشام ومصر وشمال افريقية ،وكانت انتصارات المسلمين المتلاحقة في الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى قلب أوروبا جعلت أوروبا تزداد تعصباً ضد الإسلام خوفاً من امتداده إلى كل أنحاء أوروبا والقضاء على المسيحية، وتتحدث عن هذا الأمر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه فتقول: “حين انطلقت من جنوبي الجزيرة العربية جحافل العرب الرحل، تحدوها قوة عارمة، ويدعمها تنظيم مدهش بثها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط حتى شواطئ الأطلسي، وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، وأن الإسلام مزق بانتصاره وحدة العالم الذى عمر أكثر من ألف سنة، فشطره شطرين شرقاً وغرباً، وأما الغرب فقد أحاط نفسه إحاطة محكمة بستار حديدي لمئات السنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأما في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربية الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرة إياه عن أن يعزل نفسه ، لهذا أقام الغرب بحروبه الصليبية وهزيمته في هذه الحروب الهوة العميقة بين الغرب والشرق الإسلامى وزادت من عصبية الغرب ضد الإسلام، وهو العامل الذي يتردد المستشرقون الغربيون في إظهاره ؛ إذ كان من أهم عوامل بداية الاستشراق الدينى. ويرى ايرنست باركر E. Barker. أنَّ في اجتياز المسيحية اللاتينية ما وراء البحار لمحاربة الإسلام كخاتمة للعداء الطويل بين المسلم والمسيحي في الجزء الغريى من بحر الروم، وهذا عنصر له خطره في الظروف التاريخية التي تحيط بالحروب الصليبية ،والجهود الاستشراقية أعقاب الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي لم تكن مجرد تخيلات حول الشرق الإسلامي صاغها رحالة أوربيون. وإنما هي مرحلة تاريخية هامة ذات أبعاد خطيرة سعى الاستشراق البدائي لتصويرها بشكل معاكس: انتصار الغرب المنهزم، وهزيمة الشرق المنتصر ، لقد جسد المشروع الصليبي عصبية الغرب تجاه الإسلام؛ إذ يعتبر توماس أرنولد الحروب الصليبية بمثابة “حركة روحية أوضحت نفسها بنظام روحي، ووصفها بأنها عبارة عن حرب مقدسة، حرب عادلة عند رجال الدين من الوجهة النظرية، فضلاً عن أنَّها حرب مباركة يصح أن يعوَّل الناس مصائرهم عليها حرب أشعلت في سبيل القضية النصرانية، ووجدت مصدر قوى المسيحية كلها في إطار عداء جمعي ضد خصمها الألد في الدين” ، بينما يرى المستشرق الروسي “اليكسي فاسيلينتس جورافسكي” أنَّ الدراسات الأوروبية المعاصرة حول الإسلام قد تشكلت بين المسيحية والإسلام على مدى أربعة عشر قرناً تقريباً من تجاورهما أو من وجودهما المشترك، وأن هذه العلاقات نمت وتطورت في أربعة مجالات ومستويات أساسية: اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، وثقافية، ودينية إلا أن المجابهة العسكرية السياسية بين هاتين الديانتين أو الحضارتين منذ بدء ظهورهما المتجاور ووصولاً إلى القرن العشرين كانت ـ تلك المجابهة ـ هي الطابع المسيطر على علاقتهما الأخرى بما في ذلك العلاقات الدينية الأيدلوجية”. إلا أنَّه يقرر في موضع آخر أن التصورات الأوربية عن الإسلام قد تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية، مشيراً في ذلك إلى مؤلفات “يوحنا الدمشقي” التي ناقش فيها الإسلام كبدعة، وأنَّ المسلمين لا يعتقدون بألوهية المسيح وصلبه، وأن يوحنا يرفض أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الله وهو خاتم المرسلين، وأنَّ القرآن كلمة الله المنـزلة إلى محمد صلى الله عليه وسلم من السماء، إذ يرى أن سلسلة الرسالات النبوية ختمت بيوحنا المعمدان. ولم تكن الكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالي، وقصائد لوجيت الإنجليزي سوى أمثلة على تلك العصبية الغربية التي وضعت الإسلام أمام محاكمة تاريخية، ودعت إلى إعدامه ونفيه خارج عقل الغرب وروحه.
بواعث الحروب الصليبية
للحروب الصليبية أسباب دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية ساتعرض لكل منها شيء من التوضيح ،وسأبدأ بِ:
أولاً : البواعث الدينية:
القول بأنَّ الحروب الصليبية أتت رد فعل للاضطهاد الذي تعرَّض له المسيحيون ـ الشرقيون والغربيون ـ في البلدان الإسلامية إدعاء باطلاً لا يتفق وروح الإسلام وطبيعة الدعوة إليه،وما أحاط به القرآن الكريم أهل الكتاب من رعاية وعناية ،وما أمر الله به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة ،فقال تعالى : ( فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنَّما عليك البلاغ والله يصير بالعباد.)
تسامح المسلمين مع المسيحيين:
ويثبتُ التاريخ أنَّ المسيحيين عاشوا دائماً في كنف الدولة الإسلامية عيشة هادئة هنيئة ،تشهد عليها :
1-الرسالة التي بعث بها “ثيودسيوس” بطرق بيت المقدس سنة 869 إلى زميله “اجناتيوس” بطرق القسطنطينية، والتي امتدح فيها المسلمين ،وأثنى على قلوبهم الرحيمة وتسامحهم المطلق ،حتى أنَّهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شؤونهم الخاصة .
2- ما ذكره بطرق بيت المقدس بالحرف الواحد في رسالته : (إنَّ المسلمين قوم عادلون ،ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت)
هذا وإن تعرَّض بعض المسيحيين أحياناً في بعض البلدان الإسلامية لنوع من الضغط أو الاضطهاد ،فتلك حالات فردية شاذة شذَّت عن القاعدة العامة التي حرص الإسلام عليها دائماً ،وهي التسامح المطلق مع أهل الكتاب ،وإذا كان بعض المؤلفين الأوربيين قد تمسكوا بهذه الحالات الفردية ،وأرادوا أن يتخذوها دليلاً على تعسف حكَّام المسلمين مع المسيحيين في عصر الحروب الصليبية ،فلعلَّ هؤلاء الكتَّاب نسوا أو تناسوا ما صحب انتشار المسيحية ذاتها من اضطهادات ومجازر بدأت منذ القرن الرابع للميلاد ،واستمرت حتى نهاية العصور الوسطى ،ويكفي أن أذكر ما قام به خلفاء الأمير قسطنطين الأول من اضطهادات لإرغام غير المسيحيين على اعتناق المسيحية ،وما قام به شارلمان في القرن الثامن من فرض المسيحية على السكسون والبافاريين بحد السيف حتى أنَّه قتل من السكسون في مذبحة “فردن” الشهيرة أكثر من أربعة آلاف فرد جملة واحدة ،وما ارتكبه الفرسان التيتون ،وفرسان منظمة السيف من وحشية وقسوة بالغة في محاولتهم نشر المسيحية في القرنيْن الثالث عشر والرابع عشر من البروسيين واللتوانيين وغيرهم من الشعوب السلافية قرب شاطئ البحر البلطي،هذا إضافة إلى ما قام به المنصرون “الجزويت” في القرن السابع عشر من عنف لنشر المسيحية في الهند .
ولكن أحد كبار المؤرخين الأوربيين يرى أنَّ حالات الاضطهاد الفردية التي تعرَّض لها المسيحيون في الشرق الأدنى في القرن العاشر الميلادي بالذات لآيصح أن تتخذ بأي حال سبباً حقيقياً للحركة الصليبية ،لأنَّ المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية ،وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي ،فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة ،وإنَّما سمح لهم أيضاً بتشييد كنائس وأديرة جديدة جمعوا في مكتباتها كتباً دينية متنوعة في اللاهوت .
فالروح السامية التي عومل بها المسيحييون في البلدان الإسلامية لا ينتقص من قدرها إطلاقاً ما قام به رجل عرف بشذوذه ،مثل :” الحاكم بأمر الله الفاطمي من تصرفات تجاه أهل الذِّمة ،ولم يكد الحاكم يموت سنة 1021م ،إلاَّ وعاد المسيحيون في مصر والشام يحظون بما ألفوه دائماً من رحابة صدر الإسلام والمسلمين ،كما عقد الصلح بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية ،,صار البيزنطيون يشرفون على كنيسة القيامة في بيت المقدس ،كما وفد الحجاج كعادتهم إلى الأماكن المقدسة في أمن وسلام .
هذا وإن كان دعاة الحروب الصليبية في أواخرالقرن الحادي عشر قد دأبوا في الدعاية لحركتهم في غرب أوربا عن طريق المناداة بأحوال المسيحيين في آسيا الصغرى والشام قد ساءت تحت حكم السلاجقة،فإنَّ هناك أكثر من مؤرخ أوربي مسيحي منصف قرروا في صراحة تامة أنَّ السلاجقة لم يغيِّروا شيئاً من أ,ضاع المسيحيين في الشرق ،وأنَّ المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الامبراطورية البيزنطية ذاتها ؛(( وأنَّ ما اعترى المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى من متاعب في ذلك العصر ،إنَّما كان مرده الصراع بين السلاجقة والبيزنطيين ،لأنَّه لايوجد أي دليل على قيام السلاجقة باضطهاد المسيحيين الخاضعين لهم.))
كل هذا يبين لنا أنًَّه لم يكن هناك اضطهاد ديني لمسيحي الشرق من قبل المسلمين يبرر قيام هذه الحملة الصليبية على الإسلام وبلاده ،والتي امتدت أكثر من قرنين من الزمان (1092-1295م)،ولكن دعاة الحملة الصليبية الأولى ،وعلى رأسهم “البابا أوربان الثاني” قد استغلوا فكرة الاضطهاد للاستهلاك المحلي للدعاية لمشروعهم في غرب أوربا .
أطماع البابوية الحقيقية:
لقد كانت للباوبوبة أهداف وأطماع وراء إعلانها للحروب الصيلبية على المسلمين متذرعة بما ادعته من رفع الظلم والاضطهاد عن المسيحيين في الشرق ،وتتجلى لنا هذه الأهداف والأطماع في التالي :
جعل سلطتها عالمية بعدما بلغت درجة كبيرة من النفوذ والاتساع في القرن الحادي عشر،فأراد البابا بوصفه خليفة المسيح والقديس بطرس أن يكون الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب .والمعروف أنَّ البابوبة ترغب دائماً في إخضاع الكنيسة الشرقية الأرذكسية لزعامتها .
ولنا هنا وقفة مع بابا الفاتيكان فقد أعلن في المجمع المسكوني الذي عقد عام1962- 1965م باستقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ،وقد كان من قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني :
1- اعتبار المسيحيين هم شعب الله المختار.
2- توصيل الإنجيل إلى كافة البشر، أي العمل على تنصير العالم.
3- التأكيد على عصمة البابا من الخطأ .
4- اقتلاع الديانات الأخرى ،وبخاصة الإسلام.
ولنتوقف هنا عند كلمة”مسكوني”ماذا يعني هذا المصطلح؟مصطلح “مسكوني ” يدل على “الأرض المسكونة” ،وهي في القرنين الرابع والخامس للميلاد مساحة الامبراطورية اليونانية والرومانية ،وبهذا يطلق على البطريرك الأرثوذكسي في القسطنيطنية “العاصمة الثانية للامبراطورية الرومانية”لقب البطريرك المسكوني. وعلى مستوى الكنيسة ،تدل صفة المسكوني على لقاءات الأساقفة “مجامع” للبحث في المسائل المختصة بالكنيسة كلها .ومنذ مطلع القرن العشرين استعمل لفظ مسكونية لوصف الجهود المبذولة لجمع شمل المسيحيين في كنيسة واحدة. وفي الأدبيات المسيحية تصريح بأنَّ “الحركة المسكونية”ترقى بنشأتها إلى مؤتمر “الإرساليات التبشرية العالمي ” المنعقد في أدنبرة –استكلندا عام 1910م والكلام عن” الحركة المسكونية كان يعني أولاً السعي للنهوض بوحدة الكنيسة ،وثانياً:بوحدة البشرية ،وذلك عبر التنصير والإرساليات وعبر العمل الاجتماعي في العالم غير المسيحي . إنَّ الحركة التنصيرية العالمية أو “الوحدة في العمل التنصيري”شكلت الولادة الحقيقية للعمل المسكوني وللحركة المسكونية ،وفي ذاكرة المسلمين والمسحيين في الشرق صور أليمة ومريرة عن المواجهة مع الحركات التنصيرية.
من هنا يتضح لنا أنَّ الإدارة الأمريكية افتعلت أحداث سبتمبر ،ونسبتها للعرب والمسلمين ،لتتهمهم بالإرهاب ،ولتجعل هذا مبرراً لإعلان الحرب على كل ما هو إسلامي ،واحتلال بلاد العرب والمسلمين بحجة محاربة الإرهاب ،ويؤكد هذا دخول البعثات التنصيرية العراق مع قوات الاحتلال لتمارس دورها في التنصير عن طريق أعمال الإغاثة ،في حين جمَّدت الإدارة المريكية أنشطة الجمعيات الإسلامية الخيرية لتنفرد هذه الإرساليات بأعمال الإغاثة ،فالفكر الغربي هو، هو لا يتغير مهما مضى الزمن ،فأساليبه ،ومبرراته واحدة ،ونحن المسلمين لا نعتبر ،ولا نتعظ من دروس التاريخ.
أعود إلى أسباب الحروب الصليبية .
البواعث الاقتصادية :
هناك أسباب وبواعث اقتصادية وراء هذه الحملات تتلخص في التالي :
1- سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا عند الحملة الصليبية ،وهذه الأزمة جعلت الناس يأكلون الأعشاب والحشائش ،وزاد من سوء الحالة الاقتصادية في الغرب الأوربي كثرة الحروب المحلية بين الأمراء الاقطاعيين ،وهي الحروب التي لم تنجح الكنيسة أو الملوك في وقفها ،ممَّا أضرَّ بالتجارة وطرقها ،والزراعة وحقولها أبلغ الضرر ، وقد كان لليهود دور كبير في استغلال تردي الأوضاع الاقتصادية للدفع لغزو المسلمين ،فكانت الحروب الصليبية طريقاً للخلاص من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشوا فيها داخل أوطانهم ،فضمَّت جموعات غفيرة من المعدمين والفقراء والمساكين وطريدي القانون ،وجميعهم كانوا بفكرون في بطونهم قبل أن يفكروا في بطونهم قبل أن يفكروا في دينهم بدليل ماقاموا به طوال طريقهم إلى القسطنطينية من أعمال العدوان والسلب والنهب ضد الشعوب المسيحية التي مروُّا بأرضيها ،ممَّا يتعارض مع أي وازع ديني.
2- المصالح الاقتصادية لجمهوريات إيطاليا البحرية (البندقية وجنوا وبيزا) لتحقيق أكبر قسط من المكاسب الذاتية على حساب البابوية وكنيسة والصليبيين جميعاً ،ويؤكد هذا ما قامت به “البندقية من تضليل حملة صليبية كبرى ،ووجهتها نحو القسطنطينية ـ وهو البلد المسيحي الآمن ـ في طريقها الطبيعي المرسوم لها ضد المسلمين ،وكان ذلك عندما رأت البندقية أنَّ مصالحها المادية الصِرفة تتطلب مهاجمة القسطنطينية ،وليس غزو مصر.فالصليبيون في الشام لم يكن بإمكانهم الاستغناء عن مساعدة أساطيل الجمهوريات البحرية الثلاث (جنوا والبندقية وبيزا) حيثُ أنَّ هذه الأساطيل قامت بدور فعال في ربط بلاد الشام الصليبية بالغرب الأوربي.وقد قدَّمت هذه الجمهوريات الإيطالية هذه الخدمات المطلوبة للصليبيين ليس إكراماً للكنيسة ،وابتغاء رضا الله ،وإنَّما مقابل معاهدات عقدتها مع القوى الصليبية ،وحصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية هامة .ففي معظم موانئ الشِّام ،ومدنه الكبرى التي استولى عليها الصليبيون تمتعت المدن الإيطجالية التجارية بإعفاءات خاصة ،فضلاً عن شارع وسوق ،وفندق وحمَّام ،ومخبز خاص بتجار المدينة الإيطالية التي قدَّمت خدماتها لحاكم الإمارة الصليبية التي قدَّمت خدماتها لحاكم الإمارة الصليبية التي يتبعها الميناء.ولم تلبث مرسيليا أن حذت حذو المدن الإيطالية فحصلت على امتيازات كبيرة لتجارها في المدن الصليبية بالشام.
وهكذا نجد أنَّ الحرب الصليبية من أول أمرها بصبغة اقتصادية استغلالية واضحة ،فكثير من المدن والجماعات والأفراد الذين أيَّدوا تلك الحركة ،وشاركوا فيها ونزحوا إلى الشرق ،ولم يفعلوا ذلك لخدمة الصليب وحرب المسلمين ،وإنَّما جرياً وراء المال وجمع الثروات ،وإقامة مستعمرات ومراكز ثابتة لهم في قلب الوطن العربي بغية استغلال موارده والمتاجرة فيها ،والحصول على أكبرقدر ممكن من الثروة .
ووقفة أخرى لنا هنا عند البواعث الاقتصادية ؛إذ نجدها لا تختلف عن البواعث الاقتصادية للحروب الأمريكية على البلاد العربية والإسلامية،وإن حلَّ البترول في زمننا هذا محل الأطماع الاقتصادية الأخرى ،فأطماع الغرب في ثروات الشرق ليست وليدة العهد ،وجري الجمهوريات البحرية الإيطالية وراء جمع مال وثروات البلاد العربية لا يختلف عن جري رجال الإدارة الأمريكية وشركات البترول الأميركية على تأمين آبار ومنشآت بترول العراق، وجري شركات البناء والتعمير للحصول على عقود إعمار العراق ، فرجال الإدارة الأمريكية الحالية كلهم كانوا يعملون في النفط ، فعائلة بوش كلها تجارتها قائمة على الـبترول ،وعلى التجارة في النفط، كونداليزارايس، ديك تشيني، وقس على ذلك من المسؤولين. وسيطرتهم على البترول في الخليج وبحر قزوين يحقق لأمريكا الهيمنة على العالم بما في ذلك أوربا،والصين، إضافة إلى الأزمة المالية التي تعاني منها الإدارة الأمريكية ؛إذ تعاني من عجز في ميزانيتها قيمته سبعمائة مليار دولار سوف تسددها من أموال العراق. أيضاً نجدها منحت عقود إعادة تعمير العراق قبل الحرب لشركات أمريكية مرتبطة سياسياً بأركان الإدارة، أول الرابحين شركة (هاليبرتن) التي كان يديرها (ديك تشيني) نائب الرئيس حتى عام 2000م.
وممَّا يجدر الإشارة إليه أنَّ كما لليهود دور في إشعال فتيل الحروب الصليبية ،لهم دور في الحرب الراهنة على الإسلام والمسلمين بكل أنواعها سواءً كانت إعلامية أم اقتصادية أم سياسية أم فكرية وثقافية أو عسكرية ،ويؤكد هذا ما قاله السيناتور موران في الثالث من مارس الماضي :” إنَّ الحرب التي تخيم على العراق هي نسيج أيدي اليهود الأمريكيين. وإنَّه لولا دعم المجموعة اليهودية القوي لهذه الحرب لكنا تصرفنا بشكل مختلف”.
في ذلك الوقت كانت الحرب مجرد شبح يثير القلق والمخاوف. أمَّا الآن وبعد أن أصبحت حقيقة واقعة فإن موران ممنوع من الكلام. ذلك أنَّ المجموعة اليهودية التي دفعت الولايات المتحدة إلى الحرب، تمارس كل ما لديها من نفوذ للتشهير بالسيناتور الكاثوليكي، لحمله على الاستقالة من عضوية الكونجرس .
ثالثاً: البواعث الاجتماعية :
كلنا يعرف أنّ النظام الإقطاعي كان سائداً في أوربا في العصور الوسطى ،وكان المجتمع من ثلاث طبقات:طبقة رجال الدين، وطبقة المحاربين من النبلاء والفرسان ، وطبقة الفلاحين من الأقنان والرقيق ،وكانت الطبقتان الأوليان أقلية تمثل في مجموعها الهيئة الحاكمة من وجهة النظر الاجتماعية في حين ظلَّت طبقة الفلاَّحين تمثل الغالبية المغلوبة على أمرها المحرومة من أبسط مبادئ الحرية الشخصية ،فكل ما يجمعه القن يعتبر ملكاً خاصاً للسيد الإقطاعي ،لأنَّ القن محروم حتى من الملكية الشخصية،وكانوا يعيشون حياة مثقلة بأشق الأعمال ،مع الإذلال والاسترقاق ،ووجدوا في المشاركة في الحملات الصليبية على البلاد العربية الإسلامية فرصة للتخلص من هذه الحياة ،حتى لو انتهت حياتهم بالموت ،فالموت عندهم أرحم من الحياة التي يعيشونها ،وإن كُتبت لهم الحياة فستكون أفضل بكثير من تلك الحياة التي كانوا يعيشونها.
رابعاً : البواعث السياسية :
لم تكن بواعث خروج ملوك أوربا للحروب الصليبية من أجل حرب المسلمين ،ولكن لوقوعهم تحت ضغوط البابوية ذات النفوذ الكبير آنذاك ،فلا يستطيع ملكاً من ملوك الغرب أن يعصي لها أمراً ،أو يرد لها طلباً ،وإلاَّ تعرَّض للحرمان والطرد من الكنيسة ورحمتها ،فلا يستطيع الاحتفاظ بعرشه أو بولاء شعبه .
أمَّا الأمراء الذين أسهموا في الحروب الصليبية ،فمعظمهم كان يجري وراء أطماع سياسية لم يستطيعوا إخفاءها قبل وصولهم إلى الشام،ومعظم هؤلاء الأمراء كانوا لا يملكون إقطاعاً في بلادهم بموجب نظام الميراث لديهم الذي كان لا يورث إلاَّ الابن الأكبر ،والإقطاع هو المقياس الأول والأخير لمكانة الأمير أو النبيل في مجتمعه ،فبقدر كبر إقطاعه تكون مكانته في المجتمع ،فوجد هؤلاء الأمراء والفرسان والنبلاء المحرومون من الأرض في غرب أوربا فرصة علَّهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق تعوضهم عمَّا فاتهم في الغرب ،حتى أولئك الذين كانت لهم إقطاعاتهم في بلادهم الأصلية ،وجدوا في تلبية نداء البابوية فرصة لتكوين قطاعات أكبر.ويؤكد هذا صراع هؤلاء الأمراء فيما بينهم ،وكيف أنَّهم أخذوا يقسمون الغنيمة وهم في طريقهم إلى الشام أي قبل أن يستولوا على الغنيمة ،بل نجد الخلاف قد دبَّ بين بعضهم البعض على حكم إمارة أو الفوز بمدينة .
ولنا هنا وقفة ثالثة عند هذه النقطة ،فما حدث بين أمراء وفرسان ونبلاء غرب أوربا في الحروب الصليبية ،حدث بين الأدارة الأمريكية وبريطانيا ،والدول التي تحالفت معهما على غزو العراق ،فأخذت بريطانيا جنوب العراق ،وأمريكا فازت بباقي العراق ،على أن يكون لدول التحالف الأخرى مثل أسبانيا وأستراليا وغيرهما نصيباً في عقود إعادة إعمار العراق ،بل نجد فرنسا التي كانت تعارض حرب العراق وهدَّدت باستخدام حق الفيتو على المشروع الأنجلوأمريكي الذي يحوي على قرار الحرب ليقره مجلس الأمن ،نجدها بعد ما أعلنت الحرب على العراق تحول أن تتقرب لأمريكا لتفوز بجزء من الغنيمة.
وفي النهاية أقول إنَّ بواعث الحروب الصلبية التي تعرضنا لها في الفترة من (1091- 1295م) هي ذاتها بواعث الحرب الحالية المعلنة على العالم الإسلامي تحت مسمى محاربة الإرهاب ـوالتي ستطول ،ولا نعلم مداها لأنَّ قائمة الدول التي سوف تعلن الحرب عليها طويلة ـ ،وإن اختلفت في مصطلحاتها ومفرداتها ،مع إضافة إليها بواعث ثقافية ،وهي فرض الثقافة الصهيو أمريكية علينا ،وتحقيق المشروع الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل الكبرى .
وهذا يؤكد أنَّ النزعة الاستعمارية لدى الغربي نزعة متأصلة فيه ذات جذور عميقة بدأت منذ عهد الإسكندر ,وامتدت إلى أيامنا هذه ،وبواعثه وأهدافه ومبرراته هي ،هي لا تتغير، ولكننا نحن لا نقرأ التاريخ ،وإن قرأناه لا نعيه ونستفيد من دروسه.
يتعرض الإسلام إلى هجمة شرسة من الغرب ،ويتعرض العالم الإسلامي إلى مخطط خطير يستهدف الاستيلاء عليه ،و هذه الهجمة ،وذاك المخطط يعودان في جذورهما إلى قرون طويلة منذ بدء العلاقة بين الشرق والغرب ،أمَّا الهجمة على الإسلام فقد بدأت منذ ظهور الإسلام ،وهذا ما سأتعرض له فيما بعد.
فعند استعراضنا لعلاقات الشرق بالغرب نجدها في عهد الكنعانيين قد اتخذت طابعاً تجارياً ،ثُمَّ تلا تلك العلاقة علاقات حرب واحتلال بينهما ،ففي القرن السادس قبل الميلاد قامت الدولة الفارسية ،واتسعت رقعتها بحيث امتدت من حوض نهر السند إلى آسيا الصغرى ،وبعد ذلك نشبت الحروب الطَّاحنة بين الفرس واليونان،وكانت الغلبة في البداية لفارس على المدن اليونانية أثينا واسبرطة ،ثُمَّ رجحت كفة اليونان الذين استطاعوا في النهاية طرد الغزاة القادمين من الشرق .وبعد انكشاف الخطر الفارسي وانحساره رغب اليونان في التعرف إلى هذا العالم الذي أتى منه هؤلاء الغزاة،لتوضيح أسباب النزاع أولاً،ولمعرفة العدو معرفة وثيقة ثانياً.
غزوالأسكندر للشرق:
في أواخرالقرن الرابع قبل الميلاد ،قام اليونان بزعامة الشاب الغريب الأطوار “الإسكندر الأكبر” برد الزيارة التي قام بها الفرس لبلادهم ،فاحتل آسيا الصغرى ،ومعظم مناطق الشرق المعروفة مكتسحاً الفرس أعداء بلاده القدماء ،وتوغل في أراضيهم ،وبعدما أن دانت له تلك الأصقاع استمر في حربه حتى وقف على أبواب الصين عندما عاجلته المنية ،ولم يتعد عمره ثلاثاً وثلاثين عاماً .
وعندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق فكَّر في احتلال الجزيرة العربية بعد أن تمَّت له الغلبة على مصر والهلال الخصيب ،فأرسل بعثة استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة تمهيداً للاستيلاء على هذه الأصقاع المليئة بالغموض والأسرار الصعبة الاختراق ،فبنى اسطولاً قوياً ،واتخذ مدينة بابل قاعدة للانطلاق ،وأمَّر على أسطوله قائده الشهير “أرخياس ” ARCHIAS الذي عبر الخليج العربي ووصل إلى جزيرة البحرين الحالية ،وكان يطلق عليها في ذلك الزَّمان اسم “تيلَّوس ” ،وقدمت هذه البعثة البحرية وغيرها من البعثات الأخرى تقارير وافية عن المناطق التي وصلت إليها تناولت السكان والإنتاج والمبادلات التجارية والوصف الطبوغرافي للأرض والطرق السهلة التي يمكن لجيش جرَّار المرور منها في صحراء قاحلة خالية من الماء ،ومن كل الوسائل المريحة التي يحتاج إليها جيش مقبل على احتلال أصقاع لم يخترقها أحد قبل ذلك التاريخ .
ففتوحات الإسكندر هي التي قذفت بالإغريق والرومان إلى المسرح الشرقي ،وكان هذا هو أول التقاء حضاري بين هذيْن العالمين ،وكان من نتائج هذا التفاعل الحضاري بين الإغريق والشعوب السامية الذي بدأه الإسكندر المقدوني بفتوحاته ،والذي عزَّزه وأغناه السلوقيون في سوريا ،والبطالسة في مصر عن نشؤ حضارة جديدة أطلق عليها الحضارة ” الهلنستية” تمييزاً لها عن الحضارة “الهلينية”التي تعني الحضارة الإغريقية في البلاد الأم.وأصبحت الحضارة “الهنستية” الحضارة التي تميزَّت بها بلدان الشرق الأدنى في القرون الثلاثة التي سبقت المسيحية .
وكان غزو الإسكندر للشرق هو بداية للتطلع الغرب لخيرات الشرق واحتلاله،فعندما حلَّت الامبراطوية الرومانية محل الامبراطوية الإغريقية بعدما تغلبت روما على اسبرطة وأثينا، احتلَّت سوريا سنة 64ق.ب ،وانتهت بضم مصر إليها ،ثُمَّ غزت شمال افريقيا بكامله بعد قضائها المبرم والنهائي على مدينة “قرطاجنة” التي صيَّرتها خراباً إلى يومنا هذا ،وذلك بعد حرقها وتدميرها وزرع أرضها بالملح حتى لا تنبت مرة أخرى ،وبلغت حدود الامبراطورية الرومانية من المحيط الأطلسي غرباً إلى الصحراء السورية العربية شرقاً .
وهكذا نجد أنَّ علاقة الغرب بالشرق التي بدأت منذ الحروب الفارسية اليونانية إلى الحروب الرومانية مروراً بالفتوحات الإغريقية أدَّت إلى وصول الإغريق والرومان إلى هذه الأصقاع التي استعمروها سياسياً وحضارياً،وكان لها أثر بالغ من الناحية الاقتصادية باحتلال هؤلاء الغزاة للموانئ العربية ،وإقامة مركز تجارية بها ،كما عزَّوزها بقواعد عسكرية لحماية تلك تلك التجارة،وهنا نتوقف وقفة ؛إذ نجد التاريخ يعيد نفسه ،فهاهو الحضور الغربي في الخليج العربي لحماية مصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية ،ابتداءً من الاحتلال البرتغالي مروراً بالانتداب البريطاني ،وانتهاء بالاحتلال الأنجلوأمريكي للعراق ،ووجود قواعد عسكرية أمريكية في الخليج .
هذه بداية كان لابد منها لمعرفة أبعاد وجذور علاقة الغرب بالشرق قبل الإسلام،وأنَّها كانت علاقة قائمة على تفاعل حضاري وتبادل تجاري من ناحية ،وتطورت إلى أن أصبحت علاقات قائمة على أطماع ،ومصالح اقتصادية وسياسية وعسكرية أدت إلى احتلال الغرب للشرق قبل الإسلام ،وعندما قاوم الإسلام الاحتلال الرومي لبلاد الشام ومصر وشمال افريقية ،وكانت انتصارات المسلمين المتلاحقة في الفتوحات الإسلامية التي وصلت إلى قلب أوروبا جعلت أوروبا تزداد تعصباً ضد الإسلام خوفاً من امتداده إلى كل أنحاء أوروبا والقضاء على المسيحية، وتتحدث عن هذا الأمر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه فتقول: “حين انطلقت من جنوبي الجزيرة العربية جحافل العرب الرحل، تحدوها قوة عارمة، ويدعمها تنظيم مدهش بثها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط حتى شواطئ الأطلسي، وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، وأن الإسلام مزق بانتصاره وحدة العالم الذى عمر أكثر من ألف سنة، فشطره شطرين شرقاً وغرباً، وأما الغرب فقد أحاط نفسه إحاطة محكمة بستار حديدي لمئات السنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأما في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربية الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرة إياه عن أن يعزل نفسه ، لهذا أقام الغرب بحروبه الصليبية وهزيمته في هذه الحروب الهوة العميقة بين الغرب والشرق الإسلامى وزادت من عصبية الغرب ضد الإسلام، وهو العامل الذي يتردد المستشرقون الغربيون في إظهاره ؛ إذ كان من أهم عوامل بداية الاستشراق الدينى. ويرى ايرنست باركر E. Barker. أنَّ في اجتياز المسيحية اللاتينية ما وراء البحار لمحاربة الإسلام كخاتمة للعداء الطويل بين المسلم والمسيحي في الجزء الغريى من بحر الروم، وهذا عنصر له خطره في الظروف التاريخية التي تحيط بالحروب الصليبية ،والجهود الاستشراقية أعقاب الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي لم تكن مجرد تخيلات حول الشرق الإسلامي صاغها رحالة أوربيون. وإنما هي مرحلة تاريخية هامة ذات أبعاد خطيرة سعى الاستشراق البدائي لتصويرها بشكل معاكس: انتصار الغرب المنهزم، وهزيمة الشرق المنتصر ، لقد جسد المشروع الصليبي عصبية الغرب تجاه الإسلام؛ إذ يعتبر توماس أرنولد الحروب الصليبية بمثابة “حركة روحية أوضحت نفسها بنظام روحي، ووصفها بأنها عبارة عن حرب مقدسة، حرب عادلة عند رجال الدين من الوجهة النظرية، فضلاً عن أنَّها حرب مباركة يصح أن يعوَّل الناس مصائرهم عليها حرب أشعلت في سبيل القضية النصرانية، ووجدت مصدر قوى المسيحية كلها في إطار عداء جمعي ضد خصمها الألد في الدين” ، بينما يرى المستشرق الروسي “اليكسي فاسيلينتس جورافسكي” أنَّ الدراسات الأوروبية المعاصرة حول الإسلام قد تشكلت بين المسيحية والإسلام على مدى أربعة عشر قرناً تقريباً من تجاورهما أو من وجودهما المشترك، وأن هذه العلاقات نمت وتطورت في أربعة مجالات ومستويات أساسية: اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، وثقافية، ودينية إلا أن المجابهة العسكرية السياسية بين هاتين الديانتين أو الحضارتين منذ بدء ظهورهما المتجاور ووصولاً إلى القرن العشرين كانت ـ تلك المجابهة ـ هي الطابع المسيطر على علاقتهما الأخرى بما في ذلك العلاقات الدينية الأيدلوجية”. إلا أنَّه يقرر في موضع آخر أن التصورات الأوربية عن الإسلام قد تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية، مشيراً في ذلك إلى مؤلفات “يوحنا الدمشقي” التي ناقش فيها الإسلام كبدعة، وأنَّ المسلمين لا يعتقدون بألوهية المسيح وصلبه، وأن يوحنا يرفض أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الله وهو خاتم المرسلين، وأنَّ القرآن كلمة الله المنـزلة إلى محمد صلى الله عليه وسلم من السماء، إذ يرى أن سلسلة الرسالات النبوية ختمت بيوحنا المعمدان. ولم تكن الكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالي، وقصائد لوجيت الإنجليزي سوى أمثلة على تلك العصبية الغربية التي وضعت الإسلام أمام محاكمة تاريخية، ودعت إلى إعدامه ونفيه خارج عقل الغرب وروحه.
بواعث الحروب الصليبية
للحروب الصليبية أسباب دينية واقتصادية واجتماعية وسياسية ساتعرض لكل منها شيء من التوضيح ،وسأبدأ بِ:
أولاً : البواعث الدينية:
القول بأنَّ الحروب الصليبية أتت رد فعل للاضطهاد الذي تعرَّض له المسيحيون ـ الشرقيون والغربيون ـ في البلدان الإسلامية إدعاء باطلاً لا يتفق وروح الإسلام وطبيعة الدعوة إليه،وما أحاط به القرآن الكريم أهل الكتاب من رعاية وعناية ،وما أمر الله به الرسول صلى الله عليه وسلم من دعوتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة ،فقال تعالى : ( فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنَّما عليك البلاغ والله يصير بالعباد.)
تسامح المسلمين مع المسيحيين:
ويثبتُ التاريخ أنَّ المسيحيين عاشوا دائماً في كنف الدولة الإسلامية عيشة هادئة هنيئة ،تشهد عليها :
1-الرسالة التي بعث بها “ثيودسيوس” بطرق بيت المقدس سنة 869 إلى زميله “اجناتيوس” بطرق القسطنطينية، والتي امتدح فيها المسلمين ،وأثنى على قلوبهم الرحيمة وتسامحهم المطلق ،حتى أنَّهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شؤونهم الخاصة .
2- ما ذكره بطرق بيت المقدس بالحرف الواحد في رسالته : (إنَّ المسلمين قوم عادلون ،ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت)
هذا وإن تعرَّض بعض المسيحيين أحياناً في بعض البلدان الإسلامية لنوع من الضغط أو الاضطهاد ،فتلك حالات فردية شاذة شذَّت عن القاعدة العامة التي حرص الإسلام عليها دائماً ،وهي التسامح المطلق مع أهل الكتاب ،وإذا كان بعض المؤلفين الأوربيين قد تمسكوا بهذه الحالات الفردية ،وأرادوا أن يتخذوها دليلاً على تعسف حكَّام المسلمين مع المسيحيين في عصر الحروب الصليبية ،فلعلَّ هؤلاء الكتَّاب نسوا أو تناسوا ما صحب انتشار المسيحية ذاتها من اضطهادات ومجازر بدأت منذ القرن الرابع للميلاد ،واستمرت حتى نهاية العصور الوسطى ،ويكفي أن أذكر ما قام به خلفاء الأمير قسطنطين الأول من اضطهادات لإرغام غير المسيحيين على اعتناق المسيحية ،وما قام به شارلمان في القرن الثامن من فرض المسيحية على السكسون والبافاريين بحد السيف حتى أنَّه قتل من السكسون في مذبحة “فردن” الشهيرة أكثر من أربعة آلاف فرد جملة واحدة ،وما ارتكبه الفرسان التيتون ،وفرسان منظمة السيف من وحشية وقسوة بالغة في محاولتهم نشر المسيحية في القرنيْن الثالث عشر والرابع عشر من البروسيين واللتوانيين وغيرهم من الشعوب السلافية قرب شاطئ البحر البلطي،هذا إضافة إلى ما قام به المنصرون “الجزويت” في القرن السابع عشر من عنف لنشر المسيحية في الهند .
ولكن أحد كبار المؤرخين الأوربيين يرى أنَّ حالات الاضطهاد الفردية التي تعرَّض لها المسيحيون في الشرق الأدنى في القرن العاشر الميلادي بالذات لآيصح أن تتخذ بأي حال سبباً حقيقياً للحركة الصليبية ،لأنَّ المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية ،وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي ،فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة ،وإنَّما سمح لهم أيضاً بتشييد كنائس وأديرة جديدة جمعوا في مكتباتها كتباً دينية متنوعة في اللاهوت .
فالروح السامية التي عومل بها المسيحييون في البلدان الإسلامية لا ينتقص من قدرها إطلاقاً ما قام به رجل عرف بشذوذه ،مثل :” الحاكم بأمر الله الفاطمي من تصرفات تجاه أهل الذِّمة ،ولم يكد الحاكم يموت سنة 1021م ،إلاَّ وعاد المسيحيون في مصر والشام يحظون بما ألفوه دائماً من رحابة صدر الإسلام والمسلمين ،كما عقد الصلح بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية ،,صار البيزنطيون يشرفون على كنيسة القيامة في بيت المقدس ،كما وفد الحجاج كعادتهم إلى الأماكن المقدسة في أمن وسلام .
هذا وإن كان دعاة الحروب الصليبية في أواخرالقرن الحادي عشر قد دأبوا في الدعاية لحركتهم في غرب أوربا عن طريق المناداة بأحوال المسيحيين في آسيا الصغرى والشام قد ساءت تحت حكم السلاجقة،فإنَّ هناك أكثر من مؤرخ أوربي مسيحي منصف قرروا في صراحة تامة أنَّ السلاجقة لم يغيِّروا شيئاً من أ,ضاع المسيحيين في الشرق ،وأنَّ المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الامبراطورية البيزنطية ذاتها ؛(( وأنَّ ما اعترى المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى من متاعب في ذلك العصر ،إنَّما كان مرده الصراع بين السلاجقة والبيزنطيين ،لأنَّه لايوجد أي دليل على قيام السلاجقة باضطهاد المسيحيين الخاضعين لهم.))
كل هذا يبين لنا أنًَّه لم يكن هناك اضطهاد ديني لمسيحي الشرق من قبل المسلمين يبرر قيام هذه الحملة الصليبية على الإسلام وبلاده ،والتي امتدت أكثر من قرنين من الزمان (1092-1295م)،ولكن دعاة الحملة الصليبية الأولى ،وعلى رأسهم “البابا أوربان الثاني” قد استغلوا فكرة الاضطهاد للاستهلاك المحلي للدعاية لمشروعهم في غرب أوربا .
أطماع البابوية الحقيقية:
لقد كانت للباوبوبة أهداف وأطماع وراء إعلانها للحروب الصيلبية على المسلمين متذرعة بما ادعته من رفع الظلم والاضطهاد عن المسيحيين في الشرق ،وتتجلى لنا هذه الأهداف والأطماع في التالي :
جعل سلطتها عالمية بعدما بلغت درجة كبيرة من النفوذ والاتساع في القرن الحادي عشر،فأراد البابا بوصفه خليفة المسيح والقديس بطرس أن يكون الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب .والمعروف أنَّ البابوبة ترغب دائماً في إخضاع الكنيسة الشرقية الأرذكسية لزعامتها .
ولنا هنا وقفة مع بابا الفاتيكان فقد أعلن في المجمع المسكوني الذي عقد عام1962- 1965م باستقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ،وقد كان من قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني :
1- اعتبار المسيحيين هم شعب الله المختار.
2- توصيل الإنجيل إلى كافة البشر، أي العمل على تنصير العالم.
3- التأكيد على عصمة البابا من الخطأ .
4- اقتلاع الديانات الأخرى ،وبخاصة الإسلام.
ولنتوقف هنا عند كلمة”مسكوني”ماذا يعني هذا المصطلح؟مصطلح “مسكوني ” يدل على “الأرض المسكونة” ،وهي في القرنين الرابع والخامس للميلاد مساحة الامبراطورية اليونانية والرومانية ،وبهذا يطلق على البطريرك الأرثوذكسي في القسطنيطنية “العاصمة الثانية للامبراطورية الرومانية”لقب البطريرك المسكوني. وعلى مستوى الكنيسة ،تدل صفة المسكوني على لقاءات الأساقفة “مجامع” للبحث في المسائل المختصة بالكنيسة كلها .ومنذ مطلع القرن العشرين استعمل لفظ مسكونية لوصف الجهود المبذولة لجمع شمل المسيحيين في كنيسة واحدة. وفي الأدبيات المسيحية تصريح بأنَّ “الحركة المسكونية”ترقى بنشأتها إلى مؤتمر “الإرساليات التبشرية العالمي ” المنعقد في أدنبرة –استكلندا عام 1910م والكلام عن” الحركة المسكونية كان يعني أولاً السعي للنهوض بوحدة الكنيسة ،وثانياً:بوحدة البشرية ،وذلك عبر التنصير والإرساليات وعبر العمل الاجتماعي في العالم غير المسيحي . إنَّ الحركة التنصيرية العالمية أو “الوحدة في العمل التنصيري”شكلت الولادة الحقيقية للعمل المسكوني وللحركة المسكونية ،وفي ذاكرة المسلمين والمسحيين في الشرق صور أليمة ومريرة عن المواجهة مع الحركات التنصيرية.
من هنا يتضح لنا أنَّ الإدارة الأمريكية افتعلت أحداث سبتمبر ،ونسبتها للعرب والمسلمين ،لتتهمهم بالإرهاب ،ولتجعل هذا مبرراً لإعلان الحرب على كل ما هو إسلامي ،واحتلال بلاد العرب والمسلمين بحجة محاربة الإرهاب ،ويؤكد هذا دخول البعثات التنصيرية العراق مع قوات الاحتلال لتمارس دورها في التنصير عن طريق أعمال الإغاثة ،في حين جمَّدت الإدارة المريكية أنشطة الجمعيات الإسلامية الخيرية لتنفرد هذه الإرساليات بأعمال الإغاثة ،فالفكر الغربي هو، هو لا يتغير مهما مضى الزمن ،فأساليبه ،ومبرراته واحدة ،ونحن المسلمين لا نعتبر ،ولا نتعظ من دروس التاريخ.
أعود إلى أسباب الحروب الصليبية .
البواعث الاقتصادية :
هناك أسباب وبواعث اقتصادية وراء هذه الحملات تتلخص في التالي :
1- سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا عند الحملة الصليبية ،وهذه الأزمة جعلت الناس يأكلون الأعشاب والحشائش ،وزاد من سوء الحالة الاقتصادية في الغرب الأوربي كثرة الحروب المحلية بين الأمراء الاقطاعيين ،وهي الحروب التي لم تنجح الكنيسة أو الملوك في وقفها ،ممَّا أضرَّ بالتجارة وطرقها ،والزراعة وحقولها أبلغ الضرر ، وقد كان لليهود دور كبير في استغلال تردي الأوضاع الاقتصادية للدفع لغزو المسلمين ،فكانت الحروب الصليبية طريقاً للخلاص من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشوا فيها داخل أوطانهم ،فضمَّت جموعات غفيرة من المعدمين والفقراء والمساكين وطريدي القانون ،وجميعهم كانوا بفكرون في بطونهم قبل أن يفكروا في بطونهم قبل أن يفكروا في دينهم بدليل ماقاموا به طوال طريقهم إلى القسطنطينية من أعمال العدوان والسلب والنهب ضد الشعوب المسيحية التي مروُّا بأرضيها ،ممَّا يتعارض مع أي وازع ديني.
2- المصالح الاقتصادية لجمهوريات إيطاليا البحرية (البندقية وجنوا وبيزا) لتحقيق أكبر قسط من المكاسب الذاتية على حساب البابوية وكنيسة والصليبيين جميعاً ،ويؤكد هذا ما قامت به “البندقية من تضليل حملة صليبية كبرى ،ووجهتها نحو القسطنطينية ـ وهو البلد المسيحي الآمن ـ في طريقها الطبيعي المرسوم لها ضد المسلمين ،وكان ذلك عندما رأت البندقية أنَّ مصالحها المادية الصِرفة تتطلب مهاجمة القسطنطينية ،وليس غزو مصر.فالصليبيون في الشام لم يكن بإمكانهم الاستغناء عن مساعدة أساطيل الجمهوريات البحرية الثلاث (جنوا والبندقية وبيزا) حيثُ أنَّ هذه الأساطيل قامت بدور فعال في ربط بلاد الشام الصليبية بالغرب الأوربي.وقد قدَّمت هذه الجمهوريات الإيطالية هذه الخدمات المطلوبة للصليبيين ليس إكراماً للكنيسة ،وابتغاء رضا الله ،وإنَّما مقابل معاهدات عقدتها مع القوى الصليبية ،وحصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية هامة .ففي معظم موانئ الشِّام ،ومدنه الكبرى التي استولى عليها الصليبيون تمتعت المدن الإيطجالية التجارية بإعفاءات خاصة ،فضلاً عن شارع وسوق ،وفندق وحمَّام ،ومخبز خاص بتجار المدينة الإيطالية التي قدَّمت خدماتها لحاكم الإمارة الصليبية التي قدَّمت خدماتها لحاكم الإمارة الصليبية التي يتبعها الميناء.ولم تلبث مرسيليا أن حذت حذو المدن الإيطالية فحصلت على امتيازات كبيرة لتجارها في المدن الصليبية بالشام.
وهكذا نجد أنَّ الحرب الصليبية من أول أمرها بصبغة اقتصادية استغلالية واضحة ،فكثير من المدن والجماعات والأفراد الذين أيَّدوا تلك الحركة ،وشاركوا فيها ونزحوا إلى الشرق ،ولم يفعلوا ذلك لخدمة الصليب وحرب المسلمين ،وإنَّما جرياً وراء المال وجمع الثروات ،وإقامة مستعمرات ومراكز ثابتة لهم في قلب الوطن العربي بغية استغلال موارده والمتاجرة فيها ،والحصول على أكبرقدر ممكن من الثروة .
ووقفة أخرى لنا هنا عند البواعث الاقتصادية ؛إذ نجدها لا تختلف عن البواعث الاقتصادية للحروب الأمريكية على البلاد العربية والإسلامية،وإن حلَّ البترول في زمننا هذا محل الأطماع الاقتصادية الأخرى ،فأطماع الغرب في ثروات الشرق ليست وليدة العهد ،وجري الجمهوريات البحرية الإيطالية وراء جمع مال وثروات البلاد العربية لا يختلف عن جري رجال الإدارة الأمريكية وشركات البترول الأميركية على تأمين آبار ومنشآت بترول العراق، وجري شركات البناء والتعمير للحصول على عقود إعمار العراق ، فرجال الإدارة الأمريكية الحالية كلهم كانوا يعملون في النفط ، فعائلة بوش كلها تجارتها قائمة على الـبترول ،وعلى التجارة في النفط، كونداليزارايس، ديك تشيني، وقس على ذلك من المسؤولين. وسيطرتهم على البترول في الخليج وبحر قزوين يحقق لأمريكا الهيمنة على العالم بما في ذلك أوربا،والصين، إضافة إلى الأزمة المالية التي تعاني منها الإدارة الأمريكية ؛إذ تعاني من عجز في ميزانيتها قيمته سبعمائة مليار دولار سوف تسددها من أموال العراق. أيضاً نجدها منحت عقود إعادة تعمير العراق قبل الحرب لشركات أمريكية مرتبطة سياسياً بأركان الإدارة، أول الرابحين شركة (هاليبرتن) التي كان يديرها (ديك تشيني) نائب الرئيس حتى عام 2000م.
وممَّا يجدر الإشارة إليه أنَّ كما لليهود دور في إشعال فتيل الحروب الصليبية ،لهم دور في الحرب الراهنة على الإسلام والمسلمين بكل أنواعها سواءً كانت إعلامية أم اقتصادية أم سياسية أم فكرية وثقافية أو عسكرية ،ويؤكد هذا ما قاله السيناتور موران في الثالث من مارس الماضي :” إنَّ الحرب التي تخيم على العراق هي نسيج أيدي اليهود الأمريكيين. وإنَّه لولا دعم المجموعة اليهودية القوي لهذه الحرب لكنا تصرفنا بشكل مختلف”.
في ذلك الوقت كانت الحرب مجرد شبح يثير القلق والمخاوف. أمَّا الآن وبعد أن أصبحت حقيقة واقعة فإن موران ممنوع من الكلام. ذلك أنَّ المجموعة اليهودية التي دفعت الولايات المتحدة إلى الحرب، تمارس كل ما لديها من نفوذ للتشهير بالسيناتور الكاثوليكي، لحمله على الاستقالة من عضوية الكونجرس .
ثالثاً: البواعث الاجتماعية :
كلنا يعرف أنّ النظام الإقطاعي كان سائداً في أوربا في العصور الوسطى ،وكان المجتمع من ثلاث طبقات:طبقة رجال الدين، وطبقة المحاربين من النبلاء والفرسان ، وطبقة الفلاحين من الأقنان والرقيق ،وكانت الطبقتان الأوليان أقلية تمثل في مجموعها الهيئة الحاكمة من وجهة النظر الاجتماعية في حين ظلَّت طبقة الفلاَّحين تمثل الغالبية المغلوبة على أمرها المحرومة من أبسط مبادئ الحرية الشخصية ،فكل ما يجمعه القن يعتبر ملكاً خاصاً للسيد الإقطاعي ،لأنَّ القن محروم حتى من الملكية الشخصية،وكانوا يعيشون حياة مثقلة بأشق الأعمال ،مع الإذلال والاسترقاق ،ووجدوا في المشاركة في الحملات الصليبية على البلاد العربية الإسلامية فرصة للتخلص من هذه الحياة ،حتى لو انتهت حياتهم بالموت ،فالموت عندهم أرحم من الحياة التي يعيشونها ،وإن كُتبت لهم الحياة فستكون أفضل بكثير من تلك الحياة التي كانوا يعيشونها.
رابعاً : البواعث السياسية :
لم تكن بواعث خروج ملوك أوربا للحروب الصليبية من أجل حرب المسلمين ،ولكن لوقوعهم تحت ضغوط البابوية ذات النفوذ الكبير آنذاك ،فلا يستطيع ملكاً من ملوك الغرب أن يعصي لها أمراً ،أو يرد لها طلباً ،وإلاَّ تعرَّض للحرمان والطرد من الكنيسة ورحمتها ،فلا يستطيع الاحتفاظ بعرشه أو بولاء شعبه .
أمَّا الأمراء الذين أسهموا في الحروب الصليبية ،فمعظمهم كان يجري وراء أطماع سياسية لم يستطيعوا إخفاءها قبل وصولهم إلى الشام،ومعظم هؤلاء الأمراء كانوا لا يملكون إقطاعاً في بلادهم بموجب نظام الميراث لديهم الذي كان لا يورث إلاَّ الابن الأكبر ،والإقطاع هو المقياس الأول والأخير لمكانة الأمير أو النبيل في مجتمعه ،فبقدر كبر إقطاعه تكون مكانته في المجتمع ،فوجد هؤلاء الأمراء والفرسان والنبلاء المحرومون من الأرض في غرب أوربا فرصة علَّهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق تعوضهم عمَّا فاتهم في الغرب ،حتى أولئك الذين كانت لهم إقطاعاتهم في بلادهم الأصلية ،وجدوا في تلبية نداء البابوية فرصة لتكوين قطاعات أكبر.ويؤكد هذا صراع هؤلاء الأمراء فيما بينهم ،وكيف أنَّهم أخذوا يقسمون الغنيمة وهم في طريقهم إلى الشام أي قبل أن يستولوا على الغنيمة ،بل نجد الخلاف قد دبَّ بين بعضهم البعض على حكم إمارة أو الفوز بمدينة .
ولنا هنا وقفة ثالثة عند هذه النقطة ،فما حدث بين أمراء وفرسان ونبلاء غرب أوربا في الحروب الصليبية ،حدث بين الأدارة الأمريكية وبريطانيا ،والدول التي تحالفت معهما على غزو العراق ،فأخذت بريطانيا جنوب العراق ،وأمريكا فازت بباقي العراق ،على أن يكون لدول التحالف الأخرى مثل أسبانيا وأستراليا وغيرهما نصيباً في عقود إعادة إعمار العراق ،بل نجد فرنسا التي كانت تعارض حرب العراق وهدَّدت باستخدام حق الفيتو على المشروع الأنجلوأمريكي الذي يحوي على قرار الحرب ليقره مجلس الأمن ،نجدها بعد ما أعلنت الحرب على العراق تحول أن تتقرب لأمريكا لتفوز بجزء من الغنيمة.
وفي النهاية أقول إنَّ بواعث الحروب الصلبية التي تعرضنا لها في الفترة من (1091- 1295م) هي ذاتها بواعث الحرب الحالية المعلنة على العالم الإسلامي تحت مسمى محاربة الإرهاب ـوالتي ستطول ،ولا نعلم مداها لأنَّ قائمة الدول التي سوف تعلن الحرب عليها طويلة ـ ،وإن اختلفت في مصطلحاتها ومفرداتها ،مع إضافة إليها بواعث ثقافية ،وهي فرض الثقافة الصهيو أمريكية علينا ،وتحقيق المشروع الصهيوني في إقامة دولة إسرائيل الكبرى .
وهذا يؤكد أنَّ النزعة الاستعمارية لدى الغربي نزعة متأصلة فيه ذات جذور عميقة بدأت منذ عهد الإسكندر ,وامتدت إلى أيامنا هذه ،وبواعثه وأهدافه ومبرراته هي ،هي لا تتغير، ولكننا نحن لا نقرأ التاريخ ،وإن قرأناه لا نعيه ونستفيد من دروسه.
الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد
suhaila_hammad@hotmail.com