د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في جريدة المدينة بتاريخ 17 نوفمبر 2022م
كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة هي بمثابة إعلان لقيام الدولة الإسلامية، وبناء المسجد النبوي كان قاعدة هذا البناء، وبتتابع الوحي المدني بآيات التشريع اكتملت أسس وأصول هذه الدولة ومبادئها ونظمها السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والقضائية والحربية، وكذلك تنظيم سياستها الخارجية مع الدول المجاورة والموجودة في المعمورة .
وعند تأملنا للوحي المدني في تنظيمه للمجتمع من الناحية الاجتماعية نجده شاملًا متكاملًا مركزًا على جزئيات دقيقة في شؤون الأسرة وأحكامها، وكذلك في الآداب السلوكية، وفي تعامل أفراد المجتمع فيما بينهم، كما نجده قد ركز بصورة خاصة على وضع المرأة مزيلًا عنها كل ما لحقها عبر العصور والأزمان من ظلم وامتهان، فالذي يريد أن يعرف تاريخ المرأة منذ بدء الخليقة حتى بزوغ فجر الإسلام، فليقرأ القرآن الكريم .
ولقد شمل النظام الاجتماعي للدولة الإسلامية في الوحي المدني تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع التي تتمثل في الآتي
- الإخاء بين المسلمين: مما لا يخفى على الجميع طبيعة المجتمع العربي في الجزيرة العربية بصورة عامة، وفي يثرب بصورة خاصة؛ إذ كانت تسيطر عليه العصبية القبلية، والتي أجّجت نيران الحرب بين قبيلتين من أب وأم واحدة، هما قبيلتا الأوس والخزرج، وأوس كان أخًا للخزرج فتناحر أبناؤهما وتحاربا على مدى مائة وعشرين عامًا، إضافة إلى بني يهود في يثرب، وكلنا يعلم دورهم في إثارة الفتن للتفرقة بين الإخوة الأشقاء، كما كان يوجد في المجتمع في يثرب عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قريش، والذين هاجروا قبل بيعة العقبة الكبرى بسنة تقريبًا، وهاجر معهم من حلفائهم ومواليهم.
وكانت تسيطر على المجتمع في المدينة العصبية القبلية، فجاء الإسلام واعتبر كل المؤمنين إخوة يقول تعالى:(إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)[الحجرات: 10] وكانت الخطوة الأولى التي خطاها رسول الله عليه الصلاة والسلام في بناء المجتمع الإسلامي بعد تشييده للمسجد مؤاخاته بين الأوس والخزرج ملغيًا المسمى القبلي مطلقًا عليهما مسمى جديد هو الأنصار، فلم يعد هناك هذا أوسي وذاك خزرجي، وإنّما أصبح كل واحد منهما ذا مسمى واحد هو “أنصاري” وأصبح القرشيون بمختلف بطونهم “مهاجرين” مؤاخيًا بينهم، وفي نفس الوقت مؤاخيًا بينهم وبين الأنصار، فقضى على العصبية القبلية، وأصبح الجميع على اختلاف قبائلهم وبطونهم إخوة، وإحلال الأخوة الإيمانية محل العصبية القبلية دليل قاطع على تغلغل الإسلام بسرعة فائقة في قلوب ونفوس معتنقيه، فبعدما كانت تغلب عليهم العصبية القبلية والأثرة والأنانية تحول كل ذلك إلى أخوة صادقة وإيثار وإنكار الذات .
- تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع بفرض الزكاة على الأغنياء لتعطى للفقراء، والحث على الصدقات، وتحريم التطفيف في الكيل والميزان، وتحريم الربا.
- الحث على التمسك بالآداب الاجتماعية التي تنظم سلوك أفراد المجتمع، وتضع أسسًا للتعامل لصيانة الأفراد والأسر ليكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا متآلفًا يرتبط أفراده بروابط الإخاء والمحبة والتراحم والأخلاق الكريمة، يقول صلى الله عليه وسلم “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ” ومن هذه الآداب:
- التثبت من صحة الأخبار يقول تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين)[الحجرات:6]وهذه قاعدة أساسية في القضاء، وفي الإعلام وفي العلاقات الدولية، وكذلك في علاقة الحاكم بولاته وبأفراد رعيته، وكذلك في علاقات الأفراد بعضهم ببعض، فعلى الفرد أيّا كانت صفته ألا يتعجل بتصرف بناءً على خبر الفاسق ــ لأنّ الفاسق مظنة الكذب – فيصيب قومًا بظلم عن جهالة ويتسرع فيندم على ارتكابها .
وهكذا نجد أنّ هذه القاعدة الخلقية هي بمثابة منهج للمجتمع المسلم في التثبت من الأقوال والأفعال والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها، ويستند هذا المنهج على:
- تقوى الله، وإلى إرجاع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أشارت إلى ذلك الآيات في سورة النساء(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء: 83) وقوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[ النساء:94]
- النهي عن سوء الظن بالمسلم من غير مبرر يقول تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات:12]، إذ يشترط في حرمة الظن أن يكون المظنون بهم ممن عرفوا بالصلاح والأمانة .
وهذا منهج اجتماعي آخر ينبغي السير عليه والالتزام به، وهي أن لا يكون الظن السيء هو الأساس في الحكم على الآخرين، فالناس مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم حتى يتبين بوضوح أنّهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه، يقول تعالى:(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
- النهي عن التجسس والاطلاع على عورات المسلمين، لأنّ هذا لا يثمر إلّا الضغينة، أمّا ما تفعله الحكومات من بث العيون لتتبع خطوات المفسدين الداعين إلى الفتنة فهو لا يشمله النهي المنصوص عليه في الآية الكريمة، لأنّ المقصود به حماية المجتمع من الفتن، وكذلك يقول تعالى:(وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)[الحجرات:12]
فكما نهى الله عز وجل عن التجسس، نهى أيضًا عن الغيبة ونفّر منها وشبّه المغتاب بالذي يأكل لم أخيه ميتًا، فإن كنت تكره أكل لحم أخيك بعد مماته، فكذلك أكره أن تغتابه في حياته، أمّا المُجاهر بالفسق والداخل في مواطن الريب، فلا يحرم ذكر حال، إذا قصد التنفير من عمله والتحذير من سلوكه .
- النهي عن احتقار الغير بالسخرية تارة، وذكر معايب الغير تارة أخرى، وتلقيبه أخيه بألقاب يكرهها تارة ثالثة، يقول تعالى في سورة الحجرات آية 11، وسورة الحجرات، كما نلاحظ قد وضعت المنهج الخلقي القويم الذي ينبغي أن يسير عليه المجتمع المسلم في تعامله مع بعضهم بعضا في كل المواضع والمواقع، يقول تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)
- النهي عن الكذب ومظاهره وتشمل الخيانة، خلف الوعد، شهادة الزور، والبهتان والنميمة ،فالكذب أصل الرذائل، وبه يتصدع بنيان المجتمع فيسقط صاحبه من عيون الناس فلا يصدقونه في قوله ولا يثقون به في عمل؛ لذا كتب الله على الكاذبين الضلال، يقول تعالى(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)[غافر:28]
ولكن الكذب ليس بغيضًا في كل الأحوال، فإن كان أجدى من الصدق للإصلاح بين الناس، وفيه خير فلا يعد كذبًا، يقول صلى الله عليه وسلم “وليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا” رواه البخاري.
وشر أنواع الكذب الخيانة، فإذا ما انتشرت هذه الصفة في قوم إلاّ وكانت نذيرًا للخراب والفوضى؛ ولهذا نهى الله المؤمنين عن الخيانة(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال:27]
والله يبغض الخائنين(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)[النساء:107]
وخلف الوعد: من ضروب الكذب المكروهة، فهي صفة تدل على أنّ صاحبها ذو شخصية ضعيفة مهزوزة، غير أهل للثقة، وخلف الوعد من آيات المنافق، كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: آية المنافق ثلاث “إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان” رواه البخاري ومسلم .
أما شهادة الزور فهي من أقبح شرور الكذب220، وقد نهى الله جل شأنه عن شهادة الزور في مواضع كثيرة منها، قوله تعالى(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[الحج:30]
والنميمة: هي من ضروب الكذب التي تدل على أنّ صاحبها ذو نفسية مريضة لا هم له إلاّ رؤية الناس متعادين متخاصمين، وإنّ أكبر سلاح يحارب به النمّام، هو عدم الاستماع له، وهذا ما يأمرنا به الله جل شأنه، يقول تعالى:(ولا تُطع كل حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)
أمّا التكبر، فقد نهى الله عنه، ومن مظاهره الاختيال في السيئة، أو الإعراض بالوجه عمن يتحدث إليه، يقول تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)[الإسراء:37] فمهما تعاليت في مشيتك وشمخت بأنفك فلن تبلغ الجبال ارتفاعًا.
يقول تعالى في النهي عن التكبر (ٍوَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان:18]
- الحث على الفضائل والتمسك بها وتشمل :
الاستقامة وإصلاح النفس وتزكيتها بالاستقامة(قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىاٰهَا* وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىاٰهَا)
- – الإحسان: بمعنى الإنعام والتفضل (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) ومن الإحسان ” العفو ” (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[1]
- · – التقوى: وهي أساس التفاضل بين الناس عند الله(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )لأن الإنسان إذا ما اتقى الله راقبه في كل قول وعمل، فيتجنب نواهيه ويلتزم بأوامره، فالتقوى تكون لدى المؤمن النقي رقابة ذاتية، فيكون صادقًا أمينًا وفيًا لعهده، صابرًا صبورًا يرضى بقضاء الله وقدره متواضعًا غير متكب، متعاونًا في الخير بارًا بوالديه وأهله، كل الفضائل تجتمع فيه وكل الرذائل تبتعد عنه، فمن مظاهر التقوى الصدق،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
وهكذا نجد إنّ الفضائل لخلقية التي حث عليها الإسلام كثيرة، يمكن تلخيصها في فضيلة التقوى وتجتمع كل الفضائل فيها، وتركيز الإسلام على الجانب الخلقي وترسيخه وجعله منهجًا للتعامل الاجتماعي، هو منبثق من نظرة الإسلام للإنسان، وأنّه مادة وروح، فالجوانب الخلقية تخاطب روحه، والجوانب القانونية المتمثلة في الحدود والعقوبات والقصاص تخاطب الجانب المادي فيه، بحيث يحدث توازن بينهما وهذه ميزة يتميز الإسلام بها عن سائر الشرائع والأديان، وهي نظرته للإنسان أنّه مادة وروح وتحقيق التوازن بين الجانبين المادي والروحي بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر .
فهلّا ربينا أولادنا وبناتنا على هذه القيم والفضائل في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا، وكنّا لهم القدوة والنموذج المُحتذى؟
رابط المقال: https://www.al-madina.com/article/815159/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A8%D8%AB%D9%82%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9
[1] – المائدة : 13.