د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في جريدة المدينة الأسبوعية بتاريخ 11 نوفمبر 2022م

 يعاني مجتمعنا كغيره من المجتمعات الإنسانية من  ظاهرة العنف الأسري بكل أنواعه وأشكاله، بدني، و لفظي، ونفسي، ومالي، وجنسي، واغتصاب المحارم الذي  بات له وجود في بعض أسرنا، وكذلك إدمان المخدرات والمسكرات، ونتيجة العنف الممارس ضد الأولاد بنين وبنات من قبل أسرهم ظهرت مشكلة  هروب الفتيان والفتيات وانتحارهم، أو محاولة انتحارهم، والمقلق أنَّ ظاهرة العنف الأسري  اتسعت دائرتها حتى وصل البعض منها  إلى حد الجرائم الأسرية، كما أصبح من أبناء هذا الوطن متشددون يكفرون المجتمع وهؤلاء تتلقفهم المنظمات الإرهابية، ومنهم  ملحدون يُنكرون وجود الخالق جلّ شأنه، إضافة إلى فقدان بعض شبابنا  هويتهم العربية والإسلامية، فالعولمة استطاعت أن تجذبهم إلى الآخر إلى درجة الذوبان، حتى باتوا يخلطون لغتهم الأم بالإنجليزية، كل هذا يعطينا مؤشرًا خطيرًا؛ لذا كان من أهم أهداف وبرامج رؤية المملكة 2030 تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية.

    ومن أهم وسائل تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية، الحوار داخل بيوتنا بين الزوج وزوجته، وبين الأبويْن وأبنائهما، وبين الإخوة والأخوات، وكذلك الحوار في مدراسنا وجامعاتنا بين الأساتذة وتلامذتهم، وبين الطلاب والطالبات فيما بينهم؛ إذ لا يمكن تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية في عقولهم ونفوسهم وقلوبهم  دون فتح باب الحوار معهم.

         والملاحظ غياب الحوار داخل بيوتنا بين أفراد الأسرة الواحدة، وبين الزوج وزوجته،  وبين الآباء والأبناء، و بين الإخوة والأخوات، ويعود هذا الغياب إلى عدم تنشئتنا لأولادنا بنين وبنات على ممارسته، وبعضنا لم يربوا التربية الروحية والخلقية والوجدانية والعقلية والاجتماعية والنفسية في أولادهم التي يشكل الحوار القائم على الإقناع والاحترام أهم أسسها، بل منا مَن  تربى  بصيغة الأمر والنهي، والضرب والتخويف، وتحريم النقاش والحوار؛ لذا كان حوار الآباء مع الأبناء من أهم أسس التربية السليمة، فلا تربية بلا حوار، فبالحوار يكتسب الطفل لغته، وهويته، وتتكون عقيدته وشخصيته وأخلاقياته وقيمه وسلوكياته، فهو حق من حقوقه الأساسية في البناء والتكوين، من هنا جاء قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم:” ما من مولود إلاَّ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، وينصرانه،  ويمجسَّانه”

        وفي ثنايا  الحوار فوائد جمّة نفسية وتربوية ودينية واجتماعية وتحصيلية تعود على المتحاورين بالنفع كونها تسعى إلى نمو شامل، وتنهج نهجًا دينيًا حضاريًا  ينشده كثير من الناس  والقرآن الكريم أولى الحوار أهمية بالغة في مواقف الدعوة والتربية، وجعله الإطار الفني لتوجيه الناس وإرشادهم؛ إذ فيه جذب لعقول الناس، وراحة لنفوسهم؛ لذا يعد الحوار بين الآباء والأبناء  ضرورة لغوية ودينية وعَقدَية وتربوية وخلقية واجتماعية ونفسية وإبداعية وأمنية ووطنيه .

  فالحوار القيمة الكبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية والفطرة، والدين هو الفطرة( فطرة الله التي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله )[الروم :30]، والدين قائم على  الحوار:(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قدْ تَبيِّن الرُّشْد مِنَ الغَيِّ)[البقرة : 256] والحوار من وسائل الدعوة إلى الدين:(ادْعُ إلى سبيلِ رَبَّك بالحِكْمَةِ والموْعِظَةِ الحسَنَةِ  وجَادِلُهْم بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )[النحل :125] وقد وردت مادة حوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: ( وكانَ لَه ثَمَرٌ فَقالَ لِصَاحِبِه وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعزُّ نفرًا)[الكهف:34]

( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقكَ مِنْ تُرِابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكِ رَجُلاً )[الكهف: 37]

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكِ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرِكُمَا إنَّ اللهََ سميعٌ بَصِيرٌ)

والحوار والجدال ذو دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في هذه الآية، ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .

   وقد يكون من الوسائل في ذلك: الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقه؛ لذا كان اهتمام الإسلام بالحوار اهتمامًا كبيرًا، وذلك لأنّ الإسلام يرى بأنَّ الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار، أو الجدال كما يطلق عليه القرآن الكريم في وصفه للإنسان:(وكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً)[الكهف:54]، بل إنّ صفة الحوار، أو الجدال لدى الإنسان في نظر الإسلام تمتد حتى إلى ما بعد الموت، إلى يوم الحساب، كما يخبرنا القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِها)

  والقرآن الكريم ملئ بالحوارات، وأول حوار كان ذلك الحوار الذي دار بين الله عزَّ وجل وبين ملائكته في شأن خلق آدم، فجاءت المحاورة بصيغة قال ….وقالوا..(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[ النحل:111]

  ثُمَّ كان الحوار الثاني بين الله سبحانه وتعالى وإبليس  لعنه الله، وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صورًأ عدة لهذا الحوار الذي شكَّل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقهية، ثُمّ كان الحوار الثاني بين الله عزَّ وجل ورسله وأنبيائه(آدم ونوح  ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام)، ثمّ نداء الله عزَّ وجل  للآباءعلى لسان إبراهيم عليه السلام:(إذ قالَ لأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مّا لا يَسْمَعُ وّلاّ يُبْصٍرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شيئًا) فذكر إبراهيم عليه السلام في خطابه لأبيه رابطة الأبوة التي من شأنها أن تجعل الابن حريصًا على مصلحة الأب، وتجعل الأب جديرًا بأن يُصغي إلى خطاب ابنه،  في النداء:(يا أبتِ) استثارة لهذه الرابطة، وتشويق لها لتقبل الحق، وكذلك نداء الله عزَّ وجل  للأبناء على لسان لقمان الحكيم:(وَإِذْ قَالَ لُقْمَان لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْركْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلُمٌ عَظِيمٌ) فذكر لقمان الحكيم في خطابه لابنه رابطة البنوة التي من شأنها أن تجعل الأب حريصًا على مصلحة الابن، وفي النداء (يا بُنيَّ )استثارة لهذه الرابطة، وتشويق لها لتقبل الحق.

والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم، كلها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون القرآن الكريم، وشكَّلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لا تنضب، ويمكن إجمال القول:  أنَّ هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن الكريم تحمل في مضامينها وأبعادها المعاني الآتية:

-أنّ الاختلاف سنة إلهية(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ)

-وهو رحمة للناس:(وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضُهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدتِ الأرضُ وَلِكنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العَالَمِين)

 -وهو ركن المعرفة(ياأَيُّها النَّاس إنَّا خلقنَاكُم مِنْ ذّكرٍ وأُنْثى وَجَعَلْنأكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتَعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقَاكُمْ)

 -أنَّ الفطرة هي قبول الآخر والحوار معه(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا)

-أنَّ الحكم الأخير هو لله تعالى إليه المصير في حين أنَّ الحقيقة نسبية، وهي ضالة المؤمن يأخذها أنَّى وجدت، ولسيت في يده.(وإنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أعْلَمُ بِمَا تَعْمَلَون. اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَنا وَبَيْنَكُم يَوْمَ القِيَامة فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون)

 -إنَّ من مستلزمات الحوار الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالصبر والحق(والعصْرِ*إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوُا وَعَمِلُوُا الصّالِحَاتِ وَتَوَصَوْا بِالحقَّ وَتَواَصَوْا باِلصّبْر.)

       إذًا الحوار  هو جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية، وهو طريق الرشد والرشاد في الدنيا والآخرة .. ذلك بأنّ الله رب العالمين غني عن الناس، ولو شاء لما خلقهم أصلًا، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، ولكن حكمة الله في الخلق، وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسُّنّة لا تبديل لها ، إنَّها سنة التدافع، أي الحوار الدائم بالتي هي أحسن  بالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وبالحسنة والموعظة والحكمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبجهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر(  ادفع بالتي هي أحسن)

         هذا وتعد الأسرة والمدرسة والجامعة من أهم مؤسسات المجتمع التي يقع على عاتقها غرس القيم الإسلامية،  والهوية الوطنية في عقول ونفوس وقلوب الناشئة باتباع أسس وقواعد التربية الإسلامية وتدعيم الشعور بالوطنية، وتنمية مهارات اتخاذ القرار والحوار واحترام الحقوق والواجبات لدى الأفراد وتحقيق الأمن النفسي في نفوس الناشئة، وتعريفهم على الوطن الصغير والکبير جغرافيًا وتاريخًيا، والترکيز على القيم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم کمواطنين، وتنمية روح الاعتزاز بالوطن والعروبة والإسلام، وتعزيز روح المساهمة الإيجابية في الحياة العامة، مع أهمية الحفاظ على تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم العربية الاصيلة، وبالتالي فإنّ الرؤية تسعى للمحافظة على الهوية الوطنية وإبرازها والتعريف بها، ونقلها للأجيال القادمة، بغرس المبادئ والقيم الوطنية والعناية بالتنشئة الاجتماعية، فالأساس الفعلي لرؤية (2030)  يکمن في وجود أفراد ممثلين للهوية الوطنية، وقيمها الراسخة وفخورين بإرثهم اللُغوي والثقافي والتاريخي والعربي والاسلامي، وأهمية المحافظة عليه لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم الإسلامية، وتعد الطفولة الميدان التربوي الأفضل لغرس مفاهيم الوطنية وأبعادها من انتماء ومحبة وتعاون لإنشاء جيل للمستقبل واع ومثقف، ومدرك للإرث اللغوي والثقافي والحضاري في مجتمعة ويفخر ويعتز بوطنه، ولغته العربية، ويشعر بالانتماء نحوه ويسهم في تقدمه، مع الحفاظ على أمنه واستقراره، وحمايته من المتربصين به، ولتعزيز الانتماء الوطني  نجد الحرص على تدريس  الهوية الوطنية والحوار في دروس المواطنة في مناهجنا الدراسية، وكذلك الاحتفال باليوم الوطني ويوم التأسيس .

البريد الكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال: https://www.al-madina.com/article/814030/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B9%D8%B2%D9%8A%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9

Leave a Reply