د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نشر في جريدة المدينة في 25 أغسطس 2022م
يهتم التاريخ الأُسري بالتطور الاجتماعي والعلمي والثقافي والاقتصادي لمجموعات الأقارب للأسرة الواحدة عبر العصور. وللأسرة دور أساسي في تكوين تاريخ مجتمعها المحلي وتوثيقه، والذي يُعد لّبّنّة أساسية في بناء تاريخ الدولة التي تنتمي إليها، وهي جزءً لا يتجزأ من تاريخ شعبها، فالبحوث والدراسات الخاصة بالتاريخ الأسري تعبر حدود التخصصات والثقافات؛ حيث تهدف من خلال فهم بُنْيَة الأسر ووظائفها في مجتمع ما من وجهات النظر الاجتماعية أو البيئية أو الاقتصادية لعرض العلاقات المتبادلة بين الأفراد وأقاربهم والزمن التاريخي، إضافة إلى أُسرٍ عريقة مُعتّم على تاريخها، والكشف عن وثائقها ومخطوطاتها رغم كثرة إسهاماتها العلمية والفكرية والدعوية والثقافية، خاصة الأسر العريقة التي تعمّد بعض مؤرخي المدن التعتيم على تاريخها من قبيل الغيرة والحقد، أو إلصاق بعض المثالب بها التي ليست فيها .
وقد أظهرت دراسة التاريخ العائلي أنّ النظم الأسرية داخل مجتمعها المحلي تتمتع بالمرونة والتنوع الثقافي وقابلة للتكيف مع الظروف البيئية والاقتصادية والثقافية والسياسية في مختلف الأزمنة والعصور، وتكشف عن حقائق ووقائع تاريخية من خلال:
- دراسة للأحداث التاريخية والاجتماعية في تكوين السياق الثقافي للأسرة موضع الدراسة وعاداتهم، ودراسة تأثير الحروب عليها، مع دراسة النصوص والمخطوطات القديمة الخاصة بالأسرة، والتطرق إلى تاريخ تأسيس المدينة التي تنتمي إليها وتسكنها الأسرة موضع البحث، وكذلك بيان الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والفكرية والثقافية والاجتماعية والعمرانية على مدى قرون منذ بداية مرحلة تاريخ الأسرة موضوع البحث.
- معالم وآثار المدينة التي تنتمي إليها الأسرة وأزقتها وشوارعها وحواريها وقصورها وبيوتها وطرز عمرانها وأثاث بيوتها، ووصف مكونات البيوت من الداخل، وأدوات الإضاءة التي كانت تستخدم قبل دخول الكهرباء ـ ومواقد الطبخ التي كانت تستخدم قبل البوتجاز، وكذلك استخدام الأواني الفخارية لحفظ وتبريد مياه الشرب قبل استخدام الثلاجة، وتتمثل هذه الآنية في الأزيار ( جمع زير) والشّراب ( جمع شربة) لحفظ ماء الشرب، وكيف كانوا يستخدمون الحنفيات لغسل أواني الطبخ والشاي والقهوة والأزيار(مفردها زير) والِشِراب الفخارية لشرب الماء، وذلك قبل مد المواسير إلى البيوت، وكذلك تسليط الضوء على بعض المصنوعات السعفية المتمثلة في المكانس والمراوح والقٌفف(الزنابيل) والحصِير والكراسي وغيرها، وكذلك بيان بالصور ماذا كان يلبس الرجال في الصيف والشتاء؟ وماذا تلبس النساء والعروس ليلة زفافها، وماذا كان يلبس الأطفال في الأعياد والأفراح.
- الكشف عن وثائق ومخطوطات متعلقة بالأسرة وتاريخ مدينتها لم يتم الكشف عنها، ولم يسبق نشرها.
- التطرق إلى تعليم المرأة في الحقب التاريخية المختلفة التي مرت بمدينة الأسرة، وذلك لأنّ أغلب المؤرخين يُعتِّمون على إسهامات المرأة المسلمة في بناء الحضارة الإنسانية من خلال إسهاماتها العلمية في مختلف العلوم، وأنّها كانت تتنقّل في المدن الإسلامية لتلقي العلم وتدريسه، وهناك عالمات مسلمات أجزن كبار العلماء الذين تلقوا العلم منهن، وبيان مشاركات النساء في تلقي العلم وتعليمه في مدينة الأسرة.
- بيان تفاصيل الحياة الاجتماعية في مدينة الأسرة بالتنقل بين أسوارها، وشوارعها وأزقتها وحواريها في العهود التاريخية التي مرّت بها.
- نظام الأسرة الكبيرة في مجتمع مدينة الأسرة في العهود التاريخية التي مرّت بها، ودور المرأة في المجتمع.
- ألعاب التسلية للأهالي واحتفالاتهم برمضان والعيدين.
- المناصب الإدارية والمهن الحرف التي كانت سائدة في المجتمع، من خلال بيان المناصب الإدارية التي تولّاها بعض أفراد الأسرة، وكذلك المهن والحرف التي زاولها بعض أفراد الأسرة، والحياة الأدبية والثقافية في العهود التي عاصرتها الأسرة إن كان من أفرادها أدباء وشعراء.
- لعل يأخذ الأحفاد من بعض الخصال المتفرقة في أجدادهم أنموذجًا حيًا للصفات الكريمة.
هذا ومن مصادر التاريخ الأسري، الآتي:
- قد يستند التاريخ الأسري إلى التاريخ الشفوي، من خلال وجود من عاصروا أحداثًا وشخصيات من الأسرة بعد مطابقتها بالأحداث المثبتة تاريخيًا، وقد أطلق مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة مبادرة صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة رئيس مجلس نظارة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة تهدف لتوثيق وتسجيل مرويات لبعض الشخصيات العلمية والاجتماعية والعملية بالمنطقة رجالًا ونساءً، وقد تمّ اختيار حوالي مائة شخصية من المدينة المنورة، وكنتُ من ضمن الشخصيات التي تم التسجيل معها، وكان هذا قبل حوالي ثلاث سنوات (سنة 2019م)، ونجد في موقع المركز الفيديوهات لبعض الشخصيات التي تم التسجيل معها ، وهي : أ. د. عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان، وشيخ طائفة مؤذني المسجد النبوي الشريف:الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الإله خاشقجي، والأستاذ دخيل الله بن عبد الله الحيدري(رحمه الله)، و معالي الدكتور نزار بن عبيد مدني، ونحن في انتظار البقية .
- كتب الرحلات الفردية، فهي تسلط الضوء على بعض التفاصيل من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في المدن التي يزورها، ويمر بها الرحالة في رحلته، مثل كتاب ” مرآة الحرميْن لإبراهيم باشا رفعت، فقد تناول فيه الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية منذ أن حرس المحمل في ستة 1318ه/ 19-1م، وأمير الحج في 1320ه/1903م، 1321ه/ 1904م، 1325ه/ 1908م، ونُشر عام 1344ه/ 1925م، وبيّن جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية في مكة المكرّمة والمدينة المنورة موثّقة بصور عن مبان وبيوت المدينة المنورة، وصور لكبار الشخصيات بهما يتبيّن منها ما كان يرتديه الرجال على اختلاف مهنهم وحرفهم؛ إذ حوى الكتاب على مئات الصور استفاد منها المؤرخون، منها صورة جدي أبو بكر محمد صالح حمّاد وهي يرتدي الكودبان لباس الخطيب يوم الجمعة بالمسجد النبوي في صفحة(472) صورة رقم ( 326 ) رسم محمد علي سعودي(مكتوب داخل الصورة نموذج كساء الخطباء بالمسجد النبوي الشريف) وكذلك كتاب:” حاج في الجزيرة العربية تأليف هاري سانت جون فيلبي(عبد الله فيلبي) وترجمة أ. د. عبد القادر محمود عبد الله، وقد زار عدة مدن، وكانت زيارته للمدينة فترة أمارة الأمير عبد العزيز بن إبراهيم للمدينة المنورة (تولى أمارة المدينة المنورة في العهد السعودي في الفترة من 1343 –1355ه)وكان عند زيارته المدينة المنورة قد نزل في قصر وبستان الفيروزية وقف جدي محمد حمّاد، وذكر فبلبي وصفًا لجزء من القصر في صفحة(72)،
- سرد السِّير الذاتية جزء لا يتجزأ من تاريخ المدن والبلاد من خلال سرد صاحب السيرة الأحداث والتعريف بالشخصيات التي عاصرها، وتعد مراجع تاريخية يرجع إليها المؤرخون مثل كتاب حياة والجوع والحب والحرب للأستاذ عزيز ضياء رحمه الله الذي وثّق ما تعرض له وأسرته، وأسر المدينة الذين رحلوا منها قسرًا في أواخر العهد العثماني في المدينة المنورة من مآسٍ فترة ” سفربرلك، وكذلك كتاب “ذكريات العهود الثلاثة ” للأستاذ محمد حسين زيدان رحمه الله، ومذكرات الشريف إبراهيم العيَّاشي، وغيرها.
- مكتبات الأسر التي تحتفظ بوثائق ومخطوطات تتعلق بها، وبغيرها، ولكن للأسف نجد بعض هذه الأسر تحتفظ بما لديها دون السماح للباحثين والمؤرخين الاطلاع عليها والاستفادة منها في توثيق أحداث هامة، وقد تتعرض تلك الوثائق للحرق، أو التلف، أو السرقة، ويُفقد معها جزءً من تاريخ بعض البلدان.
والذي أرجوه أن يهتم المؤرخون والمثقفون والباحثون بتوثيق تاريخ أمتهم وأوطانهم ومدنهم بالتاريخ الأسري والروايات الشفوية والسير الذاتية والمكتبات الأسرية لتوثيق أحداث لم يتطرق التاريخ إلى جوانب منه.
البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://www.al-madina.com/article/801960/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D9%88%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85