الثلاثاء, 1 يونيو 2010
قرار خادم الحرميْن الشريفيْن الضرب بيد من حديد على المتسببين في كارثة سيول جدة لا ‏يعني أنَّه خاص بهذه الكارثة، وإنَّما يعني إعلان الحرب على الفساد في جميع أنحاء المملكة، ‏وفي جميع القطاعات بلا استثناء.

 ونحن لو فتحنا ملف القطاع الصحي الخاص، نجد فيه الكثير من التجاوزات والمخالفات ‏لنظامي المؤسسات الصحية الخاصة وممارسة المهن الصحية، ورغم ثبوت تلك المخالفات ‏بالأدلة والوثائق واعتراف أصحابها، نجد حكم الهيئة الشرعية الصحية التي نظرت في قضية ‏وفاة الدكتور طارق الجهني ـ رحمه الله ـ نتيجة الكثير من التجاوزات والمخالفات المتعمّدة، ‏ممّا يحيل القضية إلى مرتبة القضايا الجنائية، لا يقضي على الفساد الإداري الموجود في هذا ‏القطاع، فصاحب المستشفى ومديرها العام قد خالف المواد (8)، و(10) والفقرة (1) من المادة ‏‏(11) من نظام المؤسسات الصحية الخاصة، ولتعدد مخالفاته التي تودي الواحدة منها بحياة ‏آلاف المرضى كنا ننتظر أن يُعاقب إلى جانب الغرامات المالية بإغلاق مستشفاه لمدة ستين ‏يوماً، وسحب الترخيص طبقاً لما جاء في المادتيْن (21)، (23) من نظام المؤسسات الصحية ‏الخاصة الذي لا يُعاد إلاَّ بعد سنتيْن، وسحب أيضاً علامة الجودة من المستشفى، ولكن للأسف ‏الهيئة الشرعية تجاوزت عن هذه العقوبة، مع أنَّ نتائج التحقيقات أثبتت وقوع إدارة المستشفى ‏في مخالفات وتجاوزات كبيرة مما يستدعي تطبيق عليها كل العقوبات الواردة في المادة ‏‏(21)، خاصة أنَّ المادة (23) تنص على: (يجوز بقرار من اللجان المنصوص عليها في ‏المادة (الخامسة والعشرين) كإجراء تحفظي إيقاف ممارسة النشاط محل المخالفة إذا وجدت ‏أدلة وقرائن قوية على وقوع مخالفات دل عليها التحقيق الأولي تكون عقوبتها في حالة ثبوتها ‏سحب الترخيص أو إغلاق المؤسسة الصحية، كما نجدها خفَّفت في حكمها على طبيبي ‏التخدير وجزأته على الطبيبيْن بينما مادة (28) من نظام مزاولة المهن الصحية لم تنص على ‏تجزئة الحكم على عدد المخالفين، ومرتكبي الخطأ الطبي، وكنا ننتظر أن تطبق عليهما ‏العقوبتان معاً، فقد نصت (على العقوبات التي توقع على‎ ‎الطبيب في حالة مخالفته لنظام ‏مزاولة المهن الصحية أو ارتكابه لأخطاء طبية، مع‎ ‎عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص ‏عليها في أنظمة أخرى، يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز‎ 6 ‎أشهر، وبغرامة لا تزيد عن 100 ‏ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من: زاول المهن الصحية دون ترخيص).‏
كما نجد الهيئة الشرعية تجاهلت تماماً المسؤولية الجنائية على صاحب المستشفى ومديرها، ‏ولذا جاء حكمها قاصراً وغير منصف، فصاحب المستشفى أقر كتابياً أنَّه الذي عيْن الأطباء ‏بدون ترخيص، وهو الذي عيْن ممرضاً بوظيفة طبيب تخدير، وطبيب الباطنة كطبيب عناية ‏مركزة، كما أنَّه هو الذي لم يوفر الأجهزة التي تحتاجها غرف العمليات كأجهزة تبريد الجسم ‏عند انقطاع الأكسجين عن المريض للحفاظ على الباقي من خلال المخ من التلف، وهو أيضاً ‏المسؤول عن عدم وجود لائحة تنظيمية للتعامل مع حالات السمنة المفرطة، ولمَ لم يعاقب ‏على جريمة التزوير التي ارتكبها لاستخراج تصريح لطبيبة التخدير بعد وفاة الدكتور الجهني؟ وبما أن‎ ‎المسؤولية الجنائية هي تحمل الإنسان لنتائج الأفعال التي ارتكبها وهو مدرك لها، -‏خاصة وأنَّه طبيب- غير‎ ‎مكره عليها وتعد مما يقرره القانون جريمة معاقباً عليها وفي ‏الشرع تعد المسؤولية‎ ‎الجنائية سبباً في إنزال العقوبة أو الحد على الإنسان الذي ارتكب فعلاً ‏مُحرّماً يستوجب‏‎ ‎الحد أو القصاص وهى تترتب على كل فعل يمس مصلحة الأفراد أو ‏الجماعات فإنّ مدير المستشفى مسؤول جنائياً وتأديبياً عن الأخطاء الطبية التي تُرتكب في ‏مستشفاه نتيجة مخالفته نظام المؤسسات الصحية الخاصة، وذلك طبقاً للمادة (32) من نظام ‏مزاولة المهن الصحية.‏
أمَّا عن الدية فإن كان تعويض الناقة النافقة قُدّر بمليون ريال بموجب حكم قضائي قضت به ‏المحكمة العامة في الخبر، وبما أنَّ دية النفس البشرية مائة من الإبل، طبقاً لقوله صلى الله ‏عليه وسلم (وفي النفس مائة من الإبل)، فتصبح دية الإنسان مائة مليون ريال.وليس مائة ألف ‏ريال، وإلاَّ كيف تكون قيمة الناقة بعشرة أمثال قيمة حياة الإنسان الذي كرمه الله على كثير ‏من خلقه؟؟
أمَّا التعويض المالي الذي طلبته أسرة الدكتور الجهني ورفضت الهيئة الصحية الشرعية النظر ‏فيه يعد مخالفة صريحة للفقرة (1) من المادة (34) من نظام ممارسة المهن الصحية الذي ‏نص على: تختص (الهيئة‎ ‎الصحية الشرعية) بالآتي : 1- النظر في الأخطاء المهنية ‏الصحية التي ترفع بها‎ ‎مطالبة بالحق الخاص (دية – تعويض – ارش‎(‎


فالهيئة الصحية الشرعية لم تحكم بأي تعويض لأسرة المتوفى عن الأضرار النفسية والمالية ‏لفقدها عائلها الوحيد، وقد تيتَّمت طفلتاه، وترملت زوجته، مع أنَّ النظام نص على كلمة ‏تعويض، وهذا لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، فإمكان قبول فكرة التعويض المالي عن ‏الضرر في إطار الفقه الإسلامي استناداً إلى:‏
أ‌- أنّ الشريعة قد أقرت التعزير عن الضرر الأدبي.‏
ب‌- في زماننا يكون التعزير بأخذ المال في الأضرار الأدبية والمعنوية أمضى في العقاب ‏وأحسن في تحقيق النتائج الأدبية. فليكن حق الله بالعقوبات الواقعة على الجسم والنفس على ‏حسب الأحوال وليكن حق العبد بفرض الغرامات المالية.‏
ج_ إنّ الديات والأروش ليست تعويضاً كاملاً، وإنما هي تعويض عن حق الحياة الذي يتساوى ‏جميع الناس في التمتع به. وهذا لا يمنع القول بأن ينال المجني عليه، أو أسرته تعويضاً مالياً ‏ينظر فيه إلى تعويض ما حدث، ويؤيد هذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من جواز زيادة ‏التعويضات المقدرة من الشارع بطريق التعزير إذا اقتضت مصلحة المجتمع ذلك، إذا لم يكن ‏تقديرها مانعاً من الزيادة عليها عندئذ، أنَّ التعويض يجب أن يكون عن ضرر مالي يتمثل في ‏فقد مال كان قائماً وذلك ما لا يتحقق غالباً في الأحوال التي تجب فيها الديات والأروش وهذا ‏ما تقضى به نظرية الضمان في الفقه الإسلامي ولكن إذا أمكن إقامة الضمان على نظرية ‏أخرى هي تخفيف الألم عن المصاب، وإرضاء نفسه أو أسرته واعتلال الغل والحقد من قلبه ‏وذلك ما يقوم به المال يدفع إليه إرضاءً له أمكن حينئذ على هذا الأساس القول بجواز ‏التعويض عن ضرر لم يلاحظ في فرض الدية وتقديرها.‏
وممَّا ينبغي وضعه في الاعتبار بأنَّ متطلبات الحياة وحقوقها وواجباتها وتكاليفها قد ‏تضاعفت مما جعل غالب الناس يعيشون من عملهم وكان ضرر الجريمة لا يقف عند ‏الأضرار الجسمانية أو النفسية بل كثيراً ما يتجاوزها إلى أضرار مادية تحول دون العمل ‏وكسب المال مما كان متوافراً للمجني عليه أو أسرته من قبل فقد عائلها، وفي مثل هذه ‏الأحوال قد يرى من العدل أن يكون لمن أصابته تلك الأضرار أن يطالب بتعويض عنها ‏فوق ما يعطاه من الدية). [ بتصرف من بحث التداخل بين الدية والتعويض للقاضي ‏الشرعي الدكتور محمد عبدالجواد النتشة رئيس محكمة جنوب عمان الشرعية، والبحث ‏مقدم للمؤتمر القضائي الشرعي الأردني الدولي الأول]‏ وإنَّني على ثقة بأنَّ هذه الحقائق لن تغيب عن ديوان المظالم عند النظر في هذه القضية، ‏وأمثالها.‏
المصدر جريدة المدينة : رابط المقال http://www.al-madina.com/node/251942 

الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد
 suhaila_hammad@hotmail.com

Leave a Reply