د. سهيلة زين العابدين حمّاد
الثلاثاء 18/10/2016م

نُشرت هذه الخاطرة في جريدة المدينة العدد 5854 الصادر في يوم الأحد 30 جمادي الثانية سنة 1403هـ ، الموافق 14/ 4/ 1983 م ، كتبتها بعدما ترك الأستاذ أحمد محمد محمود رئاسة تحرير جريدة المدينة الذي  كان حريصًا على النشر الأمين لمقالاتي، ولكن بعد تركه لجريدة المدينة تعرّضتْ مقالاتي لكثير من الحذف والتغيير، وكان هذا يؤلمني ، وعبّرتُ عن آلامي  ـــ آنذاك ـــ بهذه الخاطرة.

أيهذا الشبح المميت ماذا تريد مني ؟

 لماذا تلاحقني ..تطاردني؟
لماذا تريد هلاكي والقضاء على حياتي؟
كلما تمر الأيام أراك تدنو مني ،بل أحس الآن بثقل قيودك التي لففتها
حول فكري …إنَّك تخنقه …تحبسه …تكتم أنفاسه…تئده مع أنَّه لا يزال ينبض
بالعطاء، لم يتمم بعد رسالته، ولم يحقق غايته ، فلديه الكثير الكثير، بل إنَّه
الآن والآن بالذات، وبعد أحداث صبرا وشاتيلا في لبنان الوضع يتطلب من كل حامل فكر
إنسان التأمل في ما آل إليه وضع المسلم ، وما أضحى عليه من ذل وهوان، فبعدما رأى
كرامة المسلم قد داستها أقدام أهل الكفر والطغيان يريد أن يسهم ـــ على قدر
استطاعته ــــ لينتشل الإنسان المسلم من كبوته ،وليوقظه من غفوته لتعود إليه
مقومات شخصيته التي مسخت وذابت في خضم الشعارات الزائفة المهلكة فلم يعد للشخصية
الإسلامية وجود يذكر…وهذا ضاعف آلامي وأحزاني .
آهٍ لو تعلم كم من الآلام التي سببتها ببعثرتك لفكري، وحبسك له!
آهٍ لو تعلم كم من الدموع التي ذرفتها عيناي وهي تنظر إلى كتبي ـ وأنا
أمسح عنها كل ذرة تراب تمسها ـ لامحة نظرات العتاب لي وكأنَّي بها تحاورني معاتبة
لي قائلة: أين أنتِ منا؟
أو نسيتِ تلك الليالي الطوال التي قضيتها بيننا فلم يعرف النعاس طريقه
إلى عينيك ، وأنتِ معنا فإن طلع الفجر وانطلق الآذان في الأجواء تركتنا غصبًا وكرهًا
لا مللًا ولا ضجرًا ،فما الذي طرأ عليك ؟ وماذا حدث لك؟
وأجيبها بقلب محترق وحزن مكثف، وألم مبرح :
لا لم أنس كل ذلك ..كيف أنسى أجمل ساعات عمري ، وأسعد لحظات حياتي ، بل
هي كل حياتي ..ولكنهم وأدوا فكري ..ضيَّعوه …تاه فلم يتبينوه ..اغتالوا روحه، ولستُ
أدري ماذا جنيت ؟ ما الذي اقترفته ؟ لستُ أدري؟
فأنا لم أسء إليهم : ولا أفكر قط في الإساءة إلى أي إنسان حتى ولو
أساء إليَّ .
فأنا أعيش الآن بينكم بفكر قد وأدوا روحه بعد أن دُسَّت بين أكوام التراب،
ولا أريد أن يمسكن التراب، ولهذا كان حرصي أن أمسح عنكم كل ذرة تراب تصيبكم فأنتم
زاد فكري، ولا أحب أن يغمر زاده التراب ،كما تراكم على روحه التراب.
يا قاتلي ألا تعلم أنّ للفكر روحًا كما للجسد روح وأنَّك في مقام
الطبيب؟
الطبيب مسؤول عن روح الجسد، وأنت مسؤول عن روح الفكر، فإذا أهملت هذه
الروح تكون قد أطفأت فيها كل شعلة إبداع، قتلت فيها كل روح عطاء، وحكمت على صاحبها
بالفناء … فالفكر ليس كالكرة يتقاذفها اللاعبون … هنا وهناك وتدوسها الأقدام
..إنَّ الفكر يجب أن يُكرم ويُصان ،ولا يُداس بالأقدام.
 لا تتعجب لهذا القول ، فكما
يبدو أنَّنا مختلفان في مفهومنا لحياة الإنسان فأنت ـــ كما يبدو لي ــــ ترى حياة
المرء في قلبه النابض، وجسده المتحرك ، بينما أرى حياته في فكره المتوقد ، وهذا ما
يميزه عن سائر الكائنات الحية ، فالإنسان في نظري حي مادام فكره خيرًا بناء معطاء  وهو ميِّت إن كان فكره عاطلًا خاملًا ؟
فعطاء الفكر هو الذي يكتب للإنسان خلودًا ، وحياة رغم مرور مئات
السنين ، بل ألوفها على فناء جسده : أمَّا عطاء الجسد فهو يفنى ويزول .. ما الذي
جعل ابن خلدون ، وابن سيناء ،ومالك بن أنس ،وأحمد بن حنبل، وغيرهم كثر يعيشون
بيننا كل هذه السنين ؟
أهو عطاء الجسد أم عطاء الفكر ؟
 عطاء الفكر أن نعرف ابن خلدون
من خلال مقدمته ، وابن سيناء من خلال أبحاثه ودراساته ، ومالك بن أنس من موطأه ، وأحمد
بن حنبل من مسنده وغيرها كثير.
أو تدري ما هو سر فناء عطاء الجسد، وخلود عطاء الفكر؟
لأنَّ عالم الفكر لا يؤمن بالماديات كعالم الجسد.
 فعالم الجسد يُمجِّد الجمال
المرئي المحسوس : ويجنِّد كل طاقاته وغرائزه للحصول عليه سواءً كان هذا الجمال
يتمثل في إنسان أو حيوان ، أو نبات أو جماد : قد يبيع نفسه : ويفقد ضميره : وينسلخ
من آدميته وإنسانيته : فيسفك الدما ، وينتهك الأعراض ؟
ويسلب الأموال: ويشعل النيران في سبيل امتلاك هذا الجمال والاستحواذ
عليه.
 أمَّا عالم الفكر الخيِّر، فإنَّه
عالَمٌ روحانيٌ ،عالَمٌ لو غُصتَ في أعماقه فلا تجد فيه إلاَّ الحب والخير  وإفناء الذات في سبيل نشر الخير على مَن يُحب
..عالَمٌ لا يعرف الحقد والكراهية والأثرة والأنانية ..إنَّه لا يتعامل بالنقود ، وإنَّما
يتعامل بالعقول ، عملته المتداولة هي العقل والمنطق خزائنه وكنوزه هي الكتب
والمكتبات لا البنوك والمصارف التي هي خزائن الجسد ، وشتَّان بين عُملة الفكر
وخزائنه وكنوزه !
وهذا سر من أسرار خلود الأخير وفناء الأول.
 إنَّ لكل من الجسد والفكر
رياضه..
فرياض الجسد تتطلب منك التنقل والترحال وركوب البحار بحثًا عنها في كل
مكان … بينما رياض الفكر تستطيع التجول فيها وقتما تشاء، وأينما تشاء دونما
تحتاج إلى ركوب مطية، ولا إبراز هوية.. وهي إلى جانب هذا لا تعترف للزمان وجودا ؛ إذ
تستطيع فيها اختراق حاجز الزمن، فإن كنتَ بالأمس قد تنقلَّت في رياض الفكر قبل
ألفي عام تستطيع اليوم أن تنتقل في رياض فكر هذا العالِم ، بل تستطيع هذا في طرفة
عين ، فهي تملك بساطًا سحريًا يخترق الأماكن والأزمان ، وُيعرِّفك بأمم وحضارات
وعلوم وثقافات : ورياض الفكر كثيرة ومتعددة بعضها شائك مليء بالمنحيات والمنعطفات
،ولا تستطيع التجول فيها، والنجاة من حفرها وأشواكها ومنحنياتها ومنعطفاتها إلاَّ
إذا كنتَ مزوداً بزاد التقوى والإيمان بالله ، فهو الزاد الذي ينجيك من المهالك، وينقذك
من المخاطر، ويجعلك تميز بين الأصل والزيف، فلا يأخذك بريق الزائف ، ويصرفك عن
لمعان الأصل.
 ومتعة الجسد ليست كمتعة الفكر.
فمتعة الجسد قوامها الأنانية، وحب الذات ، أمَّا متعة الفكر فقوامها
التضحية وإنكار الذات، وهذا سر آخر من أسرار فناء الأول ، وخلود الأخير.
 والجسد ينتشي عندما يشم عبير
الزهور، وأريج الورود وشذا العطور، ويطرب عندما يسمع هديل الحمام ،وتغريد البلابل
، وغناء الكروان ، وشدو الطيور… ويسعد عندما يرى أمواج البحار تدفق المياه،  والأغصان متمايلة والثمار ناضجة .. في هذه
الرياض يجد الجسد نزهته ونشوته وسعادته .. إنَّها رياض كالزمان لا تدوم على حال
فهي متقلبة الأحوال، فتارة تجدها خضراء نضرة مزهرة مثمرة ..وتارة أخرى تجدها صفراء
شاحبة ، وثالثة تجدها هشة متساقطة ، ورابعة جامدة غير متحركة.
 أمَّا الفكر البنَّاء الخيِّر
فإنَّه يجد نزهته ونشوته في رياض لا تعرف للخريف والشتاء وجودًا، إنَّها في ربيع
دائم ،وأعني بها رياض الفكر الإسلامي التي أشجارها كتاب الله وفروعها شرع الله ، وأنهارها
كلام الله ، وثمارها سنة رسول الله ، وعمل وعِلم أصحابه ، ومن اهتدوا بهديهم ، وروَّادها
من أحبُّوا الله ، ويجد سعادته في إعلاء كلمة الله ، وإحقاق الحق، فهذه الرياض يشع
بين أرجائها نور الله، إنَّه نور الله، إنَّه نور على نور لا يضاهيه نور من استظل
بظلها، واهتدى بنورها، وتغذى بثمارها كان سعيد الدَّارين.
في هذه الرياض وجدتُ نفسي وسعادتي فلقد استظليتُ بظلِّها، وارتويت
بمياه أنهارها ، واهتديتُ إلى طريقي بأنوارها، وتغذيَّتُ على ثمارها، ونشأتُ في
رحابها، انظر: إنَّها تناديني ! فلماذا تقف في طريقي؟ لماذا تريد حرماني من التنزه
فيها؟
  هنا حياتي في العيش بين أرجائها، والاستنشاق من أجوائها،
والتنفس بهوائها، وسعادتي في دعوة الناس إلى ارتيادها، والاستظلال بظلها، والتغذي
على ثمارها.
فيا قاتلي لا تحسبنَّ أنَّك حابسي!
فلن تستطيع حبسي عنها ومنعي من الغوص في أعماقها، والعمل على الإكثار
من روادها …فإن نصَّبت نفسك حارسًا على باب من أبوابها، فاعلم أنَّ لها أبوابًا
لا تملك مفاتيحها، ولا تدرك مغاليقها…



Leave a Reply