لا … لفرض الوصاية الدينية على الآخرين
     بقلم د. سهيلة زين العابدين حماد
لقد تتبعتُ باهتمام بالغ حلقة برنامج البيان التالي التي استضافت فضيلة الدكتور راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة التونسي بمناسبة فوزه  في أول انتخابات للمجلس التأسيسي الوطني التونسي.

والذين يعرفون الدكتور الغنوشي يشهدون له بالوسطية والاعتدال والمرونة ، فقد فهم الدين الإسلامي الفهم الحق مجردًا من التقاليد ، وكما ذكر ذلك بنفسه عند حديثه عن نقطة التحول في حياته ، حيث قال : ” كانت ليلة 15 يونيو حزيران   1966 نقطة التحول في حياتي ..، خلعت فيها عني أمرين، القومية العلمانية والإسلام التقليدي في عملية واحدة، ودخلت في الإسلام الأصلي، الإسلام كما تلقيته من مصدره الأصلي: الوحي، لا كما صنعه التاريخ وصنعته التقاليد. وفاضت على نفسي موجة عارمة من الإيمان والحب والفرح والإعجاب بهذا الدين”.

 رجل لا يريد أن يرى في مجتمعه منافقون يؤدون فرائض دينهم بالإكراه والقوة ، والله جل شأنه يقول : ( لا إكراه في الدين ) وقد رأى بنفسه عندما كان طالبًا في جامع الزيتونة  فمن بين حوالي ثلاثة آلاف طالب كانوا يدرسون في جامع الزيتونة في مرحلة متأخرة لم يكن يؤدي الصلاة غير ثلاثة أو أربعة طلبة. تلك كانت الحال والتعليم عربي إسلامي. كان لجامع الزيتونة أبواب تفتح على الأسواق، وكان التجار يعرفون موعد صلاة العصر عندما يخرج الطلبة إلى صحن الجامع ليدخنوا، فكان ذلك مؤشراً على وقت صلاة العصر، فيغلق التجار دكاكينهم مسرعين إلى أداء الصلاة، بينما يكون طلبة العلوم الشرعية يدخنون ويمزحون، وما ذلك إلا بسبب تخلف العلوم الدينية ومناهج تدريسها.
وقد رأى بنفسه أن الشعب التونسي شعب متدين بفطرته ، ورغم كل الموانع والأنظمة والقوانين التي تحول بينه وبين أداء شعائر دينه، فعندما أعطيت لهذا الشعب فرصة الانتخاب الحر، انتخب حزب النهضة الإسلامي ، لأنه تواق أن يعيش في حمى الإسلام الوسطي المعتدل الذي يمثله حزب النهضة بزعامة المفكر الإسلامي فضيلة الدكتور راشد الغنوشي ليهيء له أجواء الحرية ليمارس شعائر دينه بحرية عن إيمان واقتناع ومحبة للخالق طمعًا في رضاه وأجره وثوابه  بعدما حُرم منها نصف قرن ، وليس بفرضها بالعصا والجَلْد والملاحقات ،مما سيؤدي إلى إيجاد فئة من المنافقين الذين يؤدون شعائر دينهم ليس خوفًا من الله ، ولكن خوفًا من السلطة الدينية التي تفرض عليهم أداء شعائرهم الدينية بالقوة ، ففرض الدين بالقوة ليس هو بمنهج الإسلام ، وصحيفة المدينة خير مثال على ذلك ، وهي أول دستور مكتوب في العالم، وأولى الوثائق النبوية في المدينة، وكانت بمثابة أول دستور إسلامي  الذي قرر بوضوح تام مبادئ المسؤولية السياسية والاجتماعية، وهذه الصحيفة نظمت العلاقة بين سكان المدينة آنذاك من مسلمين ومشركين ويهود . 
   هذا ويوجد في الشعب التونسي مختلف الأيدلوجيات ، ولن تقبل فرض الدين الإسلامي عليها، والشيخ الغنوشي  أدرى بشعبه وأحوالهم ، والمنهج الذي يُتبع لإصلاحها” فأهل مكة أدرى بشعابها” ، والشعب التونسي  شعب متدين محب لدينه ، وعندما زرت تونس قبل ست سنوات للمشاركة في أحد المؤتمرات  رأيتُ الكثير من التونسيات المحجبات رغم حظر الحجاب عليهن ، وعندما سألتُ أصحاب بعض المكتبات التي اشتريتُ منها بعض الكتب عن أكثر الكتب شراءًا ، قالو لي الكتب الدينية، والتقيتُ في القطار ،وأنا في طريقي إلى مدينة سيدي بوسعيد كانت تجلس بجواري سيدة تونسية محجبة   ومعها أطفالها سألتها ماذا يدرسن ،فقالت لي يحفظن القرآن الكريم في مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم  إلى جانب دارستهن، لذا فأنا لا أشك في أن من تبنوا أيدلوجيات علمانية وليبرالية ويسارية سيعودون إلى حضن دينهم بالمنهج الوسطي المعتدل المرن الذي سينهجه فضيلة الدكتور الغنوشي ، لكن إن اتبع أسلوب العصا والملاحقات والإجبار على أداء الفرائض فسينفر الكثير من هذا الدين ، وينفضون من حوله ،وسيثورون على حزب النهضة ،ويخرجونه من الحكم، وقد قالها سبحانه وتعالى لرسوله الكريم ( لوكنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك)  فأنا اتفق مع فضيلة الدكتور الغنوشي في منهجه الذي اتبعه وسيتعبه في بلاده، وقد ساءتني كثيرًا   محاولات   فضيلة الدكتور محمد السعدي ، والدكتور سعد البريك فرض الوصاية الدينية على حركة النهضة التونسية بفرض نموذجهما عليها، ومطالبتها التعامل مع الشعب التونسي بفرض الشريعة الإسلامية بمفهومهما لها، وكأنه النموذج الأمثل في إيجاد مجتمع الفضيلة الخالي من ارتكاب الفواحش والمحرمات، المنهج الذي يحرم الحلال بدعوى سد الذرائع، فوسع دائرة الحرام ،وضيق دائرة الحلال ، بل وجدتُ فضيلة الدكتور السعدي شطح في كلامه حتى كاد أن يفرض على الشيخ الغنوشي ماذا ينبغي أن يقوله عندما أشار إلى لقاء الدكتور الغنوشي في قناة الجزيرة.
  والذي أريد قوله : لماذا يريد البعض أن يسير كل الناس على نهج بعينه، وأن يفكروا مثل ما يفكر هذا البعض، وإن خالفهم الرأي بات أقرب إلى العلمانية ، و كأن العلم بالدين الإسلامي وقفًا على فئة بعينها؟
  وأشارك  فضيلة الدكتور سلمان العودة في تفاؤله بحركة النهضة ، وأنها ستقدم نموذجًا إسلاميًا فريدًا سينقل تونس في غضون سنوات قليلة إلى عصر العلم والتكنولوجيا بسيادة العدل والديمقراطية، والحقيقة أن مداخلته ومداخلة الدكتور محمد الأحمري أحدثت توازنًا في مداخلات الحلقة، وأحيي فضيلة الدكتور الغنوشي على هدوئه ،وعلى التزامه بما وعد وبه ، وعدم ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة، وترك الدفة ليديرها الشباب الذين أشعلوا  جذوة ثورة الربيع العربي، ونقل تونس من عصر الدكتاتورية إلى عصر الديمقراطية، ، وهذا دليل على إخلاصه لدينه ووطنه وأمته ، وأنه يعمل من أجلهم ،وليس من أجل الوصول إلى السلطة. كان الله معه ،وفي عونه ، ومع وفي عون الشعب التونسي.
البريد اليكتروني : suhaila_hammad@hotmail.com



Leave a Reply