د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نَشِر في جريدة المدينة الأسبوعية في 2 ديسمبر 2022م.
الحوار بين الآباء والأولاد( بنين وبنات) حق من حقوق الأبناء لأنَّه ضرورة لُغوية ودينية وتربوية وخلقية واجتماعية ونفسية وإبداعية وأمنية، ويحميهم من الانزلاقات العقدية بالانتماء إلى الجماعات الدينية المتطرفة التي قد تكلفهم بعمليات إرهابية، منها عمليات انتحارية، ويحميهم أيضًا من السقوط في هاوية الإلحاد ، أو في مستنقع إدمان المخدرات.
فالحوار ضرورة لغوية لأنَّه يعمل على تشغيل وتنشيط جهازي السمع والنطق لدى الوليد وهو في مهده، والإكثار من مناغاته، والتحدث إليه في مرحلة تعلمه الكلام .
- تحدثوا إلى أطفالكم بلغة سليمة ،مع عدم تقليده في نطقه للحروف، وعدم تشجيعه على النطق غير السليم للحروف.
- الاهتمام بتحفيظ أطفالكم القرآن الكريم مجودًا لتدريب فكاكهم على نطق الحروف نطقًا سليمًا، وإخراج كل حرف من مخرجه السليم، فحفظ القرآن الكريم يُقوِّم اللسان والسلوك معًا.
- أحرصوا على تعليم أطفالكم لغة الكلام، وأن لا تتركوا هذه المهمة للمربيات والخادمات الأجنبيات اللاتي لا يُحسن التحدث بالعربية، وإنَّما يتحدثن بلغة غريبة ، لغة جديدة بها عجمة ، وأخطاء في نطق جميع الحروف، أو معظمها.
- عند حديثكم إلى أطفالكم عليكم أن تحرصوا على عدم التلفظ بألفاظ نابية أمامهم، أو سبهم، أو شتمهم لئلا يلتقطوا منكم هذه الألفاظ فيرددونها.
أثناء الحوار مع طفلكما عليكما أن تهتما بتصحيح عيوب النطق والكلام لديه بتدريبه على النطق الصحيح، وتحفيظه القرآن الكريم، وإن تأخر في النطق، أو توجد لديه عيوب في الكلام لابد من علاجه في المراكز المختصة بذلك.[ سهيلة زين العابدين حمَّاد.تنمية المهارات اللغوية لدى الطفل ،من ضمن بحوث كتاب ” مالا نعلمه لأولادنا” ،ص 167،168،مركز الراية للتنمية الفكرية.ط1. 1423هـ/ 2003م.]
فالحوار مع أطفالنا ضرورة لغوية لأنَّه عن طريق هذا الحوار يكتسب الطفل اللغة، واكتساب اللغة أمر ضروري؛ إذ يساعد على فهم رغبات الآخرين، كما يساعد على مد الطفل بثروة من المعلومات عن العالم المحيط، والتي لن يحصل عليها دون فهمه واستخدامه للغة، كما تساعده اللغة على التعبير عن أفكاره وحاجاته ورغباته .
كما أنّ حوارنا مع أبنائنا ضرورة في بناء هُويتهم ، لأنَّ بناء هُوية الطفل يقوم على ثلاث أسس، هي:
1-تحديد الهُوية “من أنا ؟”
2- تحديد الانتماء “أشبه من أنا ؟ لمن أنتمي؟”
3- تحديد القدوة، أو المرجعية “من اتبع؟”
ويرسم تحديد الهُوية العلاقاتُ الأولى للإنسان، وترسي له التوازن في خطوات تعامله مع الآخرين، ونحن العرب هويتنا “العروبة ” منا مسلمون، ومنا مسيحيون، ونحن كعرب على اختلاف أدياننا، فجميعنا أصولنا وجذورنا واحدة، والمسلمون منا هويتهم الإسلام والعروبة، والقرآن الكريم حدد هُوية المسلم في قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمين * لا شريكَ له وبِذلِكَ أُمرتُ وأنا أوَّلُ المسلمين[الأنعام : 162،163]
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤولية الأبوين في تشكيل الهُوية، فيقول: ” كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه، أو ينصرانه)
فتحديد الهُوِية، والتمسكُ بها، والاعتزازُ بها سيعطي توازناً للطفل طوال حياته، ويجعل له هدفًا يسعى من أجله، وهو تعزيز هذه الهُوية وتأكيدُها والافتخارُ بها، لأنها تمثل كيانه ووجوده وانتماؤه، وبدونها يعيش في ضياع قاتل، وعليه أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة من أجل أن لا يسيء إليها، بل يكد ويكافح لتتبوأ مكانة عالية بين الهُويات الأخرى.
وتحديد الهُوية ينبغي أن يتسم بالوضوح الذي يقتضي منا العمل لإشادة العلم الصحيح، وبناء القلب السليم بالتربية، وإعطاء القدوة الحسنة من أنفسنا، وتوفير البيئة التي تُعين على تبلور تلك الأمور.
وواقعنا المرير للأسف الشديد، يبيِّن لنا أنَّ هناك قصورًا منا في تحديد الهوية ووضوحها، فلم نقدم لأولادنا العلم الصحيح، ولم نحسن تربيتهم ليكون بناء قلوبهم سليمًا، ولم نكن في كثير من الأحوال تلك القدوة الحسنة، ولم نوفر لهم البيئة التي تعين على بلورة ما يتلقونه منا، بل بالعكس نحن وفرَّنا لهم البيئة التي تسلخهم من هُويتهم التي اكتسبوها من عيشهم معنا في مجتمعاتنا. نحدثهم بلغة أجنبية، ندخلهم مدراس أجنبية، نذهب بهم إلى مطاعم أجنبية، نلبسهم لبسًا قد يكون مطبوع عليه أحرفًا أجنبية، بل أحيانًا يكون مطبوع عليها أعلامًا لدول أجنبية معادية لنا، جعلنا من التلفاز جليسهم يلقنهم ما يريد مبثوا برامجه دون توجيه منا، دون إيجاد لديهم الحس النقدي ليقوموا ما يرونه، فيرفضون ما لا يتفق مع قيمهم ودينهم وأخلاقياتهم التي ربيناهم عليها، ويأخذون منها ما يفيدهم وينمي معارفهم ومداركهم، وضعنا حواجز بينهم وبين خالقهم، حاجز يقوم على التخويف والترهيب، “الله سيعذبك”، “الله سيحرقك في جهنم”، لم ننشئه على محبة الله، لم نجعل علاقته بخالقه علاقة حب، فيعمل على إرضائه لأنًه يحبه، قبل أن يخاف من عقابه، فالإنسان إن أحب إنسانًا يسعى لإرضائه، فما بالكم إن أحبَّ خالقه، نعلمه أن الله معه، ناظر إليه، شاهد عليه، فمن يتربى على هذا لا يعصي خالقه.
نحن بالغلو والتطرف، وتفسير الدين وفق أهواء وعادات وتقاليد وأعراف جاهلية، وإلباسها لباس الإسلام أوجدنا هوة بين أولادنا وبين دينهم، أصبحوا يعتبرون تطبيق الشريعة الإسلامية كارثة مأساوية، لأنًنا أسأنا تطبيقها، نسبنا كل المحرمات، وكل ما نريد نحن أن نحرمه إلى الإسلام، فمن شبابنا من كره الإسلام، وبالأخص بناتنا اللواتي يعتبرن الإسلام يحرمهن من كل ما يتمتعن به من حقوق، وأنَّ تطبيق الشريعة الإسلامية يعني الحكم على المرأة بالحبس والقهر والضرب والجهل.
فحفاظنا على هُوِيتنا العربية والإسلامية يكون بتمسكنا بديننا، بعروبتنا، بلغتنا، واللغة العربية الآن تتعرض لعملية هدم كبرى من خلال مشروع أمريكي تحت مسمى تحديث الثقافة العربية، ويتضمن هذا المشروع الدعوة لكتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية بدعوى أنَّ حروف العربية المائلة تربي العنف في صغارنا، ومبررات أخرى ساذجة تستهدف اللغة العربية، لأنها لغة القرآن، فإذا تمكنوا من القضاء على العربية يتمكنون من القضاء على القرآن الكريم حيث فشلت كل محاولاتهم للنيل منه، من هنا علينا أن نحافظ على لغتنا، وعلى تعليمها لأولادنا لنحافظ على قرآننا، وعلى هويتنا.
أمَّا من حيث فرض على أطفالنا الثقافة التي نريد دون مراعاة رغباتهم واحتياجاتهم وقدراتهم، وهذا ما جاء نصه في المادة الثالثة عشر ببنديها الأول والثاني في اتفاقية حقوق الطفل:
1- أن يكون للطفل الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أي اعتبار للحدود سواء بالقول، أو الكتابة، أو الطباعة، أو الفن، أو بأية وسيلة أخرى يختارها الطفل .”
2- يجوز إخضاع ممارسة هذا الحق لبعض القيود بشرط أن ينصَّ القانون عليها، وأن تكون لازمة لتأمين ما يلي: أ – احترام حقوق الغير أو سمعتهم. ب – حماية الأمن الوطني، أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الآداب العامة.[ بسيوني. د. محمود شريف (1426ه/2005م] الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان
ومن خلال تقرير نتائج ورشة عمل تحضيرية شارك فيها أطفال من عدد من الأقطار العربية (الأردن، الإمارات العربية المتحدة، تونس، سوريا، فلسطين، قطر، عُمان، لبنان، مصر، اليمن)، نظمها المجلس العربي للطفولة والتنمية ضمن برامج مؤتمر الطفل العربي في مهب التأثيرات الثقافية المختلفة الذي عقد في الإسكندرية في الفترة من 25-27 سبتمبر عام 2005م، وأعمارهم تتراوح من 6 سنوات، و8 سنوات، و10 سنوات،و13 سنة، و14 سنة، 17سنة، و18 سنة، أكدت عدم تمتع الطفل العربي بحقوقه الثقافية، وأنَّ مصادر ثقافتهم الإعلام في المقام الأول، يليه اللعب، أما الكتاب فيحتل المرتبة الثالثة. واختفى دور الأسرة كمصدر ثقافي للطفل، وهذا يعني تقاعس الأسرة، أو تراجع دور الأم والأب كمصدر ثقافي، بل نجده مختف كدور الموجه والمعلم في عملية التلقين الثقافي لأطفالهم، كما نجد عدم ذكر للمدرسة كرافد ثقافي لأطفالنا.
أيضًا نلحظ من خلال قراءتنا لهذه النتائج عدم رضا أطفالنا وقناعتهم بما يقدم لهم التلفاز من برامج موجهة إليهم، وأيضًا نجدهم يطالبون بزيادة المواد المطبوعة كمًا وكيفًا، أي أنَّهم غير راضين أيضًا على ما يقدم لهم من مواد مقروءة، ونجدهم أيضًا غير راضين عن التعليم الذي يتلقونه طرقًا ومنهجًا.
عدم الرضا هذه يؤكد لنا أنَّنا نسير في وجهة، وأولادنا يسيرون في وجهة أخرى، لم نقدم لهم ما يشبع رغباتهم واحتياجاتهم وقدراتهم، وما يتناسب مع العصر الذي يعيشونه، لازلنا نخاطب طفل اليوم بنفس الطريقة التي نخاطب بها الطفل في الثمانينات من القرن الماضي، لابد أن نلاحق التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، وأن نتعامل مع أطفالنا وفق قيمنا ومبادئنا وديننا، ولكن دون أن نتجاهل الطور والزمن الذي يعيشونه، لابد أن نعمل من أجل أن يحافظوا على دينهم و هويتهم ولغتهم وقيمهم دون أن نعزلهم عن العالم المحيط بهم، أن نعلمهم كيف يتعاملون معه، وكيف يًرسلون، ولا يكونون المتلقين فقط، وماذا يقبلون مما يتلقونه، وماذا يرفضون مما يتلقونه؟
والسؤال الذي يطرح نفسه : كيف يكون الحوار مع أطفالنا ضرورة تربوية؟
لأنَّ بالحوار أولاً تقوم التربية الروحية والخُلقية والعقلية والوجدانية والاجتماعية.
وسأتوقف هنا عند على ماذا تقوم التربية الروحية؟
تقومُ التربية الرُّوحية على ترسيخ حبِّ الله في قلوب الناشئة حبًا يجعلهُم يحرصون على إرضائِه في كلِّ أقوالهم وأعمالهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم والاجتناب عن كل ما يغضبه، فالإنسانُ إذا أحبّ إنسانًا يسعى لإرضائه، وعدمِ إغضابِه، فما بالكم إن كان الحبيب هو الله الخالق جلَّ شأنه؟
وبذلك يتبيَّن لنا أنَّ مفهوم التربية الروحية الصحيحة مستمدٌا من الإيمان والعمل، والعقيدة والأخلاقِ ،والموازنة بين مطالبِ الدُّنيا والآخرة بلا إفراط ولا تفريط، فالتربية الرُّوحية السليمة هي التي ترسم المعيارَ الصحيح لتنمية مختلف جوانب الشخصية الإنسانية تنمية شمولية، فهي مصدر هداية العقل، بالإيمان بالله عزَّ وجل وتوحيدِه وصفاءِ النفس بسكينتِها وطمأنينتِها، وتزكيةِ الأخلاقِ بالتحلي بالفضائلَ والقيم والمثلِ العليا، وطهارةِ الأبدان باستعمال أعضائها وجوارحِها في حقِّها وصونِها من المعاصي والفواحش وتسخيرها للعبادة وأعمال الخير النافعة للفرد والجماعة، وحسن العلاقة الاجتماعية مع الآخرين بالتكافل والتآزر والتعاون على البر والتقوى.
وبذلك تكون التربية الروحية حقًا عماد التنشئة المتكاملة، وبدونها لا يستقيم بناء الشخصية الإنسانية التي تصبح معرَّضة في كل وقت للخللِ والاضطراب نتيجة لأبسط الهزات، وأهون الأزمات.
البريد الالكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://www.al-madina.com/article/817100/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%AD%D9%81%D8%A7%D8%B8%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%83%D9%85-%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A7-%D9%85%D8%B9%D9%87%D9%85-