الواقعية السحرية
بقلم د. سهيلة زين العابدين حمّاد
خاص لقراء وقارئات المدونة الأعزاء
يُعرِّف الدكتور صلاح فضل الواقعية السرية في كتابه “الواقعية في الإبداع الأدبي فيقول: ” الواقعية السحرية هي الاندفاع في مجال إغراق الخيال حتى تخرج عن نطاق خصائص الواقع الملموس لتجسيم مواجهة الإنسان للظروف المحيطة به ؛إذ لا تكتفي في جوهرها بالتحليقات الخيالية التي تنتهي إلى تحويل الواقع وتحليله إلى علاقات غير عادية ، ولا مألوفة ، ولكنها تعثر في نفس هذا الواقع على أشكال تبدو وكما لو كانت حُلماً لا يمت بأية صلة للعنصر العادي المألوف ،وبهذا تعمل على أن يعيش الخيال المغرق في الواقع نفسه ،فتكمل لها الدورة الخيالية ،وتكون عالماً جديداً توقد في داخله المظاهر الموضوعية للواقع جنباً إلى جنب مع لب الأسطورة الخرافية ، فالأعمال الأوربية وفق الواقعية السحرية تعبر عن رؤية كونية سحرية للعالم ، رؤية لا تاريخية تمحى فيها الحدود بين الأحياء والجماد ، أو بين الثقافة والطبيعة حيث تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة.”
ولنتعرَّف أكثر على الواقعية السحرية فسوف أورد مضامين بعض القصص التي تمثل الواقعية السحرية
قصة “رحلة إلى بذرة ” لكاربنتر:
يسير الزمن في هذه القصة إلى الخلف وذلك بواسطة،
بلورة سحرية ، فالخادم العجوز يرى هدم بيت سيدن (دون مارسيال) الذي مات منذ فترة وجيزة ، وكاد العمَّال يفرغون من رفع بعض الأنقاض حتى يأخذ الخادم في التشنج ،ويأتي بحركات غريبة، يتقلب على الأرض فوق ما تبقى من حصى وأحجار ،وفي كل مرة ينقلب فيها كأنَّه عصاً سحرية، ينقلب الزمن معه منساباً إلى الوراء فيعود السيد إلى الحياة ، ويعيش متراجعاً في الزمن حتى يصل إلى حالته الأولى ،وهي الطين ،يعود البيت إلى خلاء ،وعندما يحضر العُمَّال في اليوم التالي لإنجاز مهمتهم يجدون أنّها قد تمَّت ،ويعتمد المؤلف في إيهامنا بأنَّ الزمن يعود إلى الوراء على الصور المعكوسة ،فالشموع المشتعلة تتزايد بدلاً من أن تتناقض والأزواج يذهبون إلى الكنائس لاسترداد حريتهم ،ويردون خواتم الزواج التي تعود بدورها إلى حالتها الأولى سبائك في مصانع الصاغة ،ويعود الأشخاص إلى طفولتهم ،والطيور إلى أعشاشها حتى تصبح بيضاً مرة أخرى ،ويتحول الأثاث إلى شجر والنسيج إلى نبات)
هذا ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه القصة قائلاً : ( ومن هذا ينجح المؤلف في خلق عالم لا تسيره قوانين الطبيعة التجريبية ،وإنَّما يخضع لقوى عليا تنتهي لدنيا السحر في محاولته لفض أسرار الكون.
ولا شك أنَّ هذه الطريقة تتصل بأسلوب (الفلاش باك) المعهود في السينما خاصة ولكنَّها تختلف عنه بما توهمه من قلب أوضاع التطور وعكس مسار الزمن تاركاً نقطة الانطلاق بلا عودة ومعتمداً لا على الذاكرة ،وإنَّما على معايشة التاريخ في رحلة مستمرة إلى الوراء ،إلى البذور.
ولتتضح الصورة أكثر أمام القارئ فلنتوقف عند قصة:
مائة عام من الوحدة
للقصَّاص الكولمبي ( جارثيا ماركيز)،وتدور حول قرية تسمى “ماكوندو” اعتبرها النقاد كوناً مصغراً لأمريكا اللاتينية ،وتقوم هذه القصة على عنصر ينتمي إلى عالم التنبؤات والأسرار ،فيرى الكولونيل “بويريا” مؤسس هذه القرية يرى فيما يرى النائم أنَّه قامت في مكانها مدينة ينبعث منها الضجيج ،وتتكون حوائطها من المرايا ،فسأل عنها فأجابوه باسم لم يكن قد سمع عنه من قبل ،وليس له أي معنى ،ولكن كان له رنين غير عادي في الحلم ،وهو “ماكوندو كذلك يتدخل في دمارها عنصر آخر ينتمي إلى عالم الأسرار ؛إذ تهب عليها ريح عاتية لا تترك لها أثراً ،وترمز هذه المرايا إلى السحر والأحلام.
ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه المرايا قائلاً : ( إنَّ لها وظيفة مميزة هي رسم الحدود أو الخط الفاصل بين عالميْن : الداخلي الذي يتمثل في الأحلام والخيال ،والخارجي وهو الواقع ،فالمرآة والحلم لا ينفصلان ،والحلم يفتح أبواب العجائب والسحر ،وفي هذه الحالة بالذات يفتح ( ماكوندو) التي تظهر أمام عيوننا ،ثُمَّ لا تلبث أن تختفي كحلم غريب، ثّمَّ يتحدث الدكتور صلاح فضل عن الزمن في هذه القصة فيقول : ( وعندما ندرس مشكلة خاصة في هذه القصة مثل مشكلة الزمن نرى أنَّه لا يوجد خارج ذات المؤلف ؛إذ أنَّه مجرد لعبة في يديه يصنع به ما يشاء.
ويتحدث عن الغرائب والحوادث الخارقة للعادة في هذه القصة ،فيقول : إنَّ بعضها يظل بدون تفسير لأنَّه ينتمي إلى عالم السحر الذي يستعصى على الشرح ،وذلك مثل أوراق “ملكياوس” الصفراء التي يحاول بعض الأطفال الاستيلاء عليها بعد التسرب خلسة إلى حجرته ،فتتملكهم قوى غريبة ،وترفعهم عن الأرض يظلون معلقين في الهواء إلى أن يعود الساحر ،وينتزعها من أيديهم ،فيهبطون إلى الأرض عندئذ ،ويمارسون حركتهم العادية ،وكثير من هذه التفاصيل الخارقة للعادة لها وظيفة واضحة هي التعبير عن سيطرة الإنسان على المادة والطبيعة.
ويستطرد الدكتور صلاح فضل ،فيقول : ( أمَّا بعض العناصر الغربية مثل ظهور أشباح الأموات ومعايشتها للأحياء بطريقة طبيعية لا تثير الذعر بينهم ،ولا تغير من عاداتهم اليومية الرتيبة فإنّ هذا يعود إلى المعتقدات الشعبية التي ترى أنَّ من حق الأشباح والأرواح أن تأتي لتذكر الأحياء بوجودها ،وبهذا تتفادى الموت النهائي الذي لا يحيق بها إلاَّ عندما تطويها صحائف النسيان ،ولا ترد على خاطر كائن حي.
ومن هنا نرى في هذه القصة ،وفي غيرها كثيراً من شخصيات الأموات ،وهي تهيم في المنزل بين الأفراد الذين يحسون بوجودها ويعايشونها في وئام شديد حتى يستقر لدينا انطباع غريب بأنَّ الحد الفاصل بين الحياة والموت يتلاشى بالتدريج حيثُ تختلط الأشباح وتتحرك وتمارس “حياة” غامضة بين سائر الأحياء.
أعتقد أنَّه من خلال هذا العرض السريع والموجز للواقعية السحرية قد اتضحت لنا أهم معالمها وملامحها ؛إذ نستطيع الآن أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة ،كما نستطيع تحديد نظرتها إلى الله الخالق جلَّ شأنه ،وإلى الإنسان والكون والحياة،وموقفها من الموت.
فكما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الإنسان إلهاً يغير ما في الكون وفق ما يريد فكيف تعتبر من تراثنا العربي ،إن كانت قصص ألف ليلة وليلة ،تتحدث عن الخيال والسحر وعالم الجن ،فهي تتحدث عن الخير والشر،وتجعل الخير هو الذي ينتصر دائماً ،فهي تعتبر السحر والشعوذة شراً يحاربه أبطال القصص حتى ينتصروا عليه ،ولكن الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية تعتبر السحر هو الحقيقة الواقعة التي لا يصارعها أحد ،وتسقط الموت ،وتجعل الأموات يعيشون مع الأحياء ،وكأنَّهم ليسوا بأموات ،فربط الأستاذ خزندار بين الإثنين غير موفق ،وأرى قوله هذا فقط من أجل إقناع القارئ العربي المسلم بقبول هذا المذهب ،تماماً كما حاول الدكتور عبد الله الغذّامي أن يوهم القارئ العربي المسلم أنَّ الحداثة من تراثنا.
الواقعية السحرية تحت مجهر التصور الإسلامي
نظرة الواقعية السحرية إلى :الخالق جل َّ شأنه
لقد ألغت وجود الله ،وجعلت من الإنسان إلهاً ،فالإنسان ـ كما رأينا ـ في الواقعية السحرية هو المسيطر على الكون ،وما فيه ،فيغيِّر فيه ما يشاء ومتى شاء ولعلَّ هذه ردة فعل للمذاهب المادية كالبنيوية التي ألغت دور الإنسان واعتبرته شيئاً من الأشياء أو آلة تدور.
وهنا ابتعدت ْعن جوهر العقيدة الإسلامية القائمة على الإيمان بوجود الخالق الواحد الأحد بيده ملكوت كل شيء وهو السميع البصير ،مدبِّر هذا الكون ،والمسيطر عليه ،وما الإنسان إلاَّ مخلوق مكلف سخَّر الله له ما في الكون إلاَّ أنَّه ليس المسيطر على الكون ،وليس من إمكانه تغيير سننه ونواميسه ـ كما رأينا في قصة رحلة إلى بذرة ـ فلا تغيير لسنن الله.
نظرة الواقعية السحرية إلى الإنسان:
1- غالت في تقدير الإنسان وأوصلته إلى مرتبة الألوهية، وهذه النظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان.
2- نظرت إلى الإنسان أنَّه روح فقط ،وألغت ماديته ،فجعلت أرواح الموتى أشباحاً تعيش مع الأحياء ،وتمارس نوعاً من الحياة الناقصة. وهذه نظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان ،فالإنسان روح ومادة وازن الإسلام بينهما، وهنا تتجلى عظمة الإسلام ومعجزته ،يقول تعالى : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدُّنيا) .
نظرة الواقعية السحرية إلى الكون
عدم احترامها لسنن الكون ؛إذ أنَّها جعلت الزمن يتراجع وتعود المخلوقات إلى سيرتها الأولى ـ كما رأينا ـ في رحلة إلى بذرة، وهذا يتنافى مع الإسلام ،فأولى العقائد التي حرص الإسلام على غرسها في نفوس أبنائه أنَّ هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان لا يسير جزافاً ،أو يمشي على غير هدى ،كما أنَّه لا يسير وفق هوى أحد الخلق فإنَّ أهواءهم مع عمَّاها وضلالها متضاربة متنافرة ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض فيهن) 1
والكون مرتبط بقوانين مطردة وسنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ( فلن تجد لسنة الله تبديلا) 2
فالعقيدة الإسلامية تقوم على احترام السنن الكونية ،وطلب المسببات من أسبابها التي ربطها الله بها ،والإعراض عمَّا يُقال عن الأسباب الخفية المزعومة ،والتي تقوم عليها الواقعية السحرية التي تلجأ إليها عادة سكنة المعابد ومحترفو الدجل بالأديان.
نظرة الواقعية السحرية إلى الحياة
خالفت العقيدة الإسلامية في النظر إلى الحياة ؛إذ جعلت الإنسان يعيش حياتين في هذه الدنيا حياة كروح وجسد ،وحياة ثابتة كروح وشبح بعدما يموت .فهي هنا أسقطت الموت ،وبالتالي ألغت الجزاء والثواب ،والحياة الآخرة ،بينما الحياة في الحياة الدنيا في الإسلام هي واحدة ،وبعد الموت ينتقل الإنسان إلى الحياة الآخرة، ليلقى حسابه على ما فعل في دنياه ،وهي دار الخلود.
هذا وتعتمد الواقعية السحرية على التنبؤات والخرافات والسحر والأساطير ،وجعلت من السحرة والكهَّان والعرَّافين أبطالاً لقصصها ،وهذا يتنافى مع العقيدة الإسلامية التي حاربت الكهَّان والعرَّافين الذين يدَّعون معرفة الغيوب الماضية أو المستقبلة عن طريق اتصالهم بالجن ،أو غير ذلك،فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب على هذا الدجل الذي لا يقوم على علم ولا على هدى ،ولا على كتاب منير، وتلا عليهم قوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاَّ الله ) 3
فلا الملائكة ولا الجن ،ولا البشر يعلمون الغيب ،وأخبر الله عن جن سليمان : ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) 4.
فمن ادَّعى معرفة الغيب الحقيقي ،فهو كاذب على الله ،وعلى الحقيقة ،وعلى النَّاس ،وقد جاء بعض الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدَّقه بما قال لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) رواه مسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من أتى كاهناً فصدَّقه بما قال فقد كفر ،بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.)
أمَّا السحر فهو البطل الحقيقي للواقعية السحرية وعمادها ،وهو في الإسلام من كبائر الذنوب ،يقول تعالى : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)5 وقال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ،قالوا يا رسول الله وما هي ؟ قال : “الشرك بالله،والسحر ،وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الرِّبا ،وأكل مال اليتيم ،والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.
وقد اعتبر فقهاء الإسلام السحر كفراً ،وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر ،وقالوا يقتل ،ولا يُستتاب تطهيراً للمجتمع من شره ،وعلمنا الله عزَّ وجل الاستعاذة من شر أرباب السحر : ( ومن شرِّ النَّفاثات في العقد) 6
والنفث في العقد من طرائق السحرة وخواصهم، وفي الحديث الشريف : ( من نفث في عقدة فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ) رواه الطبراني .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من تطيّر له ،أو تكهّن له ،أو سحر أو سحر له) رواه البزَّاز بإسناد جيد والطبراني بإسنادٍ حسن.
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة مدمن خمر ،مؤمن بسحر ، ولا قاطع رحم) رواه ابن حبَّان في صحيحه.
فالحرمة هنا ليست على الساحر وحده ،وإنَّما تشمل كل متبع السحر مشجع له ،مصدِّق لما يقول.
هذه هي الواقعية السحرية ،والتي ألبسها الدكتور عبد الله الغذَّامي ثوب التخيليية لتقبلها العقلية العربية المسلمة ،والتي نادى بها الأستاذ عابد خزندار في خمس مقالات كتبها في ثقافة جريدة الرياض واحد منها في عام 1407هـ ،والأربع الباقية قي عام 1408هـ ،داعياً فيها إلى اعتماد الواقعية السحرية كمنهج أدبي نسير عليه في بلادنا ، وظننتُ أنَّ الأستاذ خزندار قد تراجع عن دعوته هذه ،ولكني فوجئت ـ في مكاشفات الدكتور عبد الغزيز قاسم له في ملحق الرسالة ـ بإصراره على دعوته هذه. وكما رأينا فالواقعية السحرية التي يطالب بها الأستاذ خزندار بجعلها بديلاً للحداثة ،وهي ليست بأفضل منها ؛إذ سيتحول بها مجتمعنا العربي إلى عالم السحر والشعوذة ،ويتحكم فيه السحرة والكهَّان والعرَّافين، فسيكونون هم الأبطال المسيطرون على النَّاس. وبالواقعية السحرية سيتحول مجتمعنا إلى عالم يسوده الرعب ،كما هو ظاهر في موجة الأفلام السينمائية الأجنبية ،والتي نرى فيها مصَّاصي الدِّماء والسحرة ،وهذه موجة من الأفلام بدأت الظهور في الأفلام العربية ،كفيلم “البيت الملعون” ،وفي هذا الفيلم تتجسد أمام بطلة الفيلم أحداثاً قد مضت فتُرى لها هذه المشاهد نتيجة قيام طبيب نفسي بحركات غريبة تجعله يمتلك قوى خفية.وما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الساحر يعيد الحياة إلى الأموات ،كما رأينا في قصة “رحلة إلى بذرة” ،فالله وحده هو الذي يُحيي ويميت .
فالواقعية السحرية تجعل مجتمعنا العربي يغرق في اللاوعي ،وينشغل بالسحر والشعوذة عن قضاياه المصيرية، وبذلك يتحقق ما تريده الصهيونية ؛إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر : ( وقد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدباً مريضاً قذراً يغثي النفوس ،وسنستمر فترة قصيرة بعد الاعتراف بحكمنا على تشجيع سيطرة مثل هذا الأدب.)
وأخيراً أقول : إن رضيِت أمريكا اللاتينية بالواقعية السحرية لإحياء تراثها القائم على السحر والأساطير ،ووجدت لقومياتها فيها توحيداً ،فنحن أمة إسلامية نستطيع بعقيدتنا أن نخرج من جميع مستنقعات الهزائم إنْ تمسَّكنا بهذه العقيدة.
فالواقعية السحرية ليست هي المخرج ،وإنَّما التمسك بالعقيدة الإسلامية والالتزام بأدب إسلامي ،هذه الحقيقة التي أريد أن يدركها جميع أدباء ونقَّاد الحداثة والبنيوية ،ودعاة الواقعية السحرية ،وفي مقدمتهم الأستاذ عابد خزندار والدكتور عبد الله الغذَّامي ،ولو كانت أمريكا اللاتينية تدين بالإسلام لأخذت بالعقيدة الإسلامية وتمسَّكت بها ،ولما لجأت إلى السحر والأساطير.
الواقعية السحرية وأثرها على الأدب العربي
الواقعية السحرية في طريق الحرير لرجاء عالم
وتتجلى الواقعية السحرية في قولها : ” حين اجتمعنا للميت كان مُطهراً ،ومكتوبة جبهته بكلمات الحياة ،ولم نتمكَّن لفرط حيويته من دفنه ،فأقمنا حول القبر المفتوح ، وضربنا نارنا ،وطال سهرنا ،وهو يُعرّفنا على نفسه ،قال : ( أنا آخر الأمراء ،خلِّفتُ تميم ورائي ، وأقمتُ عمري على مغرب الجزيرة ،إمارتي أعلى جبال كرا، مغزولة بالآبار ،ومغسولة أعتابها بالبّرَد ) سجَّلنا خبرّه في كتبنا بمداد شجرة ،وتشتتنا في السهر.”7
وقولها على لسان الراوي : ” عندها أعترف أحمد أمام الرجال والجَّنة بأنَّ جسده مدفون في (خلوة) بنزلة الصفا بمكة…”8
واستخدام السحر في قولها :”وغرقنا في حشيشة تلك الحركة ،ومسّت الحاجة للسقاية ، وكنّا نخوض شُحَّ الصحراء الكبرى ،واجتمع الأدلاء حول خيال لجدي محمد بك :
بدار اللوزة ، بركن ديوانه الذي صام عن المعازف والمهرجين ، وأهل الأُنس في قوس كالمحراب محشود بالفجر ، جلس الشيخ يحضِّر خدّامه من جان المياه ، وكان مسكوناً بتوظيفهم للتنقيب عن آبار مكة المُندثرة ،حرق ورقة فضة ،مكتوبة بماء السيل ،بقلم من العود الهندي ،وفاحت في الديوان روائح مؤنثة ،فعرف الشيخ أنّ المياه قريبة ،ثمَّ تجسَّدت من بين أجساد الفجر ،وبخور الجنية ” نخلة” قالت إنَّها من ساكنات النخل اللواتي أقمن بحايط ابن طارق بأسفل مكة ، وعرضت عليه شبكة العيون التي أجراها معاوية رحمه الله 9،واتخذها بمكة .( حايط ابن طارق ) كانت له عين تمر في بطن وادي مكة تحت الأرض ، بلغت العين مضاربنا وأخرجتنا في نخلها ،فأقمنا تروي الناس دهراً حتى خرب الحائط ،ونامت العين على حدودنا … فإن شئت نقَّبنا لك بطن مكة فاطلعت على جريانها .. واحتار الشيخ في إجابتها ،وكانت بُغيته بئر جُميح التي من الجاهلية ،والتي يُقال لها ” السُّنبُلَة” ،وكانت لخلف بن وهب في الحزامية بأسفل مكة قبالة دار الزبير بن العوَّام ،ويُقال لها أيضاً بير أُبي ،وهي البير التي بصّق فيها عليه الصلاة والسلام فصار ماؤها يقشع الصداع عن العيون ،وأراد الشيخ استخلاصها للتداوي وتوزيع هباتها…10″ ،فجعلت شيخ سياقة الحجاج في مكة يستخدم السحر ،وجعلت الجان هم الذين نقبوا عن آبار مكة المكرمة ،وقبل النقاد والقراء منها بهذا ،ووصفت بالروائية المكية التي جسَّدت واقع المجتمع المكي!!!
تقديم القرابين للجان واستخدام السحر ومفاسدة إناث الجان في طريق الحرير
قولها على لسان الراوي : ” ولا نَفس … حوقلت نسوة بأنَّ القربان ذهب بالطفلة قبل أن تختم رقصتها الأولى … ” 11
وقولها :”ثلاثة قرابين لخاتمة الثلاثة ، وأربعة للأربعة ، حتى السابعة : عندها امتدت خرفان سبعة تكنس بدمائها أعتاب الدار بأعلى الشامية …سيول سبعة نزلت طلعة القرار صوب الحرم … وخلى سبيلها المصلون … وكانت السامية تعبر جبال القرابين السبعة … “12 إلى أن تقول : ” ولم تكن تلك خاتمة جاذبيتها للعوالم السفلية ،فحين لغت الثامنة أعلن السُّفليون لمرة أخيرة أنَّهم مازالوا يترقبونها: كل مكة خارجة لصلاة عيد الفطر .. سيول على الطرق بكل الألوان والعطور …أفتح كامل بهاء المدينة المقدسة . السامية في ثوب أرجوان ..إلى أن تقول : ” ومن بين أقدام المصلين انطلقت ريح لفَّت بين أعمدة باب إبراهيم ،تخبّطت عاجزة عن ولوج حرمته … ثُم تمثَّلت في كلب يحمل عتمة جبال مكة خلف عينه العوراء ويلهث أثر الأرجوانة “13 ،ويفشل الرجال في صده ،ثمّ يأتي ثعبان ويذهب بها14 ،وعندما يظهر شيخ السقاية بباب اللوزة … وما أن لمحه الأعور حتى غاض في الأرض سائلاً من عينه الوحيدة ،شربتْه الأرض بصراخِ حُدأة.. ولم يتحقق الشهود من الكيفية التي حُورِب بها الكلب ، أنسحب أم لعلَّ الشيخ محمد بك يملك من العلم الأسود ما ذوَّبه .” 15
أي علم أسود هذا؟ إنَّه السحر الأسود.
وتقول : ” وطالت هدنته مع الجان حتى خرقها في حربه على حفيدته الأولى ،فعزم عزيمة ،كسرت طوق الجان عن أحفاده أبداً ،وقيل توعده الجان بنهاية تليق بعزيمته تلك وهزيمتهم …” 16
وعندما أصيب جدها بالشلل نقل إلى خُلوته بالحرم ” ولم يدع لعلم تطبيبه أو منادمته ..أقام في الخُلوة ما يُقارب الأربعين وحدة … بعدها خرج يمشي على قدميه..” 17
ثمَّ تقول : ” بعدها عُرف بخلواته الحوْلية ،له في كل أربعين وحدة وحيدة لا يقرب فيها زاداً ولا بشراً ،ويتصل هناك بقرائنه وأحمد وصحاريه الكبرى” 18
فجعلت بطل روايتها يمارس السحر في خلوته بالحرم المكي !!!
تناسخ الأرواح في “طريق الحرير”
قولها على لسان الراوي :” وحرموا على جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف الكلام لما شاع من شعوذته”19 ،فقولها “جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف ،أي روح جدها أحمد تناسخت في جسد عبد اللطيف.
وقولها : ” أطفأ المطرُ غبار جدي فظهرت دُكنة إلى جواره ،ثمّ تجسَّدت في هيئة بربري مسلم ،شرح لنا جدي أنّ البربري رفيقه منذ القرن الثامن الهجري ،وأنَّهما مولدان من جثة دولة خلَّقاها من طينة الحلم ،ثمّ لفظتهما في نزعها الأخير ،وكانت تحبل بالرتق وتتوالد..”20 وقولها :” وما عرف أحد أمات أم حي ، أنجب أم تناسخ.” 21
خاص لقراء وقارئات المدونة الأعزاء
يُعرِّف الدكتور صلاح فضل الواقعية السرية في كتابه “الواقعية في الإبداع الأدبي فيقول: ” الواقعية السحرية هي الاندفاع في مجال إغراق الخيال حتى تخرج عن نطاق خصائص الواقع الملموس لتجسيم مواجهة الإنسان للظروف المحيطة به ؛إذ لا تكتفي في جوهرها بالتحليقات الخيالية التي تنتهي إلى تحويل الواقع وتحليله إلى علاقات غير عادية ، ولا مألوفة ، ولكنها تعثر في نفس هذا الواقع على أشكال تبدو وكما لو كانت حُلماً لا يمت بأية صلة للعنصر العادي المألوف ،وبهذا تعمل على أن يعيش الخيال المغرق في الواقع نفسه ،فتكمل لها الدورة الخيالية ،وتكون عالماً جديداً توقد في داخله المظاهر الموضوعية للواقع جنباً إلى جنب مع لب الأسطورة الخرافية ، فالأعمال الأوربية وفق الواقعية السحرية تعبر عن رؤية كونية سحرية للعالم ، رؤية لا تاريخية تمحى فيها الحدود بين الأحياء والجماد ، أو بين الثقافة والطبيعة حيث تكتسب الأشياء والظواهر خواص وقدرات مميزة.”
ولنتعرَّف أكثر على الواقعية السحرية فسوف أورد مضامين بعض القصص التي تمثل الواقعية السحرية
قصة “رحلة إلى بذرة ” لكاربنتر:
يسير الزمن في هذه القصة إلى الخلف وذلك بواسطة،
بلورة سحرية ، فالخادم العجوز يرى هدم بيت سيدن (دون مارسيال) الذي مات منذ فترة وجيزة ، وكاد العمَّال يفرغون من رفع بعض الأنقاض حتى يأخذ الخادم في التشنج ،ويأتي بحركات غريبة، يتقلب على الأرض فوق ما تبقى من حصى وأحجار ،وفي كل مرة ينقلب فيها كأنَّه عصاً سحرية، ينقلب الزمن معه منساباً إلى الوراء فيعود السيد إلى الحياة ، ويعيش متراجعاً في الزمن حتى يصل إلى حالته الأولى ،وهي الطين ،يعود البيت إلى خلاء ،وعندما يحضر العُمَّال في اليوم التالي لإنجاز مهمتهم يجدون أنّها قد تمَّت ،ويعتمد المؤلف في إيهامنا بأنَّ الزمن يعود إلى الوراء على الصور المعكوسة ،فالشموع المشتعلة تتزايد بدلاً من أن تتناقض والأزواج يذهبون إلى الكنائس لاسترداد حريتهم ،ويردون خواتم الزواج التي تعود بدورها إلى حالتها الأولى سبائك في مصانع الصاغة ،ويعود الأشخاص إلى طفولتهم ،والطيور إلى أعشاشها حتى تصبح بيضاً مرة أخرى ،ويتحول الأثاث إلى شجر والنسيج إلى نبات)
هذا ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه القصة قائلاً : ( ومن هذا ينجح المؤلف في خلق عالم لا تسيره قوانين الطبيعة التجريبية ،وإنَّما يخضع لقوى عليا تنتهي لدنيا السحر في محاولته لفض أسرار الكون.
ولا شك أنَّ هذه الطريقة تتصل بأسلوب (الفلاش باك) المعهود في السينما خاصة ولكنَّها تختلف عنه بما توهمه من قلب أوضاع التطور وعكس مسار الزمن تاركاً نقطة الانطلاق بلا عودة ومعتمداً لا على الذاكرة ،وإنَّما على معايشة التاريخ في رحلة مستمرة إلى الوراء ،إلى البذور.
ولتتضح الصورة أكثر أمام القارئ فلنتوقف عند قصة:
مائة عام من الوحدة
للقصَّاص الكولمبي ( جارثيا ماركيز)،وتدور حول قرية تسمى “ماكوندو” اعتبرها النقاد كوناً مصغراً لأمريكا اللاتينية ،وتقوم هذه القصة على عنصر ينتمي إلى عالم التنبؤات والأسرار ،فيرى الكولونيل “بويريا” مؤسس هذه القرية يرى فيما يرى النائم أنَّه قامت في مكانها مدينة ينبعث منها الضجيج ،وتتكون حوائطها من المرايا ،فسأل عنها فأجابوه باسم لم يكن قد سمع عنه من قبل ،وليس له أي معنى ،ولكن كان له رنين غير عادي في الحلم ،وهو “ماكوندو كذلك يتدخل في دمارها عنصر آخر ينتمي إلى عالم الأسرار ؛إذ تهب عليها ريح عاتية لا تترك لها أثراً ،وترمز هذه المرايا إلى السحر والأحلام.
ويعلق الدكتور صلاح فضل على هذه المرايا قائلاً : ( إنَّ لها وظيفة مميزة هي رسم الحدود أو الخط الفاصل بين عالميْن : الداخلي الذي يتمثل في الأحلام والخيال ،والخارجي وهو الواقع ،فالمرآة والحلم لا ينفصلان ،والحلم يفتح أبواب العجائب والسحر ،وفي هذه الحالة بالذات يفتح ( ماكوندو) التي تظهر أمام عيوننا ،ثُمَّ لا تلبث أن تختفي كحلم غريب، ثّمَّ يتحدث الدكتور صلاح فضل عن الزمن في هذه القصة فيقول : ( وعندما ندرس مشكلة خاصة في هذه القصة مثل مشكلة الزمن نرى أنَّه لا يوجد خارج ذات المؤلف ؛إذ أنَّه مجرد لعبة في يديه يصنع به ما يشاء.
ويتحدث عن الغرائب والحوادث الخارقة للعادة في هذه القصة ،فيقول : إنَّ بعضها يظل بدون تفسير لأنَّه ينتمي إلى عالم السحر الذي يستعصى على الشرح ،وذلك مثل أوراق “ملكياوس” الصفراء التي يحاول بعض الأطفال الاستيلاء عليها بعد التسرب خلسة إلى حجرته ،فتتملكهم قوى غريبة ،وترفعهم عن الأرض يظلون معلقين في الهواء إلى أن يعود الساحر ،وينتزعها من أيديهم ،فيهبطون إلى الأرض عندئذ ،ويمارسون حركتهم العادية ،وكثير من هذه التفاصيل الخارقة للعادة لها وظيفة واضحة هي التعبير عن سيطرة الإنسان على المادة والطبيعة.
ويستطرد الدكتور صلاح فضل ،فيقول : ( أمَّا بعض العناصر الغربية مثل ظهور أشباح الأموات ومعايشتها للأحياء بطريقة طبيعية لا تثير الذعر بينهم ،ولا تغير من عاداتهم اليومية الرتيبة فإنّ هذا يعود إلى المعتقدات الشعبية التي ترى أنَّ من حق الأشباح والأرواح أن تأتي لتذكر الأحياء بوجودها ،وبهذا تتفادى الموت النهائي الذي لا يحيق بها إلاَّ عندما تطويها صحائف النسيان ،ولا ترد على خاطر كائن حي.
ومن هنا نرى في هذه القصة ،وفي غيرها كثيراً من شخصيات الأموات ،وهي تهيم في المنزل بين الأفراد الذين يحسون بوجودها ويعايشونها في وئام شديد حتى يستقر لدينا انطباع غريب بأنَّ الحد الفاصل بين الحياة والموت يتلاشى بالتدريج حيثُ تختلط الأشباح وتتحرك وتمارس “حياة” غامضة بين سائر الأحياء.
أعتقد أنَّه من خلال هذا العرض السريع والموجز للواقعية السحرية قد اتضحت لنا أهم معالمها وملامحها ؛إذ نستطيع الآن أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة ،كما نستطيع تحديد نظرتها إلى الله الخالق جلَّ شأنه ،وإلى الإنسان والكون والحياة،وموقفها من الموت.
فكما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الإنسان إلهاً يغير ما في الكون وفق ما يريد فكيف تعتبر من تراثنا العربي ،إن كانت قصص ألف ليلة وليلة ،تتحدث عن الخيال والسحر وعالم الجن ،فهي تتحدث عن الخير والشر،وتجعل الخير هو الذي ينتصر دائماً ،فهي تعتبر السحر والشعوذة شراً يحاربه أبطال القصص حتى ينتصروا عليه ،ولكن الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية تعتبر السحر هو الحقيقة الواقعة التي لا يصارعها أحد ،وتسقط الموت ،وتجعل الأموات يعيشون مع الأحياء ،وكأنَّهم ليسوا بأموات ،فربط الأستاذ خزندار بين الإثنين غير موفق ،وأرى قوله هذا فقط من أجل إقناع القارئ العربي المسلم بقبول هذا المذهب ،تماماً كما حاول الدكتور عبد الله الغذّامي أن يوهم القارئ العربي المسلم أنَّ الحداثة من تراثنا.
الواقعية السحرية تحت مجهر التصور الإسلامي
نظرة الواقعية السحرية إلى :الخالق جل َّ شأنه
لقد ألغت وجود الله ،وجعلت من الإنسان إلهاً ،فالإنسان ـ كما رأينا ـ في الواقعية السحرية هو المسيطر على الكون ،وما فيه ،فيغيِّر فيه ما يشاء ومتى شاء ولعلَّ هذه ردة فعل للمذاهب المادية كالبنيوية التي ألغت دور الإنسان واعتبرته شيئاً من الأشياء أو آلة تدور.
وهنا ابتعدت ْعن جوهر العقيدة الإسلامية القائمة على الإيمان بوجود الخالق الواحد الأحد بيده ملكوت كل شيء وهو السميع البصير ،مدبِّر هذا الكون ،والمسيطر عليه ،وما الإنسان إلاَّ مخلوق مكلف سخَّر الله له ما في الكون إلاَّ أنَّه ليس المسيطر على الكون ،وليس من إمكانه تغيير سننه ونواميسه ـ كما رأينا في قصة رحلة إلى بذرة ـ فلا تغيير لسنن الله.
نظرة الواقعية السحرية إلى الإنسان:
1- غالت في تقدير الإنسان وأوصلته إلى مرتبة الألوهية، وهذه النظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان.
2- نظرت إلى الإنسان أنَّه روح فقط ،وألغت ماديته ،فجعلت أرواح الموتى أشباحاً تعيش مع الأحياء ،وتمارس نوعاً من الحياة الناقصة. وهذه نظرة تخالف نظرة الإسلام إلى الإنسان ،فالإنسان روح ومادة وازن الإسلام بينهما، وهنا تتجلى عظمة الإسلام ومعجزته ،يقول تعالى : ( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدُّنيا) .
نظرة الواقعية السحرية إلى الكون
عدم احترامها لسنن الكون ؛إذ أنَّها جعلت الزمن يتراجع وتعود المخلوقات إلى سيرتها الأولى ـ كما رأينا ـ في رحلة إلى بذرة، وهذا يتنافى مع الإسلام ،فأولى العقائد التي حرص الإسلام على غرسها في نفوس أبنائه أنَّ هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان لا يسير جزافاً ،أو يمشي على غير هدى ،كما أنَّه لا يسير وفق هوى أحد الخلق فإنَّ أهواءهم مع عمَّاها وضلالها متضاربة متنافرة ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض فيهن) 1
والكون مرتبط بقوانين مطردة وسنن ثابتة لا تتبدل ولا تتحول ( فلن تجد لسنة الله تبديلا) 2
فالعقيدة الإسلامية تقوم على احترام السنن الكونية ،وطلب المسببات من أسبابها التي ربطها الله بها ،والإعراض عمَّا يُقال عن الأسباب الخفية المزعومة ،والتي تقوم عليها الواقعية السحرية التي تلجأ إليها عادة سكنة المعابد ومحترفو الدجل بالأديان.
نظرة الواقعية السحرية إلى الحياة
خالفت العقيدة الإسلامية في النظر إلى الحياة ؛إذ جعلت الإنسان يعيش حياتين في هذه الدنيا حياة كروح وجسد ،وحياة ثابتة كروح وشبح بعدما يموت .فهي هنا أسقطت الموت ،وبالتالي ألغت الجزاء والثواب ،والحياة الآخرة ،بينما الحياة في الحياة الدنيا في الإسلام هي واحدة ،وبعد الموت ينتقل الإنسان إلى الحياة الآخرة، ليلقى حسابه على ما فعل في دنياه ،وهي دار الخلود.
هذا وتعتمد الواقعية السحرية على التنبؤات والخرافات والسحر والأساطير ،وجعلت من السحرة والكهَّان والعرَّافين أبطالاً لقصصها ،وهذا يتنافى مع العقيدة الإسلامية التي حاربت الكهَّان والعرَّافين الذين يدَّعون معرفة الغيوب الماضية أو المستقبلة عن طريق اتصالهم بالجن ،أو غير ذلك،فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب على هذا الدجل الذي لا يقوم على علم ولا على هدى ،ولا على كتاب منير، وتلا عليهم قوله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاَّ الله ) 3
فلا الملائكة ولا الجن ،ولا البشر يعلمون الغيب ،وأخبر الله عن جن سليمان : ( أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) 4.
فمن ادَّعى معرفة الغيب الحقيقي ،فهو كاذب على الله ،وعلى الحقيقة ،وعلى النَّاس ،وقد جاء بعض الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدَّقه بما قال لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) رواه مسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من أتى كاهناً فصدَّقه بما قال فقد كفر ،بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.)
أمَّا السحر فهو البطل الحقيقي للواقعية السحرية وعمادها ،وهو في الإسلام من كبائر الذنوب ،يقول تعالى : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)5 وقال صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ،قالوا يا رسول الله وما هي ؟ قال : “الشرك بالله،والسحر ،وقتل النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق، وأكل الرِّبا ،وأكل مال اليتيم ،والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) متفق عليه.
وقد اعتبر فقهاء الإسلام السحر كفراً ،وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر ،وقالوا يقتل ،ولا يُستتاب تطهيراً للمجتمع من شره ،وعلمنا الله عزَّ وجل الاستعاذة من شر أرباب السحر : ( ومن شرِّ النَّفاثات في العقد) 6
والنفث في العقد من طرائق السحرة وخواصهم، وفي الحديث الشريف : ( من نفث في عقدة فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ) رواه الطبراني .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من تطيّر له ،أو تكهّن له ،أو سحر أو سحر له) رواه البزَّاز بإسناد جيد والطبراني بإسنادٍ حسن.
ويقول عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة مدمن خمر ،مؤمن بسحر ، ولا قاطع رحم) رواه ابن حبَّان في صحيحه.
فالحرمة هنا ليست على الساحر وحده ،وإنَّما تشمل كل متبع السحر مشجع له ،مصدِّق لما يقول.
هذه هي الواقعية السحرية ،والتي ألبسها الدكتور عبد الله الغذَّامي ثوب التخيليية لتقبلها العقلية العربية المسلمة ،والتي نادى بها الأستاذ عابد خزندار في خمس مقالات كتبها في ثقافة جريدة الرياض واحد منها في عام 1407هـ ،والأربع الباقية قي عام 1408هـ ،داعياً فيها إلى اعتماد الواقعية السحرية كمنهج أدبي نسير عليه في بلادنا ، وظننتُ أنَّ الأستاذ خزندار قد تراجع عن دعوته هذه ،ولكني فوجئت ـ في مكاشفات الدكتور عبد الغزيز قاسم له في ملحق الرسالة ـ بإصراره على دعوته هذه. وكما رأينا فالواقعية السحرية التي يطالب بها الأستاذ خزندار بجعلها بديلاً للحداثة ،وهي ليست بأفضل منها ؛إذ سيتحول بها مجتمعنا العربي إلى عالم السحر والشعوذة ،ويتحكم فيه السحرة والكهَّان والعرَّافين، فسيكونون هم الأبطال المسيطرون على النَّاس. وبالواقعية السحرية سيتحول مجتمعنا إلى عالم يسوده الرعب ،كما هو ظاهر في موجة الأفلام السينمائية الأجنبية ،والتي نرى فيها مصَّاصي الدِّماء والسحرة ،وهذه موجة من الأفلام بدأت الظهور في الأفلام العربية ،كفيلم “البيت الملعون” ،وفي هذا الفيلم تتجسد أمام بطلة الفيلم أحداثاً قد مضت فتُرى لها هذه المشاهد نتيجة قيام طبيب نفسي بحركات غريبة تجعله يمتلك قوى خفية.وما رأينا فالواقعية السحرية تجعل من الساحر يعيد الحياة إلى الأموات ،كما رأينا في قصة “رحلة إلى بذرة” ،فالله وحده هو الذي يُحيي ويميت .
فالواقعية السحرية تجعل مجتمعنا العربي يغرق في اللاوعي ،وينشغل بالسحر والشعوذة عن قضاياه المصيرية، وبذلك يتحقق ما تريده الصهيونية ؛إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر : ( وقد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدباً مريضاً قذراً يغثي النفوس ،وسنستمر فترة قصيرة بعد الاعتراف بحكمنا على تشجيع سيطرة مثل هذا الأدب.)
وأخيراً أقول : إن رضيِت أمريكا اللاتينية بالواقعية السحرية لإحياء تراثها القائم على السحر والأساطير ،ووجدت لقومياتها فيها توحيداً ،فنحن أمة إسلامية نستطيع بعقيدتنا أن نخرج من جميع مستنقعات الهزائم إنْ تمسَّكنا بهذه العقيدة.
فالواقعية السحرية ليست هي المخرج ،وإنَّما التمسك بالعقيدة الإسلامية والالتزام بأدب إسلامي ،هذه الحقيقة التي أريد أن يدركها جميع أدباء ونقَّاد الحداثة والبنيوية ،ودعاة الواقعية السحرية ،وفي مقدمتهم الأستاذ عابد خزندار والدكتور عبد الله الغذَّامي ،ولو كانت أمريكا اللاتينية تدين بالإسلام لأخذت بالعقيدة الإسلامية وتمسَّكت بها ،ولما لجأت إلى السحر والأساطير.
الواقعية السحرية وأثرها على الأدب العربي
الواقعية السحرية في طريق الحرير لرجاء عالم
وتتجلى الواقعية السحرية في قولها : ” حين اجتمعنا للميت كان مُطهراً ،ومكتوبة جبهته بكلمات الحياة ،ولم نتمكَّن لفرط حيويته من دفنه ،فأقمنا حول القبر المفتوح ، وضربنا نارنا ،وطال سهرنا ،وهو يُعرّفنا على نفسه ،قال : ( أنا آخر الأمراء ،خلِّفتُ تميم ورائي ، وأقمتُ عمري على مغرب الجزيرة ،إمارتي أعلى جبال كرا، مغزولة بالآبار ،ومغسولة أعتابها بالبّرَد ) سجَّلنا خبرّه في كتبنا بمداد شجرة ،وتشتتنا في السهر.”7
وقولها على لسان الراوي : ” عندها أعترف أحمد أمام الرجال والجَّنة بأنَّ جسده مدفون في (خلوة) بنزلة الصفا بمكة…”8
واستخدام السحر في قولها :”وغرقنا في حشيشة تلك الحركة ،ومسّت الحاجة للسقاية ، وكنّا نخوض شُحَّ الصحراء الكبرى ،واجتمع الأدلاء حول خيال لجدي محمد بك :
بدار اللوزة ، بركن ديوانه الذي صام عن المعازف والمهرجين ، وأهل الأُنس في قوس كالمحراب محشود بالفجر ، جلس الشيخ يحضِّر خدّامه من جان المياه ، وكان مسكوناً بتوظيفهم للتنقيب عن آبار مكة المُندثرة ،حرق ورقة فضة ،مكتوبة بماء السيل ،بقلم من العود الهندي ،وفاحت في الديوان روائح مؤنثة ،فعرف الشيخ أنّ المياه قريبة ،ثمَّ تجسَّدت من بين أجساد الفجر ،وبخور الجنية ” نخلة” قالت إنَّها من ساكنات النخل اللواتي أقمن بحايط ابن طارق بأسفل مكة ، وعرضت عليه شبكة العيون التي أجراها معاوية رحمه الله 9،واتخذها بمكة .( حايط ابن طارق ) كانت له عين تمر في بطن وادي مكة تحت الأرض ، بلغت العين مضاربنا وأخرجتنا في نخلها ،فأقمنا تروي الناس دهراً حتى خرب الحائط ،ونامت العين على حدودنا … فإن شئت نقَّبنا لك بطن مكة فاطلعت على جريانها .. واحتار الشيخ في إجابتها ،وكانت بُغيته بئر جُميح التي من الجاهلية ،والتي يُقال لها ” السُّنبُلَة” ،وكانت لخلف بن وهب في الحزامية بأسفل مكة قبالة دار الزبير بن العوَّام ،ويُقال لها أيضاً بير أُبي ،وهي البير التي بصّق فيها عليه الصلاة والسلام فصار ماؤها يقشع الصداع عن العيون ،وأراد الشيخ استخلاصها للتداوي وتوزيع هباتها…10″ ،فجعلت شيخ سياقة الحجاج في مكة يستخدم السحر ،وجعلت الجان هم الذين نقبوا عن آبار مكة المكرمة ،وقبل النقاد والقراء منها بهذا ،ووصفت بالروائية المكية التي جسَّدت واقع المجتمع المكي!!!
تقديم القرابين للجان واستخدام السحر ومفاسدة إناث الجان في طريق الحرير
قولها على لسان الراوي : ” ولا نَفس … حوقلت نسوة بأنَّ القربان ذهب بالطفلة قبل أن تختم رقصتها الأولى … ” 11
وقولها :”ثلاثة قرابين لخاتمة الثلاثة ، وأربعة للأربعة ، حتى السابعة : عندها امتدت خرفان سبعة تكنس بدمائها أعتاب الدار بأعلى الشامية …سيول سبعة نزلت طلعة القرار صوب الحرم … وخلى سبيلها المصلون … وكانت السامية تعبر جبال القرابين السبعة … “12 إلى أن تقول : ” ولم تكن تلك خاتمة جاذبيتها للعوالم السفلية ،فحين لغت الثامنة أعلن السُّفليون لمرة أخيرة أنَّهم مازالوا يترقبونها: كل مكة خارجة لصلاة عيد الفطر .. سيول على الطرق بكل الألوان والعطور …أفتح كامل بهاء المدينة المقدسة . السامية في ثوب أرجوان ..إلى أن تقول : ” ومن بين أقدام المصلين انطلقت ريح لفَّت بين أعمدة باب إبراهيم ،تخبّطت عاجزة عن ولوج حرمته … ثُم تمثَّلت في كلب يحمل عتمة جبال مكة خلف عينه العوراء ويلهث أثر الأرجوانة “13 ،ويفشل الرجال في صده ،ثمّ يأتي ثعبان ويذهب بها14 ،وعندما يظهر شيخ السقاية بباب اللوزة … وما أن لمحه الأعور حتى غاض في الأرض سائلاً من عينه الوحيدة ،شربتْه الأرض بصراخِ حُدأة.. ولم يتحقق الشهود من الكيفية التي حُورِب بها الكلب ، أنسحب أم لعلَّ الشيخ محمد بك يملك من العلم الأسود ما ذوَّبه .” 15
أي علم أسود هذا؟ إنَّه السحر الأسود.
وتقول : ” وطالت هدنته مع الجان حتى خرقها في حربه على حفيدته الأولى ،فعزم عزيمة ،كسرت طوق الجان عن أحفاده أبداً ،وقيل توعده الجان بنهاية تليق بعزيمته تلك وهزيمتهم …” 16
وعندما أصيب جدها بالشلل نقل إلى خُلوته بالحرم ” ولم يدع لعلم تطبيبه أو منادمته ..أقام في الخُلوة ما يُقارب الأربعين وحدة … بعدها خرج يمشي على قدميه..” 17
ثمَّ تقول : ” بعدها عُرف بخلواته الحوْلية ،له في كل أربعين وحدة وحيدة لا يقرب فيها زاداً ولا بشراً ،ويتصل هناك بقرائنه وأحمد وصحاريه الكبرى” 18
فجعلت بطل روايتها يمارس السحر في خلوته بالحرم المكي !!!
تناسخ الأرواح في “طريق الحرير”
قولها على لسان الراوي :” وحرموا على جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف الكلام لما شاع من شعوذته”19 ،فقولها “جدي أحمد المتمثل بعبد اللطيف ،أي روح جدها أحمد تناسخت في جسد عبد اللطيف.
وقولها : ” أطفأ المطرُ غبار جدي فظهرت دُكنة إلى جواره ،ثمّ تجسَّدت في هيئة بربري مسلم ،شرح لنا جدي أنّ البربري رفيقه منذ القرن الثامن الهجري ،وأنَّهما مولدان من جثة دولة خلَّقاها من طينة الحلم ،ثمّ لفظتهما في نزعها الأخير ،وكانت تحبل بالرتق وتتوالد..”20 وقولها :” وما عرف أحد أمات أم حي ، أنجب أم تناسخ.” 21
1- المؤمنون : 71.
2- فاطر: 43.
3- النمل : 165.
4- سبأ: 14.
5-طه : 69.؟
6- الفلق : 4.
7- ص 20.
8- ص 63.
9- سيدنا معاوية بن أبي سفيان صحابي جليل وأحد كتاب الوحي ،فنقول : ” رضي الله عنه”.
10- ص 48،49.
11-ص 81.
12- ص 81، 82.
13- ص 82.
14- ص 82.
15- ص 83.
16-ص 85
17- 147.
18- ص147.
19- ص 76
20- ص 49.
21- ص 144.