د. سهيلة زين العابدين حمّاد
يرى أحد علماء اللغة وهو “جسبرسن” أنَّ المرحلة الأولى لنمو لغة الطفل هي مرحلة الصياح ،وهي تعد في الواقع البداية الحقيقية للغة بالنسبة إلى الطفل الوليد ،وليس الصياح في مستهل حياته صياحاً بالمعنى المفهوم
،وإنّما هو أصوات تصدر عن الوليد نتيجة ضغط الهواء الداخل إلى الرئتين لأول مرة في محاولة لإيجاد توازن بين درجتي الضغط داخل الصدر وخارجه ،ويحتك الهواء أثناء دخوله بجدار الحنجرة ،فيحرك الوترين الصوتين ،وحينئذ تبدأ الحنجرة عملها مع خروج الهواء فتكون الصرخة الأولى التي نفسرها نحن بأنَّ الطفل يبكي، وهو في الحقيقة يمارس أول ألوان نشاطه الحيوي بشهقات وزفرات تدل على حياته. [د عبد الصبور شاهين: في علم اللغة العام، ص 85، ط4،مؤسسة الرسالة ،عام1404 هـ ـ 1984م .]
ولو أنَّ الطفل نزل صامتاً لفعلنا كل ممكن ،بل كل مستحيل في سبيل استخراج هذه الصرخات منه عقيب ولادته ،بل إنَّ الأطباء يوصون الأم دائماً ألاَّ تبالغ في رعاية الطفل بمحاولة إسكاته كلما صرخ ،لأنَّ لهذا الصراخ فضلاً عن كونه تعبيراً غريزياً يلجأ إليه الطفل كلما شعر بألم ،أو أحس بحاجة فائدة هي تقوية الرئتين بتشغيلهما على نحو نشيط ،وتشغيل الحنجرة بتنشيط الأوتار الصوتية ،ومن ثُمَّ تنشط المراكز العصبية الموجودة في هذا الجزء الحسَّاس الدقيق ،وذلك يفيد الوليد فائدة كبيرة ،ولذا يفضل أن يكون اهتمام الأم في هذه المرحلة بتقصي أسباب الصراخ ،ثُمَّ محاولة التخفيف من حدتها ما أمكن ،دون أن يكون إسكات الوليد هدفاً أساسياً في كل حال.
والطفل في هذه الرحلة من الصياح لا ينطق أصواتاً مميزة ،وإنّما يقتصر على ترديد ما يشبه الحركة المعروفة لدينا بالفتحة ،مع شيء من الأنفية أحياناً ،وقليل من الاحتكاك بأقصى الفم أحياناً أخرى حتى تختلط بما يشبه الغين ،ومن هنا سميت “مرحلة المناغاة” فكلمة “المناغاة” هي في الحقيقة نسيج صوتي فيما نرى مكون من الأصوات الثلاثة التي ترد في صياح الوليد ،وهي التي تتمثل في اختلاط الفتحة لديه بشيء من الأنفية ،يقربها من صوت النون ،وبقليل من الاحتكاك يدنيها من الغين ،وليس في الفعل “ناغى” سوى هذه الأصوات الثلاثة ،محملة بدلالتها ،وإمكاناتها الاشتقاقية ،ولعله في تقدير أصل الفعل ” لاغى يلاغي “،والمعنى في كليهما : أصدر أصواتاً للمناغاة أو للملاغاة ،واللام والنون يتبادلان المواقع في اللغة العربية.
ومع تقدم سن الطفل يتقدم نموه اللغوي إلى المرحلة التالية ،وهي المرحلة التي سماها “جسبرسن” “مرحلة البأبأة”،وإنَّما أطلق عليها هذه التسمية لسبب بديهي وبسيط هو أنَّه قد لوحظ أنَّ أول صوت يلعب به الطفل في بدء نضجه هو الباء. كان ذلك بالنسبة إلى جميع الأطفال بلا استثناء .ولقد يحدث أن يأتي الطفل بأصوات أخرى مع الباء ،مثل التاء أو الميم أو الحاء أو الخاء ،أو الكاف ،ولكن المهم أن ينطق بالباء أولاً ،فإذا لاحظ من حوله أنَّه أتى بهذا الصوت المحبب بادروا إلى تشجيعه ،وأخذوا يرددون له هذا الصوت ترديداً مستمراً. [ المرجع السابق : ص 86]
ومن فضل الله على الإنسان أن سخَّر له أمه التي تصر على ترديد الأصوات التي ينطقها طفلها في هذه المرحلة ،ومحاولة إقحامها في كل موقف ،والتغني بها في كل لحظة ،وهي بهذا تعمل على تنمية قدرات الطفل اللغوية والعقلية بوجه عام ،ولولا ذلك لما أحرز الطفل تقدمه اللغوي بسهولة. والمهم أنَّها تتلقف هذه المقاطع الصغيرة من فم الطفل ،فتحاول أن تخلع عليها بعض الدلالات البسيطة ،وتحاول أيضاً أن تثبتَّها في ملاحظة الطفل ،كلما رددها ،وتلعَّب بها ،بل تحاول أيضاً أن تنطق له بعض المقاطع الأخرى التي ربما تكون قد تأخرت لديه ،وذلك يعني أنَّ الطفل قد بدأ يستخدم جانباً من إمكانات جهازه الصوتي ،على أنَّ للطفل في هذه المرحلة التي تبدأ غالباً من الشهر السادس بعض الأصوات الانفعالية التي يعبر بها عن رضاه ،أو ألمه أو حاجته ، وهو يربط بين الصوت وما يلاحظ من اهتمام من حوله بتحقيق رغباته الغريزية ،فيظل يكرر هذه الأصوات في نفس المناسبة ،وكلما أحس بضرورة نطقها لتحقيق رغبة ،أو إشباع حاجة. [-المرجع السابق: ص 87.]
ولقد يحدث أن يصدر الطفل في هذه المرحلة بعض الأصوات التي تعبر عن سعادته ،حين يسمع أمه تغني له مثلاً : ( يا حبيبي ننا نام ، وادبح لك جوزين حمام) وتظل تنغم له هذه الجملة اللطيفة مع شيء من الإيقاع الرتيب ،كأنَّما يشاركها أنشودتها ،ثُمَّ يغرق في سبات هادئ لذيذ. من المقاطع التي تتكون لدى الطفل في هذه المرحلة تتخذ لغته الصغيرة في المرحلة التالية “مرحلة الكلام” أدواتها الصوتية المعبرة، فهو يجيد حينئذ نطق مقاطع معينة، وهو يلصق بهذه المقاطع شحنات من المعاني التي لا يظن الشخص العادي أنَّها لازمة لها ،ومع ذلك يفهمها أهل البيت.
هذه المرحلة التي أطلق عليها “جسبرسن” (مرحلة اللغة الصغيرة) ،هي أهم المراحل في نمو الطفل اللغوي ،لأنَّه يتهيأ آنذاك لتقليد من حوله في كلماتهم وإشاراتهم ،وتصرفاتهم ،ولقد يأتي من حركات هذا التقليد بما يضحك له الكبار ويستظرفونه منه ،ومع ذلك قد يكون هذا الاستظراف من علامات الخطر على نمو الطفل اللغوي ،وذلك في حالة ما إذا دأب الكبار على تأكيد نقص الطفل اللغوي ،فيشجعونه على مواصلة ظرفه ،ويتجه هو بفعل هذا التشجيع إلى تثبيت نواحي نقصه ،فيشب وتشب معه هذه النقائص الصوتية ،أو بعبارة أصح :الأمراض الكلامية التي لم تكن في مبدئها سوى انحرافات بسيطة ،كبرت مع الزمن ،ومع غفلة الكبار ،أو جهلهم.
والسلوك الطبيعي الواجب في هذه المرحلة ألاَّ يقلد الكبير الطفل في أداء مقاطعه ،بل يحاول أن ينطق أمامه نطقاً سليماً غاية السلامة لتأكد في سمعه وفي وعيه النماذج الصحيحة ،ويطمح هو بدوره إلى محاكاتها ،فيتقدم مع كل محاولة للمحاكاة خطوة في طريق نموه اللغوي السليم ،وتطوره نحو اللغة المشتركة .
ومن الصعوبات التي يواجهها الطفل في هذه المرحلة أنه ينطق بعض الأصوات نطقاً خاطئاً ،وهو خطأ ناشئ عن إدراكه الكلي لمجموعات الأصوات المتشابهة ،فهو يتصور الثاء والسين والشين والصاد بكيفية واحدة ،فينطقها جميعاً صوتاً أسنانياً ” ثاء” ،وهو يخلط بين اللام والراء فيوحدهما في صورة اللام ،وهولا يستطيع أن يؤدي صوتاً مفخماً ،بل يحاول أن ينطق المرقق دائماً ،فالضاد دال ،والطاء تاء ،والصاد ثاء ،”هي في الأصل سين ،والظاء ذال ،وهكذا ،ومن الخطأ أن يغفل الأبوان عن محاولة تصويب نطق الطفل في هذه المرحلة المبكرة،لا سيما المواقف الانفعالية التي تشد الطفل إلى محاكاة الكبار ليصبح مثلهم كبيراً ،أو ليرضيهم ويظفر بالحلوى أو القرش ،وهكذا ،ولقد يسهل عملية التصويب أن يدرك الأبوان ،ولو بصفة عامة بعض الأفكار عن آلية النطق ،فيسلكان في توجيه طفلهما مسلكاً مفهوماً ،وممكناً دون تهويل أو تضخيم للمشكلة. [ المرجع السابق : ص 89]
نتائج الدراسات المختلفة للنمو اللغوي للطفل:
هذا ونستنتج من الدراسات المختلفة للنمو اللغوي للطفل الآتي:
1- إنَّ صيحة البكاء الأولى للطفل لها أهميتها في أنّها أول خبرة تستعمل فيها الأعضاء الصوتية ،كما تسمح للطفل أن يسمع نفسه.
2- يجمع الباحثون على أنّ الأصوات الأولى التي يخرجها الطفل عبارة عن أفعال منعكسة ،وأنَّها خالية في بداية الأمر من أي معنى ،وتتخذ الأصوات المختلفة معان مختلفة بالتدريج نتيجة لتفاعل الطفل مع من حوله .
3- ويجمع الباحثون على أنَّ الأصوات الأولى للطفل عبارة عن حروف الحركة مثل آ ،أ ،أي أنَّ حروف الحركة هي الحروف الأولى التي تظهر في أصوات الطفل.
4- أنَّ أول حروف ساكنة تظهر في أصواته التي يخرجها هما الحرف م ،والحرف ب،وتكون وظيفة هذين الحرفين هي تعديل أصوات الحركة.
5- وتؤكد هذه الدراسات أنَّ حروف الشفة من الأحرف الأولى التي تظهر ضمن أصوات الطفل حين يضم شفتيه لإخراج الحرفين ،ب ،م.
6- لا تظهر أصوات الحروف المتحركة التي تخرج من متوسط الفم ،أو من مؤخرته إلاَّ في بداية الربع الثاني من السنة الأولى أي حوالي الشهر الرابع ،ولذا يبدو أن الحروف المتحركة تتدرج في الظهور من الأمام إلى الخلف ،إذ تظهر حروف الشفة أولاً ،ثمَّ حروف وسط الفم ،ثمَّ حروف مؤخرته.
7- – يكون متوسط محصول الكلمات عند الطفل في الشهر الحادي عشر ما بين ثلاث كلمات أو أربع ،ثمَّ يزداد محصوله اللغوي بسرعة زائدة في السنوات التالية حتى يصل إلى ما يقرب من 2500 كلمة في سن السادسة.
8- كثيراً ما يفهم الطفل معاني كلمات وجمل دون أن يستعملها مادام يسمعها من الآخرين.
تحصيل معاني المحسوسات لدى الطفل
من أول ما يحصله الطفل معاني المحسوسات لا سيما معاني الكلمات الدالة على أعضاء الجسم الإنساني ،وعلى الأدوات والموضوعات التي يستعملها ،ثُمَّ يحين وقت يدرك فيه أنَّ كلمة “عين” مثلاً تدل على هذا الجزء من جسمه ،وأنَّ “لبن” تعني هذا الذي يرضعه ،وأنَّ حمار تدل على هذا الجسم الذي يراه من وراء نافذته ،ويسع نهيقه . ولكن تحصيل هذه المعاني الحسية نفسها يستغرق منه وقتاً ،فهو قد يسمي كلاً من الخروف والبقرة والحصان “حماراً”، وقد يطلق على أنفه كلمة ” عين”، ولكنه عندما يتحقق من أنَّ العين “عين” ،نراه يطلقها على “عين” أمه أو أخته ،وعلى عين زائر من الزوار ،بل قد يوسع ذلك فيطلقها على عين ” القطة ” و”عين” الديك مثلاً .ولكن تعلم الطفل للمعنى لا يستمر على هذه الصورة البسيطة ،فإنَّه يسمع استعمالات لبعض الكلمات توقعه في الحيرة ،إنَّه يسمع استعمالات مجازية لبعض الكلمات التي تعلمها للدلالة على بعض أجزاء الجسم الإنساني أو بعض الأدوات والموضوعات ،وقد تكون الصلة قريبة بين الاستعمالات المجازية وبين تعلمه أولاً ،وقد تكون بعيدة، إنَّه تعلم أنّ الرجل هي ذلك الجزء من جسمه ،ثمَّ يسمع أمثال “رجل الكرسي”، و”رجل” المنضدة. و”عين ” إنَّه يسمع عبارات مثل “عين الإبرة” أي هذا الثقب الذي يدخل فيه الخيط ،”عين الجمل” إذا كان قاهرياً بمعنى “الجوز”، وإذا كان ليبياً فهو يسمع “عين المارة” للدلالة على موضع بعينه.
الخلاصة
أنَّه لا قدرة للطفل في هذه السن على التمييز بين الوظائف المختلفة لعالم الحيوان والنبات والجماد ،ومما يسهل عليه قبول هذه الاستعمالات المجازية أنَّه يرى أنّ كل شيء حوله حي ،لكل شيء حوله روح ،فمن اليسير عليه أن يتقبل أن يكون لكل شيء أذن وأنف وفم، بل إنَّه أحياناً ليبدأ بالسؤال عن “لسان التفاحة” ،وهو قد يتصور أنَّ البرتقالة تراه وتسمعه.
وكثيراً ما يستغل الأباء هذه الظاهرة للسيطرة على الطفل ،ولتخويفه وضمان طاعته ،فنحن نقول إنَّ “العصفورة” قالت لي عنه كذا وكذا ،وإنَّها تخبرنا بكل ما يفعله ،وبكل ما يدور في نفسه. وهكذا يرتفع المجاز إلى مستوى الأسطورة ،ولكن الأطفال لا يلبثوا أن يدركوا هذه “الأكاذيب في” سن مبكرة ،ولا سيما أطفال هذا الجيل ،وللأسف أنَّ الكثير من كتب الأطفال التي تنتجها مكتبات الأطفال اليوم ،وكذلك برامج الأطفال المسموعة والمرئية قائمة على هذه الأساطير التي كان الطفل قبل عقدين أو ثلاثة عقود يصدقها ،ولكن طفل اليوم من اليقظة والوعي ما جعله لا يستهويه هذا الأسلوب في مخاطبته ،فإدراكه يفوق هذا الأسلوب في لغة التخاطب ،وعلينا أن نبتكر طرقاً جديدة في مخاطبة أطفالنا تتفق مع مستوى ما وصلوا إليه من تفكير، والذي أراه أنَّ أطفال اليوم عقولهم وما يفكرون فيه يفوق سنهم.