أدونيس بين الإباحية والإلحاد (4)
أدونيس ورجعة فينيق والشلمغانية والحلاجية
د. سهيلة زين العابدين حمّاد
أدونيس ورجعة فينيق
لا زلنا بصدد الحديث عن الحلولية والتناسخ والرجعة عند أدونيس، فأدونيس لم يتحدث عن رجعة الإمام ( محمد بن حسن العسكري ) فقط وإنّما تحدث أيضًا عن رجعة فينيق وهي دعوة منه إلى الفينيقية التي ينادي بها الحزب القومي السوري لفصل سوريا عن جسم الأمة الإسلامية، والفينيقية تقابلها الفرعونية في مصر، والبابلية والآشورية في العراق، وهي دعوات استهدف منها أعداء الإسلام تفتيت الأمة الإسلامية وتمزيق أجزائها. ففي قصائد البعث والرماد تحدث عن هذه الرجعة ، فقال في ترتيله البعث ويرمز بالبعث للرجعة:
فينيق أنت يرى ظلامنا
يحس كيف نمحى
فينيق مت ندى لنا
فينيق ولتبدأ بك الحرائق
لتبدأ الشقائق
لتبدأ الحياة
يا أنت، يا رماد، يا صلاة
فينيق، يا فينق
في معزل عن الفراغ واليباب والدجى عن السوي
أرى إليك تجمع الزمان – هذا الحطب الحلوب مثل منبع ترفعه حريقة
أرى إلى جناحك انتشى، علا، هوى، أرى إليك في اللهيب غارقا
في معزل عن الرمال واليباب والدجى، أرى إليك لهبا أرى إليك حجرة غريبة
أليفة ضاحكة إلى الضحى، في عزلة عن الركام واليباب والدجى، أرى أرى
رمادك كأنّه استعادك، كأنّه أعادك.
ثم يقول فيها:
والله في قماطه، الله الذي تلبسه أيامنا
ثم يقول:
تحضنا الالوهة الرائحة التي تحس مثلنا – التي تحس معنا
فينيق خل بصري عليك، خل بصري
فينيق مت، فينيق مت
فينيق، تلك لحظة انبعاثك الجديد
ويكرر هذه العبارة في موقع آخر من القصيدة
ويختم القصيدة بقوله:
فخلني لمرة أخيرة احلم يا فينيق، احتضن الحريق، أغيب في الحريق
فينيق يا فينيق يا رائد الطريق
وقد ردد عبارة فينيق يا رائد الطريق في نشيد الغربة إذ نجده يقول:
مثلك يا فينيق يا حضن الربيع واللهب، يا طيري الوديع كالتعب، يا رائد الطريق
ويقول في قصيدة رماد عائشة:
عائشة جارتنا فينيقنا الجديد في حياتنا
كبيرة فارعه القوام تأخذ البصر
وتأخذ القلوب، يا فينيق، والفكر
كأنّها القمر
وفي قصيدة عودة الشمس يرمز إلى فينيق بالشمس فبقول:
وحينما تنتحب الأجراس والطريق
في هجرة الشمس عن المدينة
أيقظ لنا، فينيق، فهتف لرؤيا ناره الحزينة
قبل الضحى وقبل أن تقال
نحمل عينيه مع الطريق
في عودة الشمس إلى المدينة
وهكذا نجد أدونيس قد تحدث عن رجعة فينيق ترويحا لدعوة الفينيقية.
أدونيس والشلمغانية
لقد حرص أدونيس في شعره ومؤلفاته أن يمجد أقطاب الإلحاد والإباحية ونظرًا لتوافق الشلمغانية ودعوة القرامطة والحلاجية مع النصيرية في العقيدة والأهداف كان أدونيس حريصا على تسليط الأضواء عليها.
فمن هو الشلمغاني والحلاج ؟ وما هي علاقتهما بالنصيرية ؟ ومن هم القرامطة ؟
الشلمغاني
هو ” مشعوذ من مدعى الألوهية، وهو أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني نسبة إلى شلمغان من نواحي واسط كما يعرف باسم ابن أبي العزافر ( أو العزاقر ) وإليه تنسب العزافرة من فرق الملاحدة “. كان الشلمغاني في أول أمره من غلاة الشيعة ممن يعتقدون الحلول والتناسخ وانتهى إلى ادعاء حلول روح الله فيه وسمي نفسه روح القدس ووضع لأتباعه كتابا سماه ” الحاسة الخامسة ” من كلامه:
” أنّ الله يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل.. ” خلق الضد ليدل على المضدود وأنّ الضد أقرب إلى الشيء من شبهه، فمن ذلك أن حل في آدم لما خلقه وفي إبليس أيضًا وكلاهما ضد لصاحبه.. ” .
كما أباح العلاقات الجنسية وجعل له أتباعًا عرفوا بالعزافرة، وتستر عليه بعض رجال الدولة لأغراض، منهم ناصر الدولة الحمداني والوزير الحسين بن القاسم، وتفاقم خطره حين قدم بغداد عام 322هــ (934م ) فظفر به الخليفة الراضي العباسي (ابن المقتدر) وأباح الفقهاء دمه، فقتل صلبًا وأحرق وطرح رماده على دجلة.
علاقة الشلمغانية بالحلاجية والنصيرية
لقد كانت حركة الشلمغاني مؤصلة من حركة الحلاج وصادرة عنها ، وقد عقدت مقارنات بين الشلمغاني والحلاج، أمّا علاقة الشلمغاني بالنصيرية ، فهي علاقة وثيقة فعقيدتهما واحدة بالإضافة إلى رابطة النسب التي تربط الشلمغاني بمؤسس النصيرية، وقد عقد ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ مقارنة بين الشلمغاني ومؤسس النصيرية وتبيّن إنّهما متفقان في الإباحية وفي ترك الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.
والسؤال الآن: ماذا قال أدونيس عن الشلمغاني ؟
في مجموعته ( تاريخ ) وفي إحدى رقعاته ( موقعة من تاريخ سري الموت ) قال
أدونيس:
في السنة (….) للميلاد أو للهجرة
يفتي الفقهاء بصلب الشلمغاني ويحرق
يكون من مذهبه:
أ- الله يحل في كل شيء.
ب – خلق الضد ليدي على المضدود.
حل في آدم وفي إبليس
جـ – الضد أقرب إلى الشيء من شبيهه.
- الله في كل أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه.
هـ – الله اسم لمعنى.
و- من احتاج الناس إليه فهو إله.
لهذا المعنى يستوجب كل أحد أن يسمي إلها.
ز- ملاك من ملك نفسه وعرف الحق.
ويقول الشلمغاني:
اتركوا الصلاة والصيام وبقيه العبادات
لا تتناكحوا بعقد
أبيحوا الفروج
للإنسان أن يجامع من يشاء
ويقول الشلمغاني:
اقرأوا كتابي – الحاسة السادسة في إبطال الشرائع
الجنة أن تعرفوني النار أن تجهلوني
هذا هو التاريخ الذي يريد أدونيس أن نقرأه وقد جعل الجنة في معرفة الشلمغاني والنار في جهلة لأنَّ أدونيس صورة من الشلمغاني وشعره يدعو إلى ما يدعو إليه الشلمغاني وقد رأينا من خلال بعض شعر أدونيس أنّه أطلق الألوهية على كل شيء وقال بالحلولية والتناسخ، أمّا عن الإباحية في شعره فهي واضحة، وسأتطرق إليها عند الحديث عن إسقاط التكاليف الدينية وإباحة المحرمات في عقيدة النصيرية.
الحلاجية والتصوف
لا زلنا بصدد الحديث عن الحلاجية في عقيدة النصيرية الذي جاء شعر أدونيس مترجمًا لها وداعيًا إليها. ولهذا نجد سلطة الأضواء على الزنادقة الذين ادعوا التصوف أمثال الحلاج وابن عربي والسهردودي، كما نجد مجد القرامطة للاتصال الوثيق بينهم وبين النصيرية، ولتتضح لنا هذه العلاقة سأعطي موجزًا عن عقيدة الحلاج وابن عربي وأثر التصوف على شعر العربي الحديث ولنبدأ بـــ:
الحلاج والحلاجية
الحلاجية: فرقة عقائدية تنسب إلى الحلاج ” الحسين بن منصور ” ( المتوفى مقتولا عام 309هــ- 922م ) وتعتبر الحلاجية من فرق الحلولية. ويفسر الحلاج ذلك بقوله:” من هذب نفسه في الطاعة وصبر على اللذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين، ثم لا يزال يصفو ويرتقي درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسي بن مريم، فإذا ما وصل الإنسان إلى هذه المرتبة أصبحت جميع أفعاله من فعل الله تعالى، واعتبر الحلاج نفسه ممن وصل إلى هذه المرتبة وعبر عن ذلك بقوله:”أنا الحق “.
هذا وقد كانت للحلاج صلة بالقرامطة الذين هدفوا تقويض دعائم الدولة الإسلامية، كما أنّهم هاجموا بيت الله الحرام وقد قتل الحلاج في عهد المقتدر لتآمره على الدولة الإسلامية ولزندقتة ولادعائه الألوهية ؛ إذ أجمع العلماء على تكفيره، وقد أثار أدونيس قضية الحلاج وابن عربي لإثارة الشبهة حول الإسلام وموقفه من حرية الفكر وإحياء فكرة الحلولية لنشر العقيدة النصيرية، فكتب قصيدة أسماها ” مرثية الحلاج ” جعل فيها الحلاج كوكبًا يقول فيها:
ريشتك المسمومة الخضراء
ريشتك المنفوخة الأوداج باللهيب
بالكوكب الطالع من بغداد
تاريخنا وبعثنا القريب
في أرضنا في موتنا المعاد
الزمن استلقى على يدك
والنار في عينيك
مجتاحة تمتد للسماء
يا كوكبًا يطلع من بغداد
محملًا بالشعر والميلاد
يا ريشة مسمومة خضراء.
نلاحظ هنا قوله:
” تاريخنا بعثنا القريب في أرضنا في موتنا المعاد ” يرمز بهذا إلى عودة النصيرية وانتشارها الذي يخطط له من خلال شعرة وكتاباته. هذا وقد أشار أدونيس إلى الحلاج في “قصيدة هذا هو اسمي ” وقي قصيدة ” جامع الفناء ” وقد ذكر فيها أيضًا ابن عربي فيقول فيها، ” جنان ابن حيون، أفسحوا لابن عربي “.
أبو بكر محي الدين بن عربي ( أبو بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد العربي ولد في مرسية سنة 560هــ)، من أصحاب المذاهب في التصوف وعلم الكلام والفلسفة ويدور فكره حول مذهب وحدة الوجود وهو مذهب قديم كان معروفًا عند الهندوك القدماء والإغريق وشاع على أيدي فلاسفة الأفلوطنية الجديدة بالاسكندرية ومضمونة أنّ هناك تطابقًا بين الوجود ممثلًا في الكون وبين فكرة الألوهية أو بمعنى آخر هنالك وحدة بين الكون وخالقه، ومن ثم كان الوجود وحدة واحدة ،وإن كانت الحواس قاصرة على اكتشافها نظرًا لقصورها عن إدراك الكل ككل. ويلخص ابن عربي فكرة المطابقة بين الكون وخالقه بقوله:” سبحان من خلق الأشياء وهو عينها “، أي لا فرق بين الحق والخلق والواحد والكثرة والجوهر والأعراض والذات الإلهية والعالم الظاهري غير أنّ هذه المطابقة التي تقعد عن إدراكها الحواس والعقل لا تتكشف للعارف إلا بطريق الذوق. ومن ثم فإنّ ابن عربي لم يكن يري خلافًا بين الأديان؛ إذ أنّ المتعبد أيًا كان دينه فإنّه يسعى إلى تحقيق وحدته الذاتية مع الإله المعبود الذي هو العقل الأول والنفس الكلية والمادة الأولى. ويربط ابن عربي بين وحدة الوجود والإنسان الكامل خليفة الله في الأرض، فهو عنده الإنسان الذي تحققت بوجوده كل معاني الوجود والذي تجلى الله فيه في كامل صفاته، فمن ثم فإنّه لا يعرف الله تعالى حق معرفته سوى هذا الإنسان الكامل الذي يتمثل في الأنبياء والأولياء.
للحديث صلة.
البريد الالكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com