أدب ونقد

من سلسلة الفكر العربي تحت مجهر التصور الإسلامي

By 3 أسابيع مضىNo Comments

أدونيس بين الإباحية والإلحاد (2)

 د. سهيلة زين العابدين حمّاد

الشاعرأدونيس                                

 نظرة أدونيس إلى الإنسان والكون والحياة

    تتخلص نظرة أدونيس للحياة في أربع كلمات هي: حب وجنس وموت ورفض، فشعره وفكره لم يخرجا عن هذا الرباعي فجاءت لغته الشعرية لغة جسد وجنس وموت، والعبارات التي أستخدمها في شعره تدور في فلك جسد المرأة؛ إذ جعل من أعضاء جسدها – كنزار قباني – مفردات لغوية لشعره، فهو  ينظر إلى المرأة أنّها جسد خلق للذة والمتعة ، فجاء شعره يقطر جنسًا وإباحية وقد مجد في شعره الإباحيين والملحدين ممن ادعى بعضهم التصوف أمثال الشلمغاني والحلاج وابن عربي وبشار بن برد وأبي نواس والنفري، وبودلير ولينين. فالإباحية تمثل جزءًا من عقيدته النصيرية.

    والحياة في نظره  هي الحياة الدنيا،  فلم يتحدث عن الآخرة وعن البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار،  وإن تحدث عن البعث كان عن بعث فينيق رمز الفينيقية، التي يدعو إليها الحزب القومي السوري.

أمّا نظرته للإنسان فقد ألهه، فهو يعتقد كالنصيرية بالحلول والاتحاد والتأليه والتناسخ لذا كان كل شيء عند أدونيس إلهًا، كما أنّه قال كالوجودية بعبثية الخلق، وأنّ الإنسان خلق ليأكل ويلعب وينام ويشبع غريزته الجنسية.

خلاصة القول: إنّ نظرة أدونيس للحياة والإنسان والكون تمثل خليطًا من نظرة النصيرية والفرويدية والوجودية الملحدة والوثنية الإغريقية والماركسية، وإن كانت العقيدة النصيرية هي الغالبة على فكره وعلى كل ما كتبه فهو نصيري العقيدة، وهذا ما سيتضح لنا عند عرض نماذج من شعرة وفكره.

 النصيرية ومعتقداتها

      النصيرية تنسب إلى محمد بن نصير الفارسي الأصل الذي قال عنه النوبختي أنّه كان يدعى أنّه نبي بعثة أبو الحسن العسكري. وكان يقول بالإباحية للمحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم بعضًا ويزعم إنّ ذلك من التواضع والتذلل، وأنّه أحد الشهوات والطيبات وأنّ الله عز وجل لم يحرم شيئًا من ذلك.

ويقول أبو الفتح الشهر ستاني ( المتوفي سنة 548هـ/ 1155م):

” النصيرية والاسحاقية من جملة الغلاة ،ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية  على أنَّه أصل البيت. قالوا ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل، فمثله في جانب الحيز كظهور جبريل عليه السلام بصورة بشر مثله، وفي جانب الشر كظهور الشيطان وكظهور الحسن بصورة إنسان يتكلم بلسانه. ويقولون ولما لم يكن بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شخص أفضل من علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين من بعده باعتبارهم خير البرية فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم لذا سموا بالإلهية “

وقال عز الدين أبو حامد بن هبة الله المعروف بابن أبي الحديد ( المتوفى سنة 688 هـــ- 1269م):

” ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة بت سعيد العجلي وأمضوا في الغلو، فادعوا حلول الذات الالهية المقدسة في قوم من سلالة أمير المؤمنين ، وقالوا بالتناسخ وجمدوا البعث والنشور، واسقطوا الثواب والعقاب،  وقال قوم منهم: إنّ الثواب والعقاب إنّما هو ملاذ هذه الدنيا ومشاقها، وتولدت من هذه المذاهب القديمة التي قال بها سلفهم ومذاهب أفحش منها قال بها خلقهم حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية وهي التي أحدثها محمد بن نصير.

وهذا ويمكن تلخيص معتقدات النصيرية في الأصول الكبرى الآتية:

عقيدة الحلول والاتحاد والتأليه.

1- إسقاط التكاليف الدينية وإباحة المحرمات.

2- التأويل الرمزي الباطني.

3- عقيدة التناسخ ونفي البعث والعقاب والثواب.

4- التعاليم السرية.

  هذا ولمّا كان شعر أدونيس وفكره يعبر عن هذه المعتقدات فأستحدث عنها بشيء من التفصيل ، وسأستشهد بما جاء في شعر أدونيس، وما دعا إليه في مؤلفاته وتصريحاته ولنبدأ بـــ:                               

 أولا: عقيدة الحلول والاتحاد والتأليه

الحلول السرياني كما يعرفه الجرجاني هو عبارة عن اتحاد الجسمين بحيث يكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الأخر كمحلول ماء الورد في الورد فيسمي الساري حالا والسري محلا..

 أمّا الحلول من حيث هو اصطلاح فلسفي فهو يستعمل في علم الكلام في الإسلام للدلالة على الاتحاد الجوهري بين الروح والجسم، وكذلك يستعمل للدلالة على حلول الذات الإلهية في جسم الإنسان،  وقد رفض جميع المتكلمين المسلمين هذه النظرية وحكموا على الفرق الحلولية بالكفر والخروج من الدين. ومن أبرز تلك الفرق السبئية والبيانية والخطابية والنصيرية والمقنعية والحلاجية.

  وعقيدة النصيرية في القول بالحلول والاتحاد تقوم على الاعتقاد بجواز الانفصال والتجزئة في الألوهية وذلك بين الذات والصفات وجواز حلول الجزء المنفصل “اللاهوت ” في غير الذات الإلهية ” الناسوت ” ركن ثابت من أركان العقيدة المسيحية أقرته المذاهب المسيحية على اختلاف بينها في تصور عملية الانفصال ثم الامتزاج، والعلاقة بين طرفي اللاهوت والناسوت. وهكذا صار القول بالتثليث أصلًا اعتقاديًا  في المسيحية المُحرّفة فالله واحد في ذاته ثلاثة في صفاته.

  وهذا التصور للألوهية يناقض العقيدة الإسلامية  التي تقرر مبدأ الوحدة الذاتية المطلقة للإله، وما تقيمه من فصل وتمييز وتفرقة بين الربوبية وعالم الخلق، فلا حلول ولا اتحاد، ومن ثم لا يستقيم مع هذه العقيدة في الوحدانية الخالصة المنزهة عن المماثلة والمشابهة دعوى أن يهبط الإله ليحل في المخلوق، أو يرقى المخلوق عن عالم المحايثة والتشخيص ليتحد بالله تعالى في عالم التنزيه إلّا أنّ جماعات الغلاة، وتحت التأثير اللاشعوري لعقائدها التي آمنت بها طويلًا قبل دخولها الإسلام نادت بهذه العقيدة في دائرة الفكر الديني في الإسلام، فادعى أكثر من نفر منهم الألوهية للأئمة تارة ولذواتهم أخرى على سبيل الحلول والتناسخ، ولهذا جعل الشهرستاني هذا القول بمثابة التعريف الشامل لهم ولأبنيتهم الفكرية، فقال ” الغلاة اسم على أولئك الذين غلوا في الحق أئمتهم حتى أخرجوهم من صدور الخليفة ، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، فربما شبهوا واحدًا من الأئمة بالإله ـــ كما فعل بشّار الأسد ــ، وربما شبهوا الإله بالخلق وهم على طرفي الغلو والتقصير، وإنّما نشأت شبهاتهم عن مذاهب الحلولية،  ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى، فقد شبّه  اليهود الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق، فَسّرّتْ هذه الشبهات في أذهان الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في بعض الأئمة.

   هذا، وقد سرت هذه الفكرة إلى طوائف من الصوفية ممن زعموا إنَّ الألوهية تحل في العباد، وأنّ العبد إن تطهر بالمجاهدة الروحية، ونقي سرائره بالرياضة، اتصل بالله واتحد به، ثم اقترنت العقيدة بالحلاج والحلاجية، ولعل هذا يفسر لنا اهتمام أدونيس بالحلاج، وسأتحدث عن الحلاج عند عرض نماذج لشعر أدونيس.

    وقد اتخذ أصحاب الدعوات السرية الهدامة ممن جمعوا بين دعوى الألوهية والاشتغال بالسحر والشعبذة وإظهار المخاريق الحلاجية وسيله لهدم أركان الشريعة الإسلامية وضرب السيادة العربية معًا وفي آن واحد فكان المقنع يزعم لأتباعه أنّه ” هو الإله، وأنَّه أحد التجسدات التي تجسدها الروح القدس على أدوار متكررة “، ودعا إلى مثل عقيدتة ابن أبي القراقر الشلمغاني الذي عقد ابن الأثير صلة ربط وتشابه بينه وبين النصيرية والشلمغاني، ومن الشخصيات التي كتب عنها أدونيس قصائد،  ولنا وقفة مع الشلمغاني وأدونيس عند عرض النماذج الشعرية لأدونيس التي تبين إيمانة بالحلول والتناسخ، وهذا، وقد اتخذت العقيدة عند الغلاة عمومًا وعند النصيرية على وجه التخصيص صورة ملفقة تقوم على ثلاث أركان هي:

أولها: مستمدة من مذاهب الغنوصين التي تختلط فيها العناصر الدينية بمفردات من الفلسفة اليونانية وبخاصة الافلاطونية المحدثة ومذهبها في الفيض والصدور. وهذا يفسر لنا اهتمام أدونيس بالأساطير اليونانية.

أمّا الثاني: فيرتد إلى وثنية حران التي اعتمدت مبدأ الأفلاك والنجوم والكواكب والسيارة باعتبارها موجودات روحانية مفارقة ومجردة وهذه العقيدة عند النصيرية تبتدئ في إطلاق على الإمام اسم الشمس وأخرى اسم القمر حتى انشقت الطائفة على نفسها إلى فرقتين الشمالية وهي الشمسية والجنوبية وهي القمرية، والتي تقول أنّ عليًا هو ذات القمر وهو محجوب عن أعيننا.

   وبعد ما عرفنا عقيدة الحلول والاتحاد والتأليه عند النصيرية تعالوا نقرأ الأعمال الشعرية الكاملة لأ دونيس في المجلدين الأول والثاني، والتي حوت بين طياتها هذه العقيدة التي فكت الكثير من طلاسم وغموض أدونيس ،  ولقد فسرت لنا هذه العقيدة سر تشبيه أدونيس الخلق بالخالق والخالق بالخلق، كقوله ” ورأيت الله كالشحاذ في أرض علي “، ” هذا هو اسمي “[1]، وقوله في قصيدة ذاتها ” سقط الخالق في تابوته، سقط المخلوق في تابوته [2]” ، وقوله في قصيدة ” ليت الرماد ولا الريح “[3]  ” وللأرض إله أعمى يموت “، وقوله في قصيدة ” بابل مخاطبا هوذا بنو إسرائيل “:

                 هــــــوذا تــــغـــدو فلـــــــكــــــــا                  وتدور كواكب في قدميكا

                 هوذا: أغمضت جفوني                واستسلــــــــــــمت إليـــــكـــــــــــــــــا

ثم يقول:

           “أخلق بابل في الأجناس وفي الأنواع وأخلق بابل في الصلوات وفي الشهوات وأخلق بابل في الأرحام وفي الأكفان وأخلق بابل بين الخالق والمخلوق. وأخلق بابل في الأصوات وفي الأسماء وفي الأشياء وأظل اللهيب الضارب في الأشياء، خارج هذا الورق الرملي أوشق أنحائي بالضوء، برغبة إن ابقي خارج هذا الملك عصيا “.

    وقوله في قصيدة ” رؤيا ” [4]:

                     تقنعي بالخشب المحروق              يا بابل الحريق والأسرار

                             انتظر الله الذي يجئ

                               مكتسيا بالنار

                               مزينا باللؤلؤ المسروق

                               من رئة البحر من المحار

                               انتظر الله الذي يحار

                               يغضب يبكي ينحني يضئ

                               وجهك يامهيار

                              ينبئ بالله الذي يجئ

   ويقول في قصيدة “أورنيوس “[5] 

                             عاشق أتدحرج في عتمات الجحيم

                              إن لي موعدا مع الكاهنات

                              في سرير الإله القديم

                             كلماتي رياح تهز الحياة

                             وغنائي شرار

                             إنّني لغة لإله يجئ

                             إنني ساحر الغبار

   وقوله في مزمور:

                        ” أبحث عما يوحد بذاتنا الله وأنا، الشيطان وأنا، العالم وأنا وعما يزرع بيننا الفتنة “[6]

  وقوله في قصيدة ” نوح الجديد ” [7]

                          لو رجع الزمان من أول

                         وغمرت وجه الحياة المياه

                         وارتجت الأرض وخف الإله

                         يقول لي يا نوح أنقذ لنا

                         الأحياء – لم احفل بقول الإله

                         ورحت في فلكي، أزيح الحصى

                         والطين من محاجر الميتين

                        افتح للطوفان أعماقهم

                        اهمس في عروقهم أننا

                       عدنا من التيه، خرجنا من الكهف

                       وغيرنا سماء السنين

                       وأننا نبحر لا ننثني رعبا

                       ولا نصغي لقول الإله

  إلى أن يقول:

                      نمضي ولا نصغي لذاك الإله

                     تقنا إلى رب جديد سواه

                ولم يكتف أدونيس بهذا؛ إذ نجده غالى في عقيدته النصيرية ، وادعى أنَّ له إسراء ومعراج كإدعاء أبي يزيد البسطامي؛ إذ ادعى أدونيس أنَّ روح الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – قد حلت به وجاءه جبريل عليه السلام بالبراق وأسرى به إلى السموات السبع، وأنَّه التقى بعزرائيل ،وأنَّه صلى بالملائكة ركعتين وأنّه التقى بالذات العلية بلا حجاب !!

                     ما هي قصة الإسراء والمعراج التي ادعاها أدونيس ؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

البريد الالكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com


[1] – المجلد الثاني : ص 282.:

[2] – المجلد الثاني : ص 283.

[3] – المصدر السابق : ص 285.

[4] – المجلد الأول : ص 300.

[5] – المصدر السابق : ص 289.

[6] – المصدر السابق : ص 384.

[7] – المصدر السابق : ص 418.

Leave a Reply