د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 20 مارس 2024م.
لقد وضع الإسلام ضوابط لحرية الرأي والتعبير لئلا تخرج عن مداه، وتتجاوز الحدود، فيقع صاحبها في المحظور، ويتعدى على الذات الإلهية، أو ينال من أنبياء الله ورسله وكتبه وملائكته، ويتجاوز حقوق الآخرين، ويتعدى عليها، فيلحق بهم الأذى في مشاعرهم ، أو في أديانهم ومعتقداتهم، أو أعراضهم، أو في أموالهم، ومن هذه الضوابط:
- عدم التفكر في الله: فكما أعطى الإسلام للإنسان حرية التفكير، وشحذ همته ليتفكر ويتدبر، فقد منعه من أن يفكر فيما هو أكبر من قدراته حتى لو عاش مثل عمر كافة المعمرين في الأرض لما وصل بفكره إلى شيء من ذلك، وهو التفكير في ذات الله سبحانه وتعالى، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم “تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله”[صحيح الجامع الصغير(2972)، وقال الألباني حديث حسن عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما.]
- لقد أمر الإسلام بالتفكير في كل ما فيه الخير والصلاح للفرد والمجتمع، أمَّا التفكير السيئ، فقد أمر الإسلام بالإحجام عنه، وعدم التحدث به، وقد تجاوز الله تعالى عن هذه الأمة ما تحدث بها نفسها، لقوله صلى الله عليه وسلم :”إنَّ الله عزَّ وجل تجاوز لأمتي عمَّا حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به.”[ رواه مسلم(127) كتاب الإيمان.]
- عدم التعدي على الذات الإلهية بوصفها بما لا يليق أو رسمها، لقوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]
- عدم التعدي على أنبياء الله ورسله وكتبه وملائكته .
- أن يطابق قوله مبادئ الإسلام، قال تعالى:(وَلاَ تقُوُلُوا عَلى اللهِ إلاَّ الحقَّ)[النساء: 171]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به.”[ ذكره الإمام النووي في الأربعين النووية، وقال حديث حسن صحيح، وانظر كنز العمل (1084)، وقال حديث غريب.]
- مراعاة القيم الإسلامية، فلا كذب ولا غيبة، ولا نميمة، ولا زور، ولا فحش، ولا همز ولا لمز، قال تعالى:(وّهُدُوا إلى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ* وَهُدُوا إلى صِرَاطِ الحميد)[الحج: 24] وقال صلى الله عليه وسلم:” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”[صحيح البخاري(1/51-52)، صحيح مسلم برقم (42) وقال صلى الله عليه وسلم:” ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش البذئ”[مسند الإمام أحمد (1/405)]
- الستر وعدم إشاعة الفاحشة، وعدم الخوض في أعراض الناس لقوله تعالى:(إنَّ الذين يُحِبُّون أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لُهُمْ عذّابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنيا والآخِرة واللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون)[النور: 19] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:”إنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت”[رواه البخاري]
- أن يكون القول صادقًا لا كذبًا، وأن يكون سديدًا ثابتًا مبنيًا على الحقيقة لا على الظن، قال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فقدْ فّازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، وقال تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إَنَّ بَعْضَ الظِّنِّ إِثْمٌ)[الحجرات: 12] ،,قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب عن المزاحة، ويترك المراء، وإن كان صادقًا”[رواه الإمام أحمد.]
- أن يكون خيرًا لا شر فيه :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.)[رواه البخاري ومسلم]
- أن يكون القول حقًا وعدلًا لقوله تعالى:(وَإِذّا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا ولوْ كانَ ذّا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذّلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تّذّكَّرُون)[الأنعام: 152]
- مراعاة صلاح النية وحسن القصد لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنَّما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى”[رواه البخاري ومسلم]
- ألاَّ يخوض في ما ليس به علم، لقوله تعالى:( ّلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علمٌ إنَّ السمعَ والبصَرَ والفُؤاد كُلُّ أولَئِكَ كَان عنْه مسؤولًا)[الإسراء:36]
- تحري الصدق في تلقي الخبر، قبل التعبير عنه ونشره، فقد ينقله مغرض فاسق، يستهدف الإساءة للآخرين، فيندم من بنى فكره وعبِّر عنه عن ذاك الخبر الكاذب المغرض، فيندم على ذلك، وقد يسبب أزمة سياسية، أو اقتصادية تعود على بلده ومجتمعه بالخسارة والضرر فيندم على بناء فكره على خبر كاذب، يوضح هذا قوله تعالى:(يا أَيُها الذين آمنُوا إنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فعَلْتُمْ نَادِمِين)[الحجرات:6]
ووقفة منا أمام ضوابط حرية الرأي والتعبير في كل المواثيق الدولية، وأمام ضوابط حرية الرأي والتعبير في الإسلام نجد أنَّ تلك المواثيق لم تأت بجديد، فقد سبقها الإسلام بأربعة عشر قرنًا، بل كان أكثر حرصًا على الصالح العام، في تحري الإنسان الصدق فيما يتلقاه من أخبار، وأن لا يبني رأيه على الظنون، وفي عدم الخوض فيما ليس له بعلم، وأن يقول خيرًا أو يصمت، وبذلك كفل الإسلام كل إيجابيات حرية الرأي والتعبير، وحمى الإنسانية من سلبياتها وأضرارها.
وهكذا نجد أنَ الحرية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير في تاريخ العالم، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ومنح مخالفيه في العقيدة، كل أسباب الحرية، كما فعل الإسلام، وهذه الحرية الفكرية التي نادى بها الإسلام هي التي صاغتها هيئة الأمم المتحدة في ميثاق حقوق الإنسان في المادة التاسعة عشرة عن حرية التعبير، والتي جا فيها “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير …” والذي تمَّ إعلانه في ديسمبر عام 1948م، وكما رأينا فإنَّ جميع المواثيق الدولية أوربية كانت أو أمريكية أو أفريقية جاءت في عام 1948، وما تلاه من أعوام، وهذا يعني أنَّ المجتمع الدولي والعالم الغربي لم يعرف حرية التعبير إلاَّ في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، بينما عرفها المسلمون في أوائل القرن السابع الميلادي ، أي عهد المسلمين بحرية الرأي والتعبير منذ هذا القرن ، بمعنى أنَّهم سبقوا العالم في معرفتها بأربعة عشرقرنًا، وفي تنفيذها وتطبيقها، ومع هذا نجد هناك من الأوربيين من يتهم المسلمين بسوء فهمهم لحرية التعبير، وأنَّهم لا يدركون أبعادها، وهذه مغالطة كبرى يدحضها ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة ،والشواهد التاريخية التي وثّقها التاريخ الإسلامي .
البريد الالكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://nz.sa/kABrY