د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 17/ 4/ 2024م.
إنّ استخدام اللهجة العامية المصرية في الأعمال الدرامية التاريخية كالإمام الشافعي والحشاشين محاولة لإحياء دعوات المستعمر الغربي استخدام اللهجات العامية بدل الفصحى، التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر فمن أهم أهداف الاستعمار القضاء على اللغة العربية حتى يضمن بذلك قطع الصلة بين المسلمين وتاريخهم وتراثهم العربي الإسلامي، خاصة كتاب الله الذي يريدون أن يصبح كتابًا غير مفهوم إذا هجروا الفصحى واكتفوا باللهجات المحلية، فقد اهتم المستعمرون بتدريس اللهجات العربية العامية في مدارسهم وجامعاتهم مستعينين في ذلك بالعرب الذين كانوا يعملون في بلادهم، ففي إيطاليا درست العربية العامية في مدرسة نابولي للدروس الشرقية، وكذلك في النمسا أنشئت مدرسة فينا، أطلقوا عليها اسم “مدرسة القناصل”، وكذلك في فرنسا وروسيا والمجر وانجلترا.
وكان من نتيجة ذلك ظهور كتب كثيرة في اللهجات العامية منها ما ألفها أبناء العربية بإيعاز منهم سواء في العربية مثل كتاب” أحسن النخب في معرفة لسان العرب” لمحمد عياد الطنطاوي، وكذلك كتاب ميخائيل الصباغ والمعنون” الرسالة التامة في كلام العامة والمناهج في أحوال الكلام الدارج”، ومنها ما قاموا هم أنفسهم بتأليفها وهي كثيرة اختص كل منها بدراسة لهجة من لهجات الأقطار العربية مثل اللهجة المصرية والسورية والعراقية والتونسية والمراكشية.
هذا ويعتبر كتاب “قواعد العربية العامية في مصر” للدكتور ولهلم سيبتا، الرائد الأول لكل من كتب في العامية المصرية، ففي كتابه هذا انبثقت الدعوة الى اتخاذ العامية لغة أدبية، ومن هذا الكتاب انبعثت الشكوى من صعوبة العربية الفصحى. فهذا الكتاب يعتبره الباحثون أول محاولة جدية لدراسة لهجة من اللهجات العربية المحلية، فهذا الاهتمام لم يكن من أجل البحث العلمي كما يزعمون، ولا من أجل حاجتهم إلى معرفة لهجات البلاد العربية التي تقتضي مصالحهم أن يعيشوا فيها ويتعاملوا مع أهلها، وإنّما من أجل القضاء على العربية الفصحى وإحلال العامية محلها. بالإضافة إلى أنّها كانت أحد أهداف الاستعمار البريطاني في فصل المسلمين والعرب عن ماضيهم وتفتيت وحدتهم اللغوية بالقضاء على العربية الفصحى كما شرحها المستشرق القاضي الانجليزي لسلدن ولمور في كتابه ” العربية المحكية في مصر”.
ومن هذه الكتب أيضًا كتاب “اللهجة العربية الحديثة في مصر” للمستشرق الألماني كارل فولرس، وقد انتهج فولرس نهج “سيبتا” في التقليل من شأن اللغة العربية الفصحى وأهميتها، هذا بالإضافة إلى العشرات من الكتب التي عملت على تغريب اللغة عن أهلها.
والملاحظ أنّ أغلب الكتب التي ألفها الأوروبيون في العامية المصرية، تتفق على الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة الأدب، وعلى استبدال الحروف اللاتينية بديلًا عن العربية، وبالطبع على الشكوى من صعوبة اللغة العربية، وقد وصلت إلينا هذه الدعوات مستترة تحت ستار البحث العلمي البحت لدراسة لهجة محلية من اللهجات العربية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما شأن الأوربيين باللغة العربية حتى يطالبون بتغيير حروفها إلى اللاتينية، واستبدال الفصحى باللهجات العامية؟
أين هم من اللغتيْن الصينية واليابانية اللتان تطلَّبان إتقان اللغة المكتوبة حفظَ العديد من الحروف، فالرجل الصيني المثقَّف يحفظ في المتوسط 4,000 حرفًا، وأمّا الياباني فنحو 3,000 حرفًا. فاللغة الصينية ليست لها حروفًا أبجدية بل تتضمن أشكالًا مكونة من مقاطع صوتية. فاللغة الصينية المكتوبة هي الصورة المكتوبة من الحروف الصينية المستعملة في تمثيل اللغة الصينية المحكيَّة. لا تمثّل الحروف الصينية أبجدية حقيقية ولا نظامًا كتابيًا مقطعيًا، إنَّما هي رسوم لفظية، بمعنى أنّ كل حرفٍ في اللغة يمثّل مقطعًا لفظيًا كاملًا مستقلًا، فيكون كلُّ حرفٍ ممثلًا لكلمة واحدةٍ فقط أو جزء منها. من هذا المنطلق، لا ترتبط أشكال الحروف الصينية المكتوبة بأي نطقٍ حقيقي، بل هي محض صورٍ ممثلة لكلمات لا بد على متعلّم اللغة من حفظها صورةً صورة (عددها بالآلاف)، وكثيرًا ما تكون أشكال هذه الحروف مرتبطة بالمعاني التي تمثلها، كالأجسام الفيزيائية،وغيرها[ https://2u.pw/1H1x6I2]
فهل الفصحى العربية أكثر صعوبة من اللغتيْن الصينية واليابانية حتى يتركهما الغربيون ويصبُّون جل اهتمامهم على هدم الفصحى العربية والدعوة إلى استبدالها بالعامية تحت ذريعة صعوبتها، مع إغراق العالم العربي بالمدارس الأجنبية التي تستبعد اللغة العربية من مناهجها بعدما فشلت دعواتهم إلى العامية ومؤلفاتهم فيها؟
وللإجابة عن هذا السؤال أقول :
أولًا: لم ينزل قرآنًا باللغة الصينية أو اليابانية حتى يحاربوها محاربتهم للعربية الفصحى.
ثانيًا: لم يُفرط الصينيون واليابانيون في لغتهم الأم التي توحدهم وتحافظ على هويتهم وتحفظ حضارتهم وتراثهم، ويستبدلوها لصعوبتها وباللغة الإنجليزية في مدارسهم وجامعاتهم، وبلهجاتهم المحلية في حياتهم اليومية ممزوجة بكلمات إنجليزية، كما فعل بعض العرب.
ثالثًا: لم تكن الصين ولا اليابان مهد الأديان والرسالات، وذات موقع استراتيجي فريد ،ومطمعًا للمستعمر الغربي ليحتلها، وينهب خيراتها، إضافة إلى أنّ شعب الصين يبلغ الآن1,425,331,156نسمة أي حوالي ضعف شعوب أوروبا بأكملها البالغ عددهم 717,440,184 نسمة .
إنّ اللغة العربية الفصحى لغة الفرآن الكريم الذي يقرأه ملياري مسلم على اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وثقافاتهم، و كانت لغة العلوم والآداب في جميع أنحاء العالم الإسلامي لقرون عديدة، ولو كانت بالصعوبة التي يتحدث عنها الأوروبيون لما انتشرت كل هذا الانتشار، ولما امتلأ العالم الإسلامي بحفظة القرآن الكريم على اختلاف أعمارهم ولغاتهم وثقافاتهم.
إنّ الدعوة الأجنبية باتخاذ العامية أداة للتعبير الأدبي التي ظهرت في القرن التاسع عشر هدفها محاربة الفصحى لإبعاد المسلمين العرب عن القرآن الكريم وفهمه، وإفقادهم هويتهم قد عادت إلى الظهور بقوة في الآونة الأخيرة من خلال بعض صٌناع الدراما العربية التاريخية، وأيّدهم البعض الذين للأسف لم يدركوا أبعاد ودلالات استبدال الفصحى بالعامية في الأعمال الدرامية التاريخية، التي منها مضاعفة الفجوة بين الفصحى وأبنائها بعد غزو المدارس والجامعات الأجنبية البلاد العربية التي جعلت من لغاتها لغة التعليم والعمل إلى أن أصبح الوضع ضعف عام للغة الفصحى بين أبناء وبنات هذا الجيل الذي امتد إلى الإعلام في عالمنا العربي بجوانبه الثقافية، والفنية، والفكرية، تغلفه الركاكة، والضعف، والجنوح، نحو اللهجات العامية مع استخدام كلمات إنجليزية، بل أصبحت تقدم برامج ومسلسلات بأسماء أجنبية!
إنّ القارئ للصحف والمستمع إلى نشرات الأخبار، ومحطات الإذاعة، والمشاهد للقنوات العربية الفضائية يشعر بمدى الضعف الذي تعانيه عربيتنا المستعملة فيها، إضافة إلى فقدان بعض شبابنا هويتهم العربية والإسلامية، فالعولمة استطاعت أن تجذبهم إلى الآخر إلى درجة الذوبان، حتى باتوا يخلطون لغتهم الأم بالإنجليزية، كل هذا يعطينا مؤشرًا خطيرًا؛ لذا كان من أهم أهداف وبرامج رؤية المملكة 2030 تعزيز القيم الإسلامية والهوية الوطنية، وباعتبارها مهد اللغة العربية، ونزل في أراضيها القرآن الكريم أقترح أن تتولى المملكة العربية السعودية إعداد مشروع النهوض باللغة العربية في العالم العربي وتقدمه لوزرات التعليم في البلاد العربية، ووسائل الإعلام العربية المختلفة لننهض بواقع اللغة العربية من الانحدار الذي وصلت إليه، إلى الدرجة التي نطمح إليها، فهي أكثر الوسائل والوسائط الممكنة والمتاحة تواصلًا وتعاملًا وتفاعلًا مع الإنسان، وهي ذات تأثير بالغ في تشكيل عقل هذا الإنسان، وفكره، إضافة إلى ضبط لسانه وصياغته.
البريد الالكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://nz.sa/sRLoP