3-حقوق الإنسان

أثر حرية التعبير على النهضة العلمية في الإسلام

By شهر واحد مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 24 إبريل 2024م.

كان من نتيجة حرية التعبير  التي تمتع بها العلماء والمفكرون المسلمون في العهود الإسلامية الأولى  أن سلكوا السبل التي يريدونها، وطرقوا الدراسات التي يرغبونها، لا يقف أمامهم الإسلام أو الدولة المنبثقة عنه، وأنتج هذا ازدهار العلوم والثقافة، وامتلاء المكتبة الإسلامية بالذخائر الثقافية المختلفة من شتى العلوم والفنون في الفلسفة والمنطق ،والتوحيد والأصول والفقه والطب والكيمياء والطبيعة والهندسة والرياضيات والفلك والجغرافيا، وغير ذلك ممَّا دفع بالإنسانية خطوات كبيرة إلى الأمام، وكان أساسًا في إقامة النهضة الأوربية الحديثة.

فنشأت بذلك نهضة علمية في كل فروع العلم والمعرفة، بينما كانت أوربا في ظلام دامس وصراع مستمر، وكان الجهل سائدًا، وكان العقل والفكر في نوم عميق.

ولو  تتبعنا تطبيق مبدأ حرية التعبير في الدولة الإسلامية من الناحية العملية نلاحظ ما يأتي:

  1. أنَّه فيما يتعلق بالأمور ذات الصبغة الدينية، أو الشرعية، فإنَّ حرية الرأي كانت مكفولة بصورة عامة منذ ظهور الإسلام إلى أن أقفل باب الاجتهاد في الدين في القرن الرابع الهجري /الحادي عشر ميلادي، إذا استثنينا حوادث قليلة منها موقف الخليفة العباسي المأمون من موضوع خلق القرآن.
  2. وفيما يتعلق بالصبغة السياسية فقد كانت هذه الحرية مكفولة إلى حد بعيد، وأشير إلى حدث هام حدث في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذلك عندما انشق عليه الخوارج، وكانوا حوالي ثمانية آلاف، أرسل إليهم ابن العباس ليناظرهم، فاستطاع أن يقنع الكثيرين منهم بالحجة حتى عاد أربعة آلاف، أمَّا من تبقى فقد أرسل إليهم علي رضي الله عنه كتابًا يقول فيه:” كونوا حيث شئتم ، بيننا وبينكم ألاَّ تسفكوا دمًا حرامًا، ولا تقطعوا سبيلًا ولا تظلموا أحدًا، فإن فعلتم نُذر الحرب معكم لا نبدأ بقتال ما لم تُحدثوا فسادًا.”
  3. أمَّا حرية الرأي في المسائل العادية، وخاصة في الميدان العلمي، فقد كانت مكفولة بصورة تامة حتى أنَّ المؤرخين كانوا يقولون ما يريدون في ظل الحكومات التي يخالفونها الرأي والاتجاه. وفي هذه البيئة الصالحة انطلق العلماء في البحث العلمي .

     وهناك شهادات من  علماء  غربيين على أثر حرية الفكر والعلم في الإسلام على الحضارة الإنسانية، يقول المسيو” سيديو” الوزير الفرنسي الأسبق، وأحد علماء الغرب المنصفين في كتابه ” خلاصة تاريخ العرب”:”لم يشهد المجتمع الإسلامي ما شهدته أوربا من تحجر العقل وشل التفكير، وجدب الروح، ومحاربة العلم والعلماء، وإنزال أقسى العقوبات وأقصاها بالمفكرين من أجل أفكار تبدو لنا عادية كانوا يعلنونها في سبيل التجديد والإصلاح، ويذكر التاريخ أنَ عدد الذين عوقبوا في أوربا بلغ ثلاثمائة ألف حرق منهم اثنان وثلاثون ألفًا أحياء كان منهم العالم الطبيعي”بورنو”، وعوقب العالِم “جاليلو” بالقتل، لأنَّه اعتقد بدوران الأرض حول الشمس، وحبس “دي رومانس” في روما حتى مات، ثُمَّ حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها بالحرق، وألقيت في النار، لأنَّه قال:” إنَّ” قوس قزح”  ليست قوسًا حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إذا أراد، بل هي انعكاس ضوء الشمس في نقط الماء، وأصاب “جيوفث” في جنيف، و”غايتي” في تولوز ما أصاب هؤلاء، وحرقا مشيًا على النَار، ولا جدال في أنَ تاريخ الإسلام لم يعرف هذا الاضطهاد الشنيع لحرية الفكر والعلم الذي عرفته أوربا”[د. عز الدين فراج :.فضل علماء المسلمين على الحضارة الأوربية، ص 246.]

ثمَ يقول المسيو” سيديو”:”عندما أتى النبي محمدــــ صلى الله عليه وسلم ــــ وجَّه أفكار الأمة العربية إلى مقصد واحد أعلى شأنها، حتى امتدت سلطتها من نهر التاج المار بأسبانيا والبرتغال إلى نهر ـ الكنج ـ وهو أعظم أنهار الهند، وانتشر نور العلم والتمدن بالشرق والغرب، وأهل أوربا؛ إذ كان ذلك في ظلمة القرون المتوسطة وجهالتها وكان لدى العرب من العلم والصنائع والاستكشافات ما استفاده المسيحييون في أسبانيا حين تمَّ طردهم منها.”[المرجع السابق: 247.]

 ويقول المسيو سيديو في نهاية كتابه :” لقد كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة فنشروه حيث وطئت أقدامهم، وكانوا هم السبب في خروج أوربا من الظلمات إلى النور”[ المرجع السابق: ص 247.]

وقد وصف المفكر الأوربي الكبير ” داربر” الحياة الإسلامية عندما  كانت أوربا في قرونها المظلمة، فقال: ليست أوربا أرقى حضارة، ولا أرقى تقدمًا،  ولا أعلى ذوقًا، ولا أجمل مظهرًا، ممَّا كانت عليه الحضارة الإسلامية في بغداد والأندلس، يوم أن كانت أوربا غارقة في جهلها وظلامها … كانت شوارع المسلمين في أيَّام حضارتهم الزاهية مضاءة، مبلطة بالأحجار، وكانت بيوتهم مفروشة بالطنافس، ومدفأة بالمواقد، ومعطرة بالروائح، وكانت لهم جوامع كثيرة، ومكتبات مرتبة، ومستشفيات منظمة، وحمّامات نظيفة، غير ما كانوا عليه من حرية وحب وإخاء وتراحم.”[المرجع اسابق: ص 4]

ويقول المفكر الإنجليزي الكبير” جورج سارتون”:” حقَق العرب عباقرة الشرق أعظم المآثر في القرون الوسطى ، فكتبوا أعظم المؤلفات قِيمة، وأكثرها نفعًا باللغة العربية التي كانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الراقي عند الجنس البشري كله، حتى كان من الضروري لأي فرد  إذا أراد أن يلم بثقافة هذا العصر ـ أن يتعلم اللغة العربية، لقد فعل ذلك كثيرون من غير الناطقين بها.”[المرجع السابق: ص 255.]

ويقول العالم “ليبري”:” احذفوا العرب من التاريخ يتأخر عصر النهضة في أوربا عدة قرون، فقد لمع العرب في كل الميادين العلمية، وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء والأدباء والفقهاء يقومون بأدوارهم في نهضة العرب الروحية والنفسية والأخلاقية، كان العلماء في كل الميادين يقومون بقسطهم من البحث والتقل والتجويد، لم يدعوا بابًا إلاَ طرقوه.”[المرجع السابق: ص 255.]

السؤال الذي يطرح نفسه هنا:

 ما الذي ينقصنا تحن أحفاد هؤلاء العلماء العظماء لتواصل هذا التفوّق في الإبداع والابتكار والاختراع والاكتشاف لنعود إلى أمة منتجة أكثر ممّا هي مستهلِكة كما هي الآن، ونُصدّْر للعالم نتاج عقولنا وعلومنا أكثر ممّا نستورده منه؟

 متى ستتوقف هجرة العقول العربية والمسلمة إلى أوروبا وأمريكا التي تحقق إنجازات علمية كبرى تنسب إلى تلك الدول الحاضنة لها ؟

 وهنا أناشد عرّاب رؤية المملكة 2030 صاحب السمو الملكي محمد بن سلمان ولي العهد السعودي أن تتبنى المملكة العربية السعودية  كل العقول العربية والإسلامية المهاجرة، بأن تكون البيئة العلمية الحاضنة لها ولاختراعاتها وأبحاثها واكتشافاتها، فتعود أرض الجزيرة العربية مهد الحضارات الإنسانية القديمة، ومهد الحضارة الإسلامية سيدة الحضارات الإنسانية إلى مكانتها كمركز إشعاع حضاري للعالم بأسره.

البريد الالكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال : https://2u.pw/kMQ3tYE8

Leave a Reply