د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 4 / 9/ 2024
سأتوقف في هذه الحلقة عند الطوفان في الروايتيْن التوراتية والقرآنية، وسأبدأ بالرواية التوراتية، ففي الإصحاحات 6، 7، 8 من سفر التكوين مخصصة لرواية الطوفان، ولكنها تتضمن روايتين منفصلتين في مقاطع متداخلة كل في الآخر مما يجعلها تتناقض مع بعضها البعض تناقضًا صارخًا حيث يحاول اليهود تعليل هذا التناقض بسبب اختلاف مصدريهما، أي المصدر اليهودي، والمصدر الكهنوتي، والرواية في شمولها هي كما يلي:”ولما عم الفساد البشر أراد الله تعالى تدميرهم، فحذّر نوحًا وأمره بناء السفينة التي سيدخل بها وزوجته وأولاده الثلاثة بزوجاتهم الثلاث وكائنات أخرى حية.”
وحسب الرواية التوراتية تبين أنّ الطوفان عمّ كل الجنس البشري وكل الكائنات الحية التي خلقها الله تعالى قد فنيت[مةريس بوكاي: ص 155]
وعندئذ يتساءل موريس بوكاي:هل من المعقول أنّ البشرية قد أعادت تكوين نفسها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم في هذا الزمن القليل، ويقرر بناء على هذه الملاحظة البسيطة عدم معقولية هذا النص.
أما الملاحظة الثانية فتتضح على ضوء المعارف الحديثة التي تثبت استحالة صحة رواية الطوفان الواردة في التوراة : وتوضيح ذلك أنّ الطوفان حسب تقدير هذه الرواية يكون قد وقع في القرن ال21، أو ال 22 قبل الميلاد أي في العصر كانت طهرت قبله في نقاط مختلفة من الأرض حضارات انتقلت أطلالها للأجيال التالية، وهو ما تؤكده المعارف التاريخية الحديثة، ففي مصر مثلًا يقابل التاريخ(2100 قبل الميلاد)الفترة الوسطى الأولى قبل الأسرة الحادية عشرة وفي بابل أسرة أور الثالثة.
وعلى ذلك يتضح أنّه لم يحدث انقطاع في هذه الحضارات، وبالتالي لم تفن البشرية كلها كما تقول التوراة، فالنصوص التوراتية التي وصلتنا لا تعبر عن الحقيقة، ممّا يؤكد تعرضها إلى تحريف من البشر.[موريس بوكاي. مرجع سابق. ص 52- 54 بتصرف]
رواية الطوفان في القرآن الكريم
على حين تتحدث التوراة عن طوفان عالمي لعقاب كل البشرية الكافرة، يشير القرآن على العكس إلى عقوبات عديدة نزلت على جماعات محدودة جدًا تشير إلى ذلك الآيات من 35 إلى 39 من سورة الفرقان(وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَا مَعَهُۥٓ أَخَاهُ هَٰرُونَ وَزِيرٗا * فَقُلۡنَا ٱذۡهَبَآ إِلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَدَمَّرۡنَٰهُمۡ تَدۡمِيرٗا*وَقَوۡمَ نُوحٖ لَّمَّا كَذَّبُواْ ٱلرُّسُلَ أَغۡرَقۡنَٰهُمۡ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ لِلنَّاسِ ءَايَةٗۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمٗا*وَعَادٗا وَثَمُودَاْ وَأَصۡحَٰبَ ٱلرَّسِّ وَقُرُونَۢا بَيۡنَ ذَٰلِكَ كَثِيرٗا*وَكُلّٗا ضَرَبۡنَا لَهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَۖ وَكُلّٗا تَبَّرۡنَا تَتۡبِيرٗا)[ الفرقان: 35 -39]
أمّا سورة الأعراف، فالأيات من 59 إلى 93 فتقدم العقوبات التي نزلت على شعب نوح وعاد وثمود وسدوم ومدين كل على حدة.
وعلى ذلك فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقابًا نزل بشكل خاص على شعب نوح: وهذا يشكل الفرق الأساسي الأول بين الروايتين، أمّا الفرق الجوهري الثاني فهو أنّ القرآن، على عكس التوراة، لا يحدد زمن الطوفان، ولا يعطي أية إشارة على مدة الكارثة نفسها.[موريس بوكاي، مرجع سابق. ص 247 -248]
وفي نهاية الأمر فالاختلافات بين روايات القرآن والتوراة موجودة وهامة، ويتضح تمام الوضوح عدم إمكانية اتفاق رواية التوراة في تقديمها للطوفان بزمنه ومدته مع مكتسبات المعرفة الحديثة، وعلى العكس من ذلك فإنّ رواية القرآن تتضح خالية من أي عنصر مثير للنقد الموضوعي.[المرجع السابق: 248]
وممّا يثير الدهشة والاستغراب قول الأستاذ الحواس تحت عنوان(بين الرواية القرآنية والرواية التوراتية ):”تحتوي الرواية القرآنية على العناصر الرئبسة للقصة التوراتية، وتسير على التوازي معها، ولكن باستخدام الأسلوب المكثف الموجز الذي يقفز فوق التفاصيل.”[ ص 215]
أي مغالطة هذه ؟
كيف الرواية القرآنية للطوفان تحتوي على العناصر الرئيسة للرواية التوراتية، والرواية التوراتية قائمة على أنّ الطوفان عمّ البشرية بأكملها، بينما الرواية القرآنية قائمة على أنّ الطوفان كان عقابًا نزل بشكل خاص على قوم نوح: وهذا يشكل الفرق الأساسي الأول بين الروايتين ــ كما قال الأستاذ موريس بوكاي، وهناك فرق جوهري أنّ القرآن، على عكس التوراة، لا يحدد زمن الطوفان، ولا يعطي أية إشارة على مدة الكارثة نفسها.
إنّه قال قوله هذا، وهو يعلم مدى مخالفته للحقيقة ليؤكد فرضتيه أنّ القصص القرآني نُقل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع السابقة، ولم يجد ما يؤكد فرضيته هذا فدّس مغالطته هذه.
إنّ مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علمبًا وتاريخيًا، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تمامًا مع المعطيات الحديثة، ولقد رأينا دليلًا على هذا من خلال روايتي الخلق والطوفان، وعلى حين نجد في نص القرآن، بالنسبة لتاريخ خروج موسى، معلومة ثمينة تضاف إلى رواية التوراة، وتجعل مجموع الرواتيْن يتفق تمامًا مع معطيات علم الآثار بما يسمح بتحديد عصر موسى، نجد فيما يتعلّق بموضوعات أخرى، فروقًا شديدة الأهمية تدحض كل ما قبل ادعاء – ودون أدنى دليل – عن نقل محمد صلى الله عليه وسلم للتوراة حتى بعد نص القرآن. وفي نهاية الأمر فإنّ الدراسة المقارنة من ناحية بين الدعاوى الخاصة بالعلم، تلك التي يجدها القارئ في مجموعات الأحاديث التي نسبت إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والتي يشك في صحتها غالبًا – وإن عكست مع ذلك معتقدات العصر – وبين المعطيات القرآنية ذات نفس الطابع من ناحية أخرى، توضح بجلاء اختلافًا يسمح باستبعاد فكرة شيوع الأصل بين القرآن والأحاديث .
ولا يستطيع الإنسان تصور أنّ كثيرًا من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر، وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذا فمن المشروع تمامًا أن ينظر إلى القرآن على أنّه تعبير الوحي من الله ، وأنّ تعطى له مكانة خاصة جدًا؛ حيث إنّ صحته أمر لا يمكن الشك فيه وحيث إنّ احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو أنّها تتحدى أي تفسير وضعي، عقيمة حقًا المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية.[موريس بوكاي. ص 286]
ومع هذا نجد الأستاذ الحوّاس صدّر في عنوان كتابه عبارة”أساطير الأولين”، كما نجده صدّر الأسطورة السومرية، وملحمة جلجامش عن الطوفان قبل الرواية التلمودية، ليؤكد أنّ القصص القرآني ابتداءً من خلق الكون وخلق البشرية من آدم، وأنّ الحياة بعد الموت والجنّة والنار ما هي إلّا أساطير الأولين لا تمت إلى الحقيقة بشئ، وهذا ما صرّح به صوتًا وصورة في برنامج السؤال الصعب، ونجده في حديثه عن القيامة والتصورات الأخروية في التوراة والقرآن الكريم أدخل الهاجادا( الجزء الثالث المُكوِّن للتلمود)في المقارنة بين الروايتيْن التوراتية والقرآنية، ويستدل بسفر الجامعة بعدم عودة الحياة بعد الموت، فيقول: والإقامة في الهاوية ليست مقدمة لبعث الجسد الميت وعودة الروح إليه؛ لأنّ الميت يضطجع، ولا يقوم على حد تعبير سِفر الجامعة:”الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفذ الحياة من البحر والنهر يجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم”[الجامعة14:10- 12]وموت الإنسان كموت البهيمة كلاهما يؤل إلى الفناء”موت هذا كموت ذاك ونسمة واحدة للكل فليست للإنسان مزية على البهيمة؛ لأنّ كليهما باطل، يذهب كلاهما إلى مكان واحد[الجامعة 3: 19 – 20] وبالتالي فلا قيامة عامة للموتى في اليوم الأخير ولا بعث ولا نشور، أمّا الثواب والعقاب ففي هذه الدنيا لا في الآخرة” مخافة الرب تزيد الأيام وسنو المنافقين تقصر”[الأمثال: 10- 27] [ الحواس، ص 220]
وكما يبدو أنّ الأستاذ الحوّاس أنكر وجود حياة بعد الموت وجنة ونار وثواب عقاب يوم القيامة لإيمانه بما جاء في سفر الجامعة الذي طالب مارتن أ. شيلدز في كتابه نهاية الحكمة” الذي صدر عام 2006«إعادة تقييم الوظيفة التاريخية والقانونية لسفر الجامعة. وهناك اعتراضات على اعتباره من الأسفار القانونية.
وفي ختام هذه القراءة لا أستطيع تجاوز إطلاق الأستاذ الحوّاس صفة الملاك على إبليس[ص 183] وذلك استنادًا إلى ما جاء في الإصحاح 78 من المزمور: 49- 50.)”وكذلك نجد الأستاذ الحواس كرّر أكثر من مرة كلمة( الرب) التي يقولها المسيحيون بدلًا من كلمة (الله تعالى) باعتباره مسلمًا.
آمل أن أكون قد وُفِقت في هذه القراءة.
البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://nz.sa/VICTF