د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 21 أغسطس 2024م.
أواصل قرءاتي لكتاب أحد أعضاء مجلس أمناء مؤسسة تكوين الفكر العربي الأستاذ فراس الحوّاس ” القصص القرآني ومتوازييته التوراتية ــ أساطير الأولين ـــ توقّفتُ في الحلقة الماضية عند وصفه لتاريخ المصحف الشريف بالغموض، فيقول:” هذا الغموض الذي يحيط بعملية جمع القرآن خلال العقديْن اللذيْن أعقبا وفاة الرسول يوضح لنا سبب وجود اختلافات في عدد سور القرآن في مصاحف الصحابة إضافة إلى اختلافات في القراءة، فمصحف عبد الله بن مسعود كان يحتوي على 112 سورة بدل من 114 سورة في المصحف العثماني، لأنّه ترك المعوذنيْن أي سورة الفلق(قل أعوذ برب الفلق)، وسورة النّاس: (قل أعوذ برب الناس) لظنِّه أنّهما ليستا نت القرآن ـ فكان يرى النبي (صلى الله عليه وسلم) يعوِّذ بهما الحسن والحسين في صغرهما مثلما كان بعوذهما بقوله: أعوذ بكلمات الله الله التامة.” وغير ذكل ممّا ليس في القرآن، وفي رواية أخرى أنّ مصحف ابن مسعود تنقصه الفاتحة أيضًا، وبذلك يكون عدد سوره (111) سورة.”. [الحواس: ص 19]
هذه رواية موضوعة كما ذكر ابن حزم والنووي، وتوجد روايات أخرى تؤكد وجود المعوذتيْن في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فها هو ابن حزم يقول:” وأمّا ما روي عنه في المعوذتين فقد عارضه ما هو أصح منه وهو نقل أئمة القراء لهما عنه، فقراءة عاصم وحمزة والكسائي مسندة بالأسانيد المتصلة بابن مسعود، كما قال الداني والجزري، وقد ثبتت المعوذتان في هذه القراءات وهذه مصاحف العالم اليوم برواية حفص عن عاصم وفيها المعوذتان.” وقال أيضًا في المحلى:” كل ما روي عن ابن مسعود من أنّ المعوذتين، وأم القرآن لم يكونا في مصحفه، فكذب موضوع لا يصح، وإنّما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود فيها أم القرآن، والمعوذتان.
وقد تابع النووي ابن حزم في ذلك فقال في المجموع: أجمع المسلمون على أنّ المعوذتين والفاتحة وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن, وأنّ من جحد شيئا منه كفر، وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل، ليس بصحيح عنه”
فلماذا لم يورد الأستاذ الحوّاس ما ذكره ابن حزم والنووي بشأن الزعم الكاذب حول عدم اعتبار ابن مسعود المعوذتين من القرآن، وغيرها من الروايات التشكيكية الذي يفرضه عليه المنهج العلمي في التحقق من صحة الروايات التي يوردها؟
ثمّ ما هي صفة الغموض التي يريد إلصاقها بجمع القرآن الكريم، مع أنّ جمعه واضح لا لبس فيه ولا غموض؟
واستمر الأستاذ الحوّاس في سرد روايات غير صحيحة عن سقوط بعض الآيات من بعض السور، وبعض سور القرآن، في حين نجده عند عرضه تاريخ كتابة التوراة، لم يتبع منهج التشكيك الذي أتبعه في كتابته لتاريخ كتابة المصحف الشريف!!!
ولا أشك أنّه لا يعلم أنّ عدد آيات سور القرآن، وعدد سوره وموضع كل آية، وموضع كل سورة توقيفي من عند الله؛ إذ كان ن عليه الصلاة والسلام يراجع القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان كل سنة، فلما كانت السنة التي توفي فيها راجعه مرتين كما في الصحيحين عن فاطمة- رضي الله عنها “أنّ جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وأنّه عارضه الآن(السنة التي توفي فيها) مرتين
وقد شهد العرضة الأخيرة جمع كبير من الصحابة لا يمكن حصرهم، وهذه العرضة هي التي رتب عليها القرآن الكريم عند كتابته وجمعه في عهد أبي بكر وبعد ذلك في عهد عثمان.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرأ القرآن الكريم في العرضة الأخيرة على جبريل عليه السلام مرتبًا ذلك الترتيب الموحى به الذي نقرأ به القرآن الكريم. فسور القرآن وآياته رتِّبت بوحي إلهي، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاَّ بعدما قرأه على جبريل عليه السلام بذلك الترتيب في العرضة الأخيرة، وذلك موضع إجماع.
وقد كُتب القرآن الكريم في صحف متفرقة، فبُدِأ جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه سنة 12هـ، وذلك عند استشهاد أكثر من سبعين من قراء الصحابة في موقعة اليمامة، فقد اشتد ذلك على الصحابة، ولاسيما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقترح على أبي بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن الكريم؛ خشية ضياعه بموت الحفاظ واستشهاد القراء، فتردد أبو بكر لأول الأمر ثم شرح الله صدره لما شرح له صدر عمر، فكان هو أول من جمع القرآن بين اللوحين، وكان أحد الذين حفظوا القرآن كله. وأوكل لزيد بن ثابت مهمة جمع القرآن باعتباره كان أحد كتبة الوحي، وقد استثقل زيد بن ثابت المهمة، إلّا أنّه حينما شرح الله له صدره باشر بها، وبدأ بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين، وهما:
- ما كُتب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وبإملاء منه، وكان زيد نفسه من كتاب الوحي.
- ما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو من حفاظه في حياته صلى الله عليه وسلم. وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، حتى يتيقن أنّه: مما كتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بشهادة شاهدين عدلين. وأنّه مما ثبت في العرضة الأخيرة.
والقول إنّ القرآن المكي(86) سورة حفظ في الصدور في مكة وكتب في السطور في المدينة مع القرآن المدني تأثرًا بمزاعم المستشرق الإنجليزي” بلاشير” يدحضّه وجود كتاب الوحي المكي، وهم الخلفاء الراشدون بالإضافة إلى أبي سلمة المخزوميّ، وعامر بن فهيرة، والأرقم، والزبير، وطلحة، وعبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم، وكذلك قصة إسلام الفاروق رضي الله عنه.
وهكذا جمع القرآن في صحف بإشراف أبي بكر وعمر وأكابر الصحابة، وتنفيذ زيد بت ثابت وأجمعت الأمة على ذلك دون نكير، فامتازت بأدق وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي، وظفرت بإجماع الصحابة عليها، وعلى تواتر ما فيها,
فجمع في مصحف أبي بكر رضي عنه، ما ثبت اعتماده في العرضة الأخيرة، وهو الأساس الذي كان عليه مصحف عثمان رضي الله عنه، وهو المصحف المتداول بين أيدينا الآن. وبعد الانتهاء من جمعه، سلّمه سيدتا أبو بكر رضي الله عنه لأم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها لتحفظها عندها. وهو الذي نسخت منه المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه ، ووزعت على الأمصار.
هذا وممّا يجدر ذكره فإنّ الدراسة الخاصة التي قام بها مونتجمري وات وريتشارد بل عن القرآن الكريم التي تناولا فيها أعمال عدد كبير من المستشرقين في دراستهم للقرآن، وهي في غالبتيه العظمى تستخدم مناهج النقد الغربية، ومن هؤلاء فيل، وهيرشفيلد، وآربري، ورودي بارت وغيرهم، قد اعترف المؤلفان بأنَّ الدراسات الحديثة للقرآن لم تستطع أن تثير أية شكوك جدية حول مصداقية النص القرآني، بينما نجد باحثًا عربيًا مسلمًا يشكك في صحة القرآن الكريم بإيراده كمّا كبيرًا من الروايات الموضوعة، ورواية من الإسرائليات.
البريد الاليكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://2u.pw/eTRABNxN