د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة بتاريخ 18/يوليو 2024م
رددتُ في الحلقة الماضية على ما جاء في حديث الأستاذ فراس الحوّاس عضو مجلس أمناء مركز تكوين الفكر العربي لبرنامج السؤال الصعب بقناة سكاي نيوز العربية من إنكار لوجود حياة بعد الموت ، ومعتبرًا ووجود الجنة والنار سيدنا آدم عليه السلام وجودًا رمزيًا، وقوله إنّ جميع الأحاديث النبوية موضوعة، وفي هذه الحلقة سأرد على قوله إنّه يحاول إعادة النظر في الموروث، وتسميته للإسلام بالمشروع المحمدي، على وعلى إنكاره لواقعية القصص القرآني والمكوِّنيْن المكاني والزمني به.
وسأبدأ:
أولًا : بقوله إنّه يحاول إعادة النظر في الموروث، وفي الصيغة التي وصلتنا عن الإسلام؛ إذ يقول:” الصيغة التشريعية الفقهية أعطت صورة مختلفة عن الصيغة التي أتى بها محمد عن الإسلام الحقيقي، أو أسميه المشروع المحمدي، الصيغة التي جاء بها المشروع المحمدي عن الصيغة التي وصلتنا.”
وردًا عليه أقول: لا خلاف أنّ بعض علمائنا الأوائل لم يتحرروا من بعض الموروثات الفكرية والعادات والتقاليد والأعراف لمجتمعاتهم قبل الإسلام، فأخطأوا في فهم الآيات القرآنية المتعلقة بحرية العقيدة والمواريث والمرأة، ولكن لا يعني أنّ كل ما قدّموه لنا يُرمى في … _ أناملي تعف عن كتابة الكلمة التي قالها – فعلماؤنا الأوائل قد اجتهدوا وقدّموا لنا نتاج ما هدتهم إليه أفكارهم وعلومهم وثقافاتهم، أمّا وصفه الإسلام بالمشروع المحمدي، فهو يرمي إلى أنّ الإسلام ليس دين إلهي سماوي، وإنّما جاء به (سيدنا)محمد(صلى الله عليه وسلم) كما يزعم المستشرقون.
ثُمّ على أي أساس سيعيد تفسير القرآن الكريم إن كان ينكر وجود حياة بعد الموت وجنة ونار، ووجود سيدنا آدم عليه السلام، وواقعية القصص القرآني؟
والأستاذ حوّاس مثل الدكتور زيدان لا يصلي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأتساءل هنا: هل من أهداف مؤسسة تكوين الفكر العربي تكوين فكر الناشئة على عدم الصلاة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الخالق جلّ شأنه في كتابه العزيز بالسلام والصلاة عليه:(إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فإن كان الخالق وملائكته يصلون عليه ويسلمون تسليمًا، فمن أنت أيها المخلوق حتى تمتنع عن الصلاة عليه ؟
وعندما سئل عن إثارة الجدل حول مقولته إنّ أصل قبيلة قريش يعود إلى سوريا، أجاب إجابة مطوّلة لم يبيّن فيها كيف أصبحت قريش سورية، بل نجده تجاهل وجود الكنعانيين الذين كانوا أول من سكن فلسطين في الألف الثالث قبل الميلاد، وزعم في إجابته أنّ بعض الممالك العربية نشأت في بلاد الشام والهلال الخصيب في منتصف الألف الأول قبل الميلاد، وإليكم إجابته:” موضوع شبه الجزيرة العربية وسوريا وبلاد الشام، هذه المنطقة ملتقى ثقافي موحد، يعني العرب كانوا في حركة دائمة من وإلى بلاد الشام، ومنذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد كان للعرب وجود سياسي وثقافي في الهلال الخصيب وبلاد الشام بشكل خاص، بدأت الممالك العربية تظهر منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد، لدينا نصوص آشورية تؤكد وجود العرب السياسي في بلاد الشام، في النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد بدأت الممالك العربية التي أسسها نازحون من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، هؤلاء كانوا يأتون ويرعون في غير حالة استقرار، ثم استقروا وأسسوا سبع ممالك كبرى منذ أواسط الألف الأول قبل الميلاد إلى القرون الأولى من العصر الميلادي.”
فقوله هذا مخالف للحقائق التاريخية، ويأتي في مقدمتها تجاهل أنّ الكنعانيين(الفلسطينيين) أوّل من سكن فلسطين،” وبيّن هذ الإصحاح 21 من سفر التكوين، آية 34 وتغرّب إبراهيم في فلسطين أيامًا كثيرة”[سقر التكوين 34:21]، فالفلسطينيون سكنوا فلسطين قبل هجرة إبراهيم عليه السلام، وقد اعتبرته التوراة متغربًا في فلسطين، كما أطلقت على فلسطين أرض كنعان في الإصحاح 37 من سفر التكوين” “وسكن يعقوب في غربة أبيه إسحاق في أرض كنعان”، وجاء دكر مدينة القدس في الآية (2) من الإصحاح 48 من سفر أشعيا” فإنهم يُسمون من مدينة القدس، ويُسندون إلى إله إسرائيل رب الجنود اسمه.”
فتجاهل الأستاذ حوّاس في حديثه التلفزيوني الذي يشاهده الملايين أنّ الكنعانيين(الفلسطينيين)أنّهم أول من سكن فلسطين، وأقاموا حضارة عظيمة له أبعاد ودلالات خطيرة في مقدمتها إنكاره لعروبة فلسطين، ولحق الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم، ونجده في كتابه ” الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم في طبعته الصادرة 2015 متذبذب الرأي حول موطن الكنعانيين الأصلي، إذ نجده تارة يقول:” شكلّت أرض كنعان تاريخيًا المناطق السورية الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات بما فيها فلسطين، أمّا الكنعانيون كشعب فلم يفصل بعد في أمر موطنهم الأصلي وتاريخ استيطانهم في الأرض التي أعطتهم اسمها أو أعطوها اسمهم إلّا أنّ هناك من البيِّنات ما يشير بوضوح إلى أنّهم كانوا موجودين في سوريا الجنوبية منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ذلك أنّ العديد من المدن التي أسست مع نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، ومطلع الألف الثالث مثل بيت شان ومجدو وأريحا وبيت بارح تحمل أسماء كنعانية[ ص 208] وتارة أخرى يقول:”والحق أنّ أكثر النظريات قريبًا من المنطق السليم، هي التي تجعل الكنعانيين أصليين في أرضهم، وترى في مدنهم الأولى تطورًا طبيعيًا لمستوطنات العصور الحجرية الأقدم، ذلك أنّ الكثير من مقار الكنعانيين التاريخيين، كانت مستوطنات مزدهرة في عصور ما قبل التاريخ، ولا أدل ذلك من أريحا وجبيل وأوغاريت فأريحا كانت أحد المراكز القليلة التي ظهرت فيها الزراعة لأول مرة في التاريخ مع مطلع العصر الحجري خلال الألف الثامن قبل الميلاد، وكانت في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نموذجًا موغلًا في القدم للمدن الأولى[ ص209]
يتضح لنا مدى تناقض الأستاذ الحوّاس بين إجابته في برنامج السؤال الصعب، وبين ما كتبه في كتابه الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم نقلًا من مراجع أجنبيةّ، فهو مجرد ناقل لا يميز مدى التناقض فيما ينقله!
ويلاحظ أنّ ما ذكره في إجابته لا علاقة له بما زعمه بأنّ قبيلة قريش من سوريا؟ فقريش ليست قبلية رعوية، هي معروفة بتجارتها وبرحلتي الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام التي ذكرها القرآن الكريم.
كما نجده قلّل من قدم الممالك العربية في بلادي الشام والهلال الخصيب.
معروف أنّ الهجرات السامية خرجت من شبه الجزيرة العربية فممّا ينبغي التأكيد عليه أنّ الكنعانيين والذين جاء ذكرهم في التوراة هم عرب ساميون وسكنوا فلسطين قبل هجرة إبراهيم الخليل إلى فلسطين من العراق. [[1]إبراهيم الخطيب: الكنعانيون: نشأتهم، حضارتهم، ديانتهم وأثرها على التوراة، الجزء الأول، http://www.aljabha.org/?i=34798]وهم أوّل من استقروا في فلسطين وإليهم يعود تأسيس حضارة فلسطين القديمة وترجع حضارة الكنعانيين إلى عصور موغلة في القدم فمنذ مرحلة العصر الحديث التي تعود إلى8000 – 4000ق.م بدأت هذه الحضارة تنمو في مختلف المجالات الاقتصادية و السياسية والفكرية وتتقدم في مجال التمدن،
هذا وفي أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، خرجت الهجرة الآمورية التي استقرت في بادية الشام، ومن هناك انقسمت فرعين، فرع واصل طريقه نحو وادي الرافدين وأسس الدولة البابلية القديمة، وفرع استقر في مناطق حوض الفرات والخابور ومناطق سورية الداخلية وشكّل الممالك الآمورية التي ازدهرت في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. وفي أواخر الألف الثاني قبل الميلاد انتشرت الموجة الآرامية في بلاد الشام، ورحل الفرع الكلداني منهم إلى وادي الرافدين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وأسس الدولة البابلية الحديثة هناك.
وهكذا تتضح لنا المغالطات التاريخية التي امتلأت بها إجابة الأستاذ حوّاس.
, والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من أهداف مركز تكوين الفكر العربي تكوين فكر شبابنا على إنكار حق الفلسطينيين في وطنهم فلسطين، وأنّهم أول من سكنوها، وقبل هجرة سيدنا إبراهيم عليه السلام إليها، كما جاء في سفر التكوين، وأنّه هو وإسحاق ويعقوب عليهم السلام عاشوا فيها متغرّبين، وتجاهل الحضارة التي أنشأوها فيها؟
وهل من أهداف هذا المركز تكوين فكر شبابنا على التقليل من قدم الممالك العربية للتقليل من شأن العرب؟
أمّا عن تفسيره لقوله: لاوجود لشخصية آدم وهو مجرد رمز وعلينا ألّا نأخذ القصص في الكتب الدينية على أنّها تاريخ حقيقي ولو فعلنا في هذه الكتب تسقط حرفيّا”، بقوله:”أنا لا أشكك، العلم هو الذي يشكك لاسيما في الدين الإسلامي، دعيني أتحدث عن الدين الإسلامي، لأنّ الموضوع متشعب، في الدين الإسلامي وثيقتنا الأساسية هي القرآن، معظم ما ورد في القرآن من قصص، هو قصص رمزي وعظي، الهدف منه الوعظ، ونقل فكرة التوحيد، أو ما جاء به محمد أو ما نقل إلى محمد من بعض الشرائع، لا وجود لتاريخ ولا لجغرافيا في القرآن على الإطلاق، في القصص القرآني نجد القصة معلقة في فراغ تاريخي وجغرافي، الهدف منها هو الوعظ والإرشاد وإيصال المفهوم الديني؛ لذلك لا أجد تعارض بين ما جاء في الكتاب المقدس الإسلامي وبين الوقائع التاريخية، الوقائع التاريخية شيء، والقصص الديني شيء آخر، القصص الديني أشبه بالأسطورة التي تريد أن تعبر عن حقائق ووقائع لكن بطريقة القص الرمزي.”
ولنتوقف هنا عند قوله:” أو ما جاء به محمد أو ما نقل إلى محمد من بعض الشرائع.” فهنا إنكار صريح منه للوحي الإلهي، واعتباره الإسلام من عند سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو ما نقل إليه من شرائع أخرى، وهذا ما يزعمه المستشرقون.
ثانيًا: القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ وجغرافيا، وقصصه لا تخلو من المُكوِّن المكاني في سرده، فهو القاعدة المادية الأولى التي ينهض عليها السرد، كما أنّ من القصص القرآني لم يخلو من العنصر الزماني الذي يكتمل به السرد، مثل:
- قوله تعالى في سرده لقصة أصحاب الكهف:( وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ)[ الكهف:17]، وقوله:(قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ)[الآية:19]( وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا)[الآية: 25]
- سورة القيامة(لآ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ)[آية: 1]
- سورة الإنسان((هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الآية:1]
- سورة قريش(لِإِيلَٰافِ قُرَيۡشٍ* إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ)[الآيتان 1-2]
- سورة والفجر(وٱلۡفَجۡرِ *وَلَيَالٍ عَشۡرٖ وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ * وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَسۡرِ)[الآيات -3]
- سورة والضحى(وَٱلضُّحَىٰ * وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ)[الآيتان1-2]
- سورة الحج (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ)[آية 1[(وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ)[آية 27]
- سورة القمر(ٱقۡتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلۡقَمَرُ)[آية1]
- سورة هود(وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ)[آية:7]
- سورة نوح(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوۡتُ قَوۡمِي لَيۡلٗا وَنَهَارٗا)[الآية: 5]
- سورة العنكبوت(وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِيهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِينَ عَامٗا)[الآية:14]
للحديث صلة.
البريد الاليكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://2u.pw/z7OO4UNz