حوارات وتحقيقاتمؤسسة تكوين الفكر العربي

مؤسسة تكوين الفكر العربي تصادر الفكر العربي وتعلن وصايتها عليه!(3)

By شهر واحد مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 13 يونيه 2024م.

أوصل قراءاتي لفصل” المسألة المقدسية ومعضلة الإسراء والمعراج” من كتاب” شجون تراثية ” للدكتور يوسف محمد أحمد زيدان أحد أعضاء مجلس أمناء مؤسسة تكوين الفكر العربي؛ إذ ارتدى لباس المستشرقين، فنهج منهجهم، وكتب بأسلوبهم، وفكّر بفكرهم، فاتبع منهج التشكيك الديكارتي مثلهم، من ذلك قوله:

“وحاصل الأمر أنّ رسول الله كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس(لاحظ هنا استعمال الوصف اليهودي/العبري لأورشليم المندثرة منذ خمسة قرون معربًا)، والكعبة بين يديه، فلمّا هاجر إلى المدينة(لاحظ هنا أنّه استعمل الوصف الإسلامي”المدينة المنورة”، وأسقط اسمها الذي كانت به قبل الهجرة يثرب لم يمكنه أن يجمع بينهما، فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة، واستدبر الكعبة بستة عشر شهرًا أو سبعة عشر، وهذا يقتضي أن يكون ذلك إلى رجب السنة الثانية والله أعلم”[ص 47]

   وهنا أتوقف عند قوله:

أزلًا : ” لاحظ أنّه استعمل الوصف اليهودي العبري لأورشليم…”، وقوله:” لاحظ هنا أنّه استعمل الوصف الإسلامي”المدينة المنورة”، وأسقط اسمها الذي كانت به قبل الهجرة يثرب.”

 وهنا أنا أسأل أولًا: من يقصد بالذي استعمل  الوصف اليهودي العبري لأورشليم، والوصف الإسلامي”المدينة المنورة”، وإسقاطه لاسمها قبل الهجرة “يثرب”؟ وإلى ماذا يرمي بتلميحاته هذه؟

ثانيًا: في  قوله:”إنّ أورشليم اسم يهودي عبري مغالطة تاريخية كبرى، فتسمية القدس قد رافقت المدينة منذ بداية تاريخها، أي قبل دخول العبريين وغزوهم للبلاد – عندما أقيمت فيها لأول مرة أماكن مقدسة خاصة بالعبادات القديمة، وهذا مثبت في العهد القديم وفي الكتابات التاريخية اليونانية القديمة وفي نتائج الحفريات الأثرية:

  • فقد ورد هذا الاسم على نحو ما هو وارد في التوراة “فَإِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ مِنْ مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَيُسْنَدُونَ إِلَى إِلهِ إِسْرَائِيلَ. رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ. [إشعياء:48/ 2.]
  • “وسكن رؤساء الشعب في أورشليم، وألقى سائر الشعب قرعا ليأتوا بواحد من عشرة للسكنى في أورشليم، مدينة القدس، والتسعة الأقسام في المدن”[نحميا : 11/1.]
  • لقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت(484- 425ق.م) مدينة كبيرة في الجزء الفلسطيني من الشام وسمّاها مرتيْن ” قديتس” في الجزء الثاني والجزء الثالث من تاريخه، ويقول المؤرخ اليهودي الفرنسي سالومون مونك في كتابه عن فلسطين : إنّ هذا الاسم على الأرجح هو القدس، محرفًا عن اليونانية عن النطق الآرامي قديشتا”[د. حسن ظاظا: أبحاث في الفكر اليهودي، ص 17، دار القلم، دمشق 1987م.]
  • ينفي عالم الآثار الإسرائيلي” إسرائيل فلنكشتاين” الذي يعمل في جامعة تل أبيب، والمعروف بأبي الآثار أية صلة لليهود بمدينة القدس، ويرى أنّ مدينة القدس بشكل عام لم يعش فيها اليهود مطلقًا، ولم يتم بناء أي هيكل على مر العصور، وأنّ قصص الهيكل مجرد قصص مختلقة. وفيما يتعلق بهيكل سليمان فلا يوجد أي شاهد أثري يدل على أنّه كان موجودًا بالفعل.
  • تقول المستشرقة الإنجليزية كارين آرم سترنج:” واستطاع الأثري هيوز فنسنت من طائفة الدومينيكان أن يكمل حفريات بليس على تل الأكمة وتمكن من أن يبرهن أنَّ المدينة في شكلها الأكثر قدمًا(مدينة داود عليه السلام)كانت تقع بالفعل على تل الأكمة لا على جبل صهيون، كما عثر على مقابر من العصر البرونزي، ونظم مياه وتحصينات أثبتت كلها أنَّ للمدينة تاريخًا أكثر قدمًا من داود عليه السلام، ومن ثَمَّ لم يكن بالإمكان الادعاء بأنَّ المدينة ملك لليهود على أساس أنَّهم أول من سكنوها، وفي الواقع قد تعمَّد الإنجيل توضيح أنَّ الإسرائيليين قد انتزعوا كلًا من فلسطين وأورشليم من أيدي سكان محليين، وهكذا بات من الممكن للحفريات الحديثة تهديد بعض الأمور اليقينية للعقيدة. [كارين أرمسترنج: القدس مدينة واحدة ثلاث عقائد، ص 582،581.]
  • أنّ هذه الأسماء جميعها: صهيون، يروشالايم(أورشليم( القدس، ليست أسماءً عبرية، أو يهودية، ولا يمكن ادعاء ذلك بأي وجه من الوجوه، وإنّما هي كنعانية، عرفت بها المدينة قبل أن يدخلها الإسرائيليون.[د. محمد جلاء إدريس، أورشليم القدس في الفكر الديني الإسرائيلي،ص 18. 19.]

فهذه الحقائق التاريخية تدحض ما يريد الدكتور زيدان ترسيخه في الأذهان بترديده لهذه المغالطة ليثبت حقًا لليهود ليس لهم، ويسلب حق الفلسطينيين لها والمسلمين قدسيتها لديهم، وكما يبدو أنّ هوى د. زيدان يهودي  حتى جعل حائط المبكى غلاف شجونه التراثية!!!

  • أمّا قول د. زيدان “لا خلاف إذن في أنّ موضع مدينة القدس الحالية كان هو القبلة الأولى للمسلمين ولا خلاف بين المؤرخين والمفسرين في أنّها كانت آنذاك قبلة اليهود الذين وصفتهم الآية القرآنية بالسفهاء حينما سخروا من تحول المسلمين عن القبلة المشتركة إلى الكعبة التي كانت آنذاك أي قبل فتح مكة بيتًا للأوثان ومركزًا مقدسًا لعبادة الربة” اللات” التي اتخذ أصنامها شكلًا مجردًا وليس مجسمًا كبقية آلهة العرب هو الشكل المكعب الأبيض، وكانت كعبة اللات الكبرى آنذاك والكاهنة العظمى لعبادة اللات في الطائف.”[ص48]

هنا نجده قد جرّد الكعبة المشرّفة من أنّها بيت الله الحرام الذي فوقه كرسي العرش،وأرسى قواعده سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127]، وجرّده من مباركة الله جل شأنه له:(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)وقد تجاوز د. زيدان كل الحدود عند تشبيهه شكل بيت الله الحرام المكعّب بمجسّمات آلهة العرب الذين اتخذوا من شكلها المكعب شكلًا لأصنامهم، متجاهلًا معنى الكعبة في اللغة، وهوكل بيت مربع؛ واصبح يطلق على بيت الله الحرام لأنه مربع[ معجم المعاني]،وعرّفها ابن الأثير في البداية والنهاية”أنّها كل بناء مربع أو مستطيل يرتفع إلى الأعلى حتى تصبح مكعبًا.. وقد تبنى بسقف أو بدون سقف ويجعل لها باب لا يفتحه سدنتها إلا للمتعبدين وأصحاب النذور.”

 كما تجاوز كل الحدود والخطوط الحمراء عند وصفه بيت الله الحرام بأنّه كان بيت للأوثان عندما تحوّلت قبلة المسلمين إليه، وهو بهذا يهدف إلى التشكيك في أنّ دين الإسلام ديانة توحيدية خالصة لله تعالى، وأنّ فيه وثنية لكون قبلتهم التي يستقبلونها في صلواتهم بيت الأوثان، ولم يكتف بهذا، بل نجده يساوي بينها وبين كعبة اللات في الطائف في القدسية، وأطلق عليها الرّبة(اللات) متجاهلًا أنّ كعبة مكة المكرّمة بيت الله جل شأنه بناه سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكعبة الطائف وصنعاء وغيرهما من الكعبات التي بناها المشركون بيوتًا لآلهتهم, وبعد فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرّمة، وتطهير بيت الله من الأوثان، أرسل جيوشًا لهدم تلك الكعبات.

    كما نجد د, زيدان أتبع منهج المستشرقين في التفسير المادي للتاريخ القائم على إنكار المعجزات، والدكتور زيدان من منكري معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في مقدمتها الإسراء و المعراج؛ إذ أخرج الإسراء من دائرة المعجزات لأنّه جعله من المسجد الأقصى بجعرانة بالطائف-تبعد عن مكة المكرمة 25 كم- إلى المسجد الحرام عام 8ه، والذي لا يعلمه د. زيدان أنّ الجعرانة ميقات أهل الطائف؛ لذا توجه الرسول صلى الله إليها بعد موقعة حنين ليحرم منها لأداء العمرة، والمسجد الأقصى بالجعرانة لم يكن موجودًا ليلة الإسراء الذي كان قبل الهجرة بسنة التي فُرضت فيها الصلاة، والإسراء كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، فإن كان المسجد الأقصى ببيت المقدس غير موجود عند نزول القرآن الكريم كما يزعم د. زيدان، فكذلك المسجد الأقصى بالطائف، وكذلك المسجد الحرام لم يكن مبنيًا ليلة الإسراء والمعراج /وكما يبدو أنّ مرجعية الدكتور زيدان في هذا الصدد كتاب الإسلام للمستشرق البريطاني الفريد جيوم الذي قال:” والنقطة الهامة في الموضوع الذي أسري بالرسول إليه، وقد قيل ـــــ لسبب أو لعدة أسباب لا داعي للخوض فيها ــــ إنّ المسجد الأقصى إما يكون في بيت المقدس أوفي الجنة نفسها، وقد قرر كاتبان من أوائل الكتاب ــــ لا يرد لهما ذكر في الموضوع -أنّ الرسول ذهب في الليل من المسجد الأقصى الموجود في مكان يسمى “الجعرانة” يبعد عن مكة 50كم إلى المسجد المقدس  في السنة الثامنة للهجرة”. وهكذا نجد تفسيرًا طبيعيًا لهذه الآية القرآنية التي يعبر فيها محمد عن شكره لله ؛إذ مكنه من الحج ليلًا في وقت لم يكن فيه المشركون قد أباحوا له إقامة شعائره،  فكان عليه أن يعقد معهم صلحًا حتى يتمكن من الذهاب إلى الحج في وضح النهار.”[الفريد جيوم، الإسلام، ترجمة: د. محمد مصطفى هدارة، د .شوقي اليماني السكري، ص 109، ط1،القاهرة، مكتبة النهضة المصرية  1958.]

واضح مدى تخبط الفريد جيوم وخلطه، فالإسراء كان قبل الهجرة بسنة، وليس في السنة الثامنة للهجرة، وأنّه كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وليس من المسجد الأقصى بالجعرانة  إلى المسجد الحرام بعد تشكيكه بأن يكون المسجد الأقصى ببيت المقدس، وكيف يعقد صلحًا مع المشركين، وكان قد فتح مكة في رمضان عام 8 ه، وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة من نفس العام أي بعد فتح مكة، ولم يخرج إليها حاجًا، وإنّما معتمرًا لأنّه لم يحن موعد الحج بعد، ثمّ أنّ الجعرانة تبعد عن مكة ما بين 20 ـــ 25 كم، وليس 50 كم كما يزعم جيوم.

كما نجد أنّ عددًا ليس بقليل من المستشرقين على اختلاف جنسياتهم منهم اليهودي الصهيوني برنارد لويس قالوا الإسراء كان إلى المسجد الأقصى بالقدس.

 هذا وقد زعم د. زيدان في أحاديث تلفزيونية  أنّ الواقدي وغيره قالوا إنّ المسجدين موجودين على طريق  مكة  للطائف.”والحقيقة أنّ ّالواقدي لم يكن يتحدّث عن الإسراء، وإنما كان يتحدث عن عمرة الجعرانة؛ إذ ذهب من الطائف بعد موقعة حنين إلى الجعرانة سنة 8 ه، حيث قسّم غنائم هوازن، واتجه منها معتمرًا إلى مكة، فهذا لا علاقة له بالإسراء إلى بيت المقدس الذي كان قبل الهجرة بعام، كما نسب ذلك إلى مؤرخينا الأوائل  في برنامج السؤال الصعب مُوظِّفًا حديثهم عن عمرة الجعرانة لخدمة مزاعمه أنّهم ذكروا أقصى الطائف، وهم لم يذكروه في الإسراء، وإنّما ذكروا عمرة الجعرانة بعد حنيْن.

والغريب أنّ د, زيدان يدعو إلى إِعْمال العقل وتغليبه، فكيف قبل عقله أنّ الإسراء كان من المسجد الأقصى بجعرانة الطائف إلى المسجد الحرام بمكة عام 8ه، بينما الإسراء كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس قبل تسع سنوات، والمسجد الأقصى بالجعرانة لم يكن قد شُيِّد بعد؟؟؟؟؟؟

أمّا قوله:” نلفت الاهتمام انّ معظم ما يفهمه الناس من واقعة الإسراء مبنى أساسًا على الأحاديث المروية لا الآيات القرآنية، وقد رأينا فيما سبق أنّ القرآن الكريم أوجز في ذكر الإسراء، واكتفى بإشارة واحدة، أمّا في الأحاديث النبوية، فقد جاء الأمر بالضد؛ إذ فصّلت الأحاديث، وأسهمت في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، كأنّها بذلك تعارض القرآن وتقف على النقيض منه (ص 73)

وقوله:”ومن بعد ذلك كله، نقول إجمالًا: لو كان الإسراء معجزة إسلامية وكانت للنبي محمد وكانت بين مكة والقدس مثلما يتوهم كثير من معاصرينا ومن القدماء، أما كان هذا الأمر يستحق ” خطبة نبوية”خاصة، ناهيك عن استحقاقه لآيات قرآنية محددة بدلًا من حكاية”مالك بن صعصعة الذي تناقل عنه الرواة أنّ النبي حدّثه عن ليلة أسري به” كأنّ الأمر كان على سبيل السامرة والكلام الجانبي، مع واحد غير بارز بين صحابة النبي…(ص 74)

وهنا أقول:عند تتبعنا لأيات المعجزات في القرآن الكريم نجد آية واحدة عن المعجزة، كقوله تعالى:(ثم استوى إلى السماء وهي دخان)[فصلت:11](أولم ير الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما)[الأنبياء:3](والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)[يس:38]

 لقد تطاولت يا دكتور زيدان على الخالق جل شأنه بانتقادك لمنهجه القرآني، فالتصديق بمعجزتي الإسراء والمعراج ليستا بحاجة إلى المزيد من الآيات القرآنية وخطبة نبوية، ومعروف أنّ السنة النبوية شارحة ومفصِّلة للقرآن الكريم، والذي طالبتَ به لم يطالب حينها مشركو مكة به!

وبعد هل من يحمل هذا الفكر تجاه الإسلام يؤتمن على تكوين فكر أمة الإسلام؟؟؟؟

البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال : https://nz.sa/hakTW

Leave a Reply