مؤسسة تكوين الفكر العربي

زيدان لم يفرق بين كتابة القرآن الكريم وجمعه ونَسْخ نُسخٍ منه!

By شهر واحد مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 3 يوليو 2024م.

   في حلقة برنامج السؤال الصعب التي بُثّت في 10/6/2024م بقناة سكاي نيوز العربية جاء الدكتور يوسف محمد أحمد زيدان بأمر لم يسبقه فيه ولا مستشرق ممّن اهتموا بالدراسات القرآنية؛ إذ نجده يقول عن القرآن الكريم عندما ذكّرته مقدمة البرنامج بمقولته عن حرق المصحف في الغرب:” لن يضر القرآن شيء لو أُحرقت منه  مليون نسخة “، سألته : لو حُرِق المصحف أمامك ماذا تفعل ؟ فأجابها طبيعي أغضب … وأغضب لو حرق الإنجيل .” ثم استطرد قائلًا: ” اسمه قرآن .. قرآن  يقرأ. كتابته جاءت لأسباب سياسية قام بها عثمان بن عفّان بعد اكتمال الدين بسنوات طويلة، وبعد خلافة أبي بكر وعمر بن الخطّاب، كتب عثمان  بن عفّان المصحف الجامع حسب ما روي في كتب التاريخ.”ويستطرد قائلًا:” أظن أنا من القلائل اللي شافوا هذا  المصحف في طقشند في أوزوبكستان، سمح لي رئيس الجمهورية  أن أقضي يومًا  كاملًا معه، ومن واقع الكوديكولوجيا علم المخطوطات ( فحصته وطلع عندي أنّه كتب في أواخر القرن الهجري الأول، وليس في عهد  عثمان، ليست هذه القضية. القضية أنّ المكتوب المتداول هذا  ليس كلام الله! كلام الله يقرأ مسموع !!!!

 وأسأله هنا: كيف يُقرأ الذي لا يُكتب؟ حضرتك تطالب الناس بتحكيم عقولهم في الحكم على الأمور ، فهل حكّمّت عقلك عند قولك هذا القول ؟

  القراءة عملية عقلية، تعني إدراك القارئ للنص المكتوب وفهمه واستيعاب محتوياته، فهل غاب عن عقلك هذا المعنى ، وأنت الفيلسوف الذي يُفرّق بين معنى الجدل ومعنى  والجدال!!

 وممّا يثير الدهشة والاستغراب تجاهل الدكتور لهذه الحقيقة، وكذلك تجاهله أنّ كل آية قرآنية كتبت لحظة نزولها من قِبل كُتّاب الوحي في صحف متفرّقة، فكيف يكون قرآنًا يُقرأ إن لم يُكتب؟؟

فالنبي صلى الله عليه وسلّم باشر بنفسه الإشراف على عملية كتابة القرآن فور نزوله، فقد كان له كتابٌ للوحي، كلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته، مبالغة في تسجيله وتقييده، وزيادة في التوثق والضبط، والاحتياط الشديد في كتاب الله عز وجل حتى تظاهر الكتابة الحفظ، ويُعاضد التسجيل المسطور ما أودعه الله في الصدور، فقد اتخذ  جملة ممن يتقنون القراءة والكتابة كُتّابًا للوحي يكتبون القرآن عند نزوله بين يديه؛ أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن عبدالله بن الزبير أنّ النبي  استكتب عبد الله الأرقم، واستكتب زيد بن ثابت، وقد كتب له عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم”، وكان النبي  يتعهد هؤلاء الكُتّاب بالعناية والمتابعة،  فيحدد لهم المكان الذي يضعون فيه الآيات الجديدة التي كتبوها في مجلس، ويراجع معهم ما كتبوه للتأكد من صحة ما كتبوه، أخرج ابن أبي داود في كتاب المصاحف قوله  لكتبة الوحي من أصحابه ” ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات ، فيقول ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا ” .

     لقد أثبت القرآن الكريم نفسه حقيقة وجود الترتيب المصحفي، وقد جاء ببرهان قوي في سورة “القيامة” نقرأ قوله تعالى(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)[القيامة:17-19]

وجمعه يعني تنظيم الآيات والسور، وهذا التجميع، أو التنظيم للسور لا يمكن صنعه إلاَّ وفق ترتيب محدود، ألا وهو الترتيب الإلهي، وعلى ذلك يبدو واضحًا أنَّ الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي فقط، ولكنه أنزل معه تنظيمه وجمعه، وأسماء السور وترتيبها، والذي يزعم أنّ أسماء السور وترتيب الآيات ليس توقيفيًا من عند الله فهو زعم باطل لا أساس له من الصحة يدحضه قوله تعالى ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)

وقد كان عليه الصلاة والسلام يراجع القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان كل سنة، فلما كانت السنة التي توفي فيها راجعه مرتين كما في الصحيحين عن فاطمة- رضي الله عنها “أنّ جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وأنّه عارضه الآن(السنة التي توفي فيها) مرتين وقال لها: إنّي لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري”.

وقد شهد العرضة الأخيرة جمع كبير من الصحابة لا يمكن حصرهم، وهذه العرضة هي التي رتب عليها القرآن الكريم عند كتابته وجمعه في عهد أبي بكر ونُسخت نسخ منه  في عهد عثمان رضي الله عنهما؛ إذ بُدِأ جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه سنة 12هـ، وذلك عند استشهاد  أكثر من سبعين  من قراء الصحابة في موقعة اليمامة، فقد  اشتد ذلك على الصحابة، ولاسيما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاقترح على أبي بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن الكريم؛ خشية ضياعه بموت الحفاظ واستشهاد القراء، فكان هو أول من جمع القرآن بين اللوحين، وكان أحد الذين حفظوا القرآن كله. وأوكل لزيد بن ثابت مهمة جمع القرآن باعتباره كان أحد كتبة الوحي، وبدأ بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين، وهما:

  1. ما كُتب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وبإملاء منه، وكان زيد نفسه من كتاب الوحي.
  2. ما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو من حفاظه في حياته صلى الله عليه وسلم. وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، حتى يتيقن أنّه: مما كتب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بشهادة شاهدين عدلين. وأنّه مما ثبت في العرضة الأخيرة.

    يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شاهدان.[ كتاب المصاحف:1/181-182، وابن حجر في الفتح: 9/15]

الذي جمع في مصحف أبي بكر رضي عنه، ما ثبت اعتماده في العرضة الأخيرة، وهو الأساس الذي كان عليه مصحف عثمان رضي الله عنه، وهو المصحف المتداول بين أيدينا الآن.

بعدما تمّ جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مصحف واحد بلهجة قريش التي أُعتُمِدت في العرضة الأخيرة، لأنّ العرب كانت لا تستوعب لهجة قريش إنْ نزل بها فقط لاختلافها في بعض الكلمات عن لهجات القبائل الأخرى، فنزل  بسبع لهجات للعرب، وهذا المقصود بسبعة أحرف، وليس سبع قراءات كما يقول البعض.

  وبعد الانتهاء من جمعه، سلّمه لأم المؤمنين السيدة حفصة رضي الله عنها لتحفظه عندها، وعندما رأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه – كما روى البخاري – اختلاف القراء عندما كان  يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك؛ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: “إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن، فأكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنّما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ومصحفٍ أن يحرق”.

والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما هو أنّ الجمع في عهد أبي بكر كان عبارة عن نقل القرآن الكريم وكتابته في مصحف واحد مرتب الآيات والسور، وكان  جمعه اللخاف والعُسُب والرِّقاع، وأمّا جمع عثمان فقد كان عبارة عن نسخ عدة نسخ من المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه لتُرسل إلى الآفاق الإسلامية على لهجة قريش.

  وهكذا نجد الدكتور يوسف زيدان تعمّد التشكيك في صحة القرآن الكريم بقوله كتب لأسباب سياسية في عهد عثمان بن عفّان ضي الله (23-35ه)، ليبرر لمقولته الخطيرة الباطلة” المكتوب المتداول هذا ( يقصد القرآن الكريم ) ليس كلام الله! كلام الله يقرأ مسموع !!!!

أي أنكر أنّ القرآن الكريم(يلاحظ عدم وصفه القرآن بالكريم) ليس بكلام الله ؛ بل نجده لم يقل قرآن، وإنّما قال عنه بكل وقاحة ” المكتوب المتداول هذا؛ لذا نجده حوّل غضبه على احرق لقرآن الكريم إلى غضبه على حرق الإنجيل، مع  أنّه سئل عن حرق القرآن  ولم يُسئل عن حرق الإنجيل        !

  وفي الوقت الذي ينكر الدكتور يوسف محمد أحمد زيدان أنّ القرآن الكريم المتداول بين أيدينا كلام الله نجد

الدراسة الخاصة التي قام بها مونتجمري وات وريتشارد بل عن القرآن الكريم التي تناولا فيها أعمال عدد كبير من المستشرقين في دراستهم للقرآن، وهي في غالبتيها العظمى تستخدم مناهج النقد الغربية، ومن هؤلاء فيل، وهيرشفيلد، وآربري، ورودي بارت وغيرهم، قد اعترف المؤلفان بأنَّ الدراسات الحديثة للقرآن لم تستطع أن تثير أية شكوك جدية حول مصداقية النص القرآني.

 أمّا عن تشكيكه أنّ مخطوطة مصحف عثمان الموجودة في طقشند ليست مصحف عثمان ، وإنّما كُتب في أواخر القرن الهجري الأول،  أسأله هنا : هل حضرتك  فحصت تأريخ  مخطوطة المصحف بالكربون 14، وهو الفحص المخبري الأكثر حسمًا في هذه الحالة لتأريخ عمر الورق ؟ وهل حضرتك متخصص في هذا النوع من الفحص؟

 وقد تكون نُسخت من مصحف عثمان ، والمصاحف المتداولة إلى يومنا هذا منسوخة من مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه.

 وأعتب بشدة على مقدمة البرنامج المحاورة للدكتور يوسف زيدان تسليمها بكل ما قاله كأنّها حقائق، بل صمتها على إنكاره القرآن الكريم أنّه كلام الله!!!

 وأقول هنا إن كان المحاور والمحاورة غير ملميْن بكل خلفيات ما يطرحانه من موضوعات من جميع جوانبها ـــــ  ولاسيما الدينية والشرعية والتاريخية ــــ  على ضيوف مثيري الجدل، ولديهم اجندات يريدون بثها في المجتمعات العربية بصفة خاصة تحت ستار محاربة الفكر العربي المتخلف، وإعادة تكوينه ليكون متطورًا ، وفي رأيهم لا يكون هذا التطور إلّا بنسف ثوابت الإسلام  فلا داعي للحوار، لأنّهما  يفتحان بذلك المجال للترويج لأكاذيب ومغالطات تنال من ثوابت الإسلام وتسقطها  بتداول أمثال هذه الفيديوهات بين عامة الناس على اختلاف فئاتهم، ولا سيما الشباب والشابات .

  كما أعتب بشدة أكبر على بعض علماء الأزهر السماح لموقع مركز تكوين الفكر العربي نشر بعض فيديوهاتهم ليكسبوا شرعية ومصداقية لافتراءاتهم ومزاعمهم وأباطيلهم.

وأخيرًا أقول: ماذا بعد إنكار المتحدث الرسمي لمركز تكوين الفكر العربي بأنّ القرآن الكريم ليس بكلام الله ؟؟؟

البريد الاليكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال: https://2u.pw/yWTjS68A

Leave a Reply