د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 30 مايو 2024م.
عند المطالبة بتصحيح المفاهيم الخاطئة لبعض الآيات القرآنية في خطابنا الديني وتنقيته من الأحاديث النبوية الضعيفة والمفردة والموضوعة الواردة في الصحيحين والسنن، وتسليم بعض علماء الحديث بصحتها. لا يعني هذا تعميم كل هذه الأخطاء والتعامل مع خطابنا الديني بأكمله على أنّه خطأ، فليس كل علماء الأمة ومفكريها بقولون بإرضاع الكبير، وزواج الطفلة السمينة، وشرب بول الإبل، ويبثون الكراهية، ويُكفّرون من يُخالفهم الرأي حتى تأتي أقلية تدعي احتكار الحقيقة والصواب، وتعلن وصايتها على الأمة بتكوين فكرها، مع أنّ فكر هذه الفئة ملئ بالأخطاء والسقطات، ويحتاج إلى مراجعة وتصحيح، فمثلًا أحد أعضاء مجلس أمناء هذه المؤسسة(الأستاذ إبراهيم عيسى) يشكك في السيرة النبوية من خلال فيديو ضمن فيديوهات المؤسسة المثبتة في موقعها، وما ذكر في الفيدdو مناف للحقيقية، ولنستمع له ونفنّده معًا: https://2u.pw/1oHg2UdJ
أولًا: ممّا لا يختلف عليه أثنان أنّ القرآن الكريم المصدر الأساسي للسيرة النبوية مبيِّنة ملامحها ابتداءً من عام الفيل الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (سورة الفيل) ونشأته (سورة الضحى) ونزول الوحي(اقرأ) ، والدعوة سرًا(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنذِرْ*وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ*وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ*وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ*وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)[المدثرً: 1-7] والدعوة الجهرية(وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]والإسراء(سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَى ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ[الإسراء:1] مؤامرة فريش لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِين.)[الأنفال:30](وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يبصرون)[ياسين:9]والهجرة إلى يثرب المدينة(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:40] بناء مسجد قباء(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)[التوبة:108]
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9]
كما تحدّ القرآن الكريم عن المواقع التي خاضها الرسول صلى الله عليه مع مشركي مكة ويهود المدينة والأحزاب،مثل: بدر وبنو القينقاع ، وبنو النصير وأحد والأحزاب(الخندق) وصلح الحديبة وفتح مكة والطائف وحنين، وخيبر، كما أشار إلى مباهلة نصارى نجران التي كانت بعد فتح مكة (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران59 -61]
فكما رأينا فإنّ السيرة النبوية في القرآن الكريم وردت في آيات قليلة لا يتعدى مجموعها خمسين آية على الأكثر، وجميعها آيات مقتضبة تتحدُث عن حادثة بعينها دون أية تفاصيل ولا تحديد زمن حدوثها، ولا مكانها في الغالب، ولا يكتمل الحدث ألّا بالرجوع إلى كتب تفسير القرآن والسيرة النبوية لمعرفة تفاصيله، فالقرآن الكريم ليس بكتاب تاريخ!
ثانيًا: أمّا عن قول الأستاذ إبراهيم عيسى أنّه لم يكتب أحدًا من كُتّاب الوحي شيئًا في السيرة، لا في حياته ولا بعد وفاته، فهذا أمر طبيعي، فهم مختصّون بكتابة الوحي، ولا شيء أخر حتى لا يختلط القرآن الكريم بما يكتبونه من غير القرآن؛ ولهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة أحاديثه في بداية نزول الوحي حتى لا يختلط القرآن بالحديث، وعندما تمكّن النّاس من الأسلوب القرآني سمح رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث، والذين كتبوا الحديث لم يكن أحدًا منهم من كتّاب الوحي، ولا ممن كتبوا في السيرة، وهاهم مَنْ كتبوا السنة: عبد الله بن عمرو بن العاص صاحب الصحيفة الصادقة ـ وجابر بن عبد الله والصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري وعمرو بن حزم وردت آثار عن بعض الصحابة أنّهم كانوا يكتبون الحديث منهم بشير بن نُهيك، وسعيد بن جبير، وغيرهم، ولم نجد منهم ممن كتبوا الوحي أو في السيرة النبوية.فللوحي كتّابه، وللحديث النبوي كتّابه، وللسيرة النبوية كتّابها ومؤرخوها
ثالثًا: أمّا عن قوله إنّ المسلمين الأوائل عاشوا أكثر من مائة عام ولم يهتم أحد برواية سيرة النبي ، لم نتكلم عن كتابة وتدوين، لازلنا نتكلّم عن رواية شفوية أنّ السيرة النبوية ظلت منذ اللحظة الأولى شفوبة الصوت، وفي أواخر القرن الأول الهجري قيل لنا أنّ شخصيات مثل عروة بن الزبير ووهب بن منبه وأبان بن عثمان بن عفّان حاولوا كتابة السيرة لكن ليس لدينا أي مخطوطة، أو أي وثيقة أو أي نص يثبت هذا القول فيظل قولًا شفويًا كالعادة، ولكن متى ظهرت السيرة النبوية ؟ ظهرت سنة 120ه، لكن لا يوجد بني آدم في العالم أيضًا شاف أو اطلع على مخطوطة أو وثيقة لهذه السيرة أصلًا، نحن سمعنا عنها، نحن سمعنا بها، كيف؟
حتى الآن نحن لم نجد فيها شيئًا على الإطلاق مكتوبًا مخطوطًا موثقًا معروفًا معلومًا، كله شفوي، ثم قال عن سيرة ابن إسحاق لم تصل إلينا مخطوطة لها، وكلها شفويه.
أقول له : لقد جانبك الصواب فيما قلته، ولو كلّفت نفسك قراءة مقدمة محقق سيرة ابن إسحاق الدكتور سهيل بن زكار، لوجدته يذكر فيها أنّه وصل إلينا مما كتبه من لذين اهتموا بالسيرة النبوية وبخلفيتها التاريخية في القرنين الأول والثاني الهجريين، منهم وهب اين منبه(34- 114/ 654- 732م) ووصلتنا أجزاء من كتابات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري(124ه/ 741) في السيرة في كتاب المصنّف لعبد الرّزاق ابن همّام الصنعاني(211ه/ 826) ويُعتبر كل من موسى بن عقبة أهم ممثلي المرحلة الثانية من مراحل كتابة السيرة، وأقدم من كتب في ظل العباسيين، وقد وصلت إلينا قطع صغيرة من كتاب موسى بن عقبة في المغازي نُشرت سنة 1904 م، ومن دراسة هذه القطعة يتبيّن اهتمام موسى بالترتيب الزمني، ويذكر تواريخ الحوادث، وباستعماله للأسانيد بدقة، ثم باعتماده شبه الكلي على شيخه الزهري.( صفحة 8، 9)
ويقول الدكتور سهيل زكّار أنّه حصل على مصوّرة لقطعة من سيرة ابن إسحاق موجودة بالمغرب، ضممتُها إلى أوراق من قسم المغازي موجودة بالمكتبة الظاهرية بدمشق، ثم قُمتُ بمقارنة المواد والأخبار الموجودة في هاتيْن القطعتيْن بما عند ابن هشام ممّا يقبلهما، فاتضحت لي أهمية نشرهما.[المرجع السابق، ص 10]
ويقول في ص 18 من المقدمة: هذا وتعود القطعتان اللتان أقدم لهما إلى القسم الثالث من سيرة ابن إسحاق، ولما كان هذا القسم يغطي الفترتيْن المكية والمدنية من حياة النبي، فقد كان من حسن الحظ أنّ أولى القطعتيْن تتعلق بالفترة المكية، وهي تكاد تغطيها جميعًا بينما تتعلق القطعة الثانية بالفترة المدنية، وهي تروي أخبار الحوادث التي وقعت مع نهاية معركة بدر الكبرى حتى نهاية معركة أحد.[ص 18]
ويوجد من القطعة الأولى مخطوطتان واحدة قديمة تعود في تقديري إلى القرن الخامس للهجرة، وهي موجودة في مكتبة القرويين في فاس، وتحوي مائة واثنتان وخمسون صفحة، كتبت بعدة خطوط حسب القاعدة المغربية، ولقد لحقت أوراق هذه المخطوطة رطوبة شديدة أدّت إلى طمس بعضها طمسًا كليًا والبعض الآخر طمسًا جزئيًا، كما سببت خرومًا لحقت ببعض الأوراق، وقد جعلت هذه الحالة قراءة المخطوط أمرًا في غاية الصعوبة، ولذلك فقد استغرق نسخ هذا المخطوط قرابة العام (ص 18)
ويسترسل قائلًا :” وبعدما أنجزت عملية النسخ، وكدتُ أنجز التحقيق تمكنتُ من الحصول على مصورة لنسخة ثانية من المخطوط موجودة في الخزانة العامة في الرباط، وهذه النسخة تعود إلى هذا القرن، أو القرن الماضي ‘لى أبعد الحدود، وخطها مغربي جميل.”[ص 19]
أمّا القطعة الثانية، فهي عبارة عن أوراق فيها جزء واحد صغير من أجزاء المغازي، كان الأستاذ ناصر الدين الألباني قد عثر عليها في المكتبة الظاهرية بدمشق، وكنت عام(1964م)قد كلّفتُ أحد النساخ بنسخ هذا الجزء، ففعل، ويبدو أنّ المخطوط الأصلي منه يعود إلى القرن الخامس للهجرة، وكان صاحبه طاهر بن بركات الخشوعي(توفي 482ه/ 1090م)من رجال الحديث، وقد سمعه في دمشق مع كامل السيرة، بحضور جملة من علماء عصره، من الخطيب البغدادي سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان البغدادي قد جاء إلى دمشق قبل قرابة أربع سنوات تاركًا بغداد إثر فتنة الساسيري، وقد ترك لنا بعض تلامذته قائمة بالكتب التي حملها معه إلى دمشق، ومنها سيرة ابن إسحاق.(ص 19)
كما أنّك لو كلّفت على نفست واطلعت على مقدمة محققي السيرة النبوية لابن هشام ينفي ذلك؛ لوجد أنّهم ذكروا أنّ أبان بن عثمان بن عفّان المدني توفي سنة 105ه ألّف في السيرة صحفًا جمع فيها أحاديث حياة الرسول، ثمّ وهب بن مُنبِّه اليمني المتوفى سنة110ه، وفي مدينة َيْدلبرج بألمانيا قطعة من كتابه الذي ألّفه في المغازي، وغير هؤلاء كثير.[ص 5]
ولو ذهبت إلى دار الكتب المصرية لوجدت فيها 9 مخطوطات لسيرة ابن إسحاق، و22 مخطوطة لسيرة ابن هشام.
مخطوطة جامع عنيزة ( مخطوطة 86) 170 صفحة
وهكذا نجد أنّ الأستاذ إبراهيم عيسى ـــــ شكك من عندياته ــــ في صحة السيرة النبوية، وأكّد عدم وجود أية مخطوطة أو أية وثيقة أو أي نص لما كتبه وهب بن منبه وعروة بن الزبير وأبّان بن عثمان بن عفّان ومحمد ابن إسحاق ، وليس نتيجة بحث ودراسة وتدقيق وتحقق، فما كتبه محقق سيرة ابن إسحاق في مقدمته، ومحققو سيرة ابن هشام في مقدمتهم ينفى مزاعم الأستاذ إبراهيم عيسى وأمثاله ممّا يتجرّأون على التشكيك في سيرة أفضل الخلق، وخاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فهل أمثال هؤلاء نأتمنهم على تكوين الفكر العربي ؟
للحديث صلة
البريد الالكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://linksshortcut.com/eTGJz