د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة على جزءيْن في 7 ، و15فبراير 2024م.
من خلال متابعتي للقنوات الإخبارية التي تستضيف بعض المحللين السياسيين الإسرائيليين من داخل الأراضي المحتلة أجدهم يرددون أكاذيب لا أساس لها من الصحة ليسلبوا الفلسطينيين حقهم في أرضهم، بل وجدتُ بعضهم يسلب المسجد الأقصى أنّ الرسول صلى الله عليه أُسري به من المسجد الحرام إليه، وعُرِج به منه إلى السماء، فقال أحدهم أنّ الإسراء لم يكن إلى المسجد الأقصى بالقدس، ولكن إلى المسجد الأقصى بالجعرانة بالطائف، وذلك لينفوا قدسيته لدى المسلمين، لأنّهم يريدون الاستيلاء عليه والانفراد بكامل القدس؛ لذلك نجد أنّ المسؤولين الغربيين في تصريحاتهم الحالية يتجنبون ذكر القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية عندما يتحدثون على حل الدولتيْن، ويكتفون بذكر غزة والضفة الغربية ضمن الدولة الفلسطينية، لاعتمادهم للسردية الإسرائيلية الصهيونية التي تلغي قدسية المسجد الأقصى لدى المسلمين.
وهم بهذا أنكروا حقيقة تاريخية أقر بها مستشرقون الكثير منهم هاجم الإسلام، ونال من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن التشريعات الإسلامية عندما تحدثوا عن الإسراء والمعراج نجدهم ذكروا أنّ الإسراء كان من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ولنقرأ هذه النصوص لبعض المستشرقين على اختلاف جنسياتهم، ومن بينهم يهود، ولنبدأبِ:
- المستشرق ثيودور نولدكه (1836 – 1930) الذي يعد شيخ المستشرقين الألمان، فقد أشار المستشرق الفرنسي بلاشير في كتابه” القرآن” إلى موقف نولدكه من الإسراء والمعراج في حديثه عن موقف نولدكه من القرآن المكي والمدني بقوله:” إذ أنَّه يمكن التمييز بينهما من حيث الموضوعات الجديدة كإسراء النبي إلى بيت المقدس وعروجه إلى السماء وأثر ذلك على الدعوة من حيث تكذيب قريش بها وارتداد بعض المسلمين عنها”[بلاشير: لقرآن، نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره ترجمة رضا سعادة/ ص57.]
- كارل بروكلمان (مستشرق يهودي ألماني)رغم أنّه وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالكاهن في كتابه”تاريخ الأدب العربي. 1/ 134، ورغم أنّه اعتبر الإسراء والمعراج من الأساطير الشعرية التي خلفتها الكتب الإسلامية إلّا أنّه ذكر أنّ الإسراء إلى بيت المقدس، فقال:” وفي هذه الأثناء كان مسلمو مكة، على ما تقول الروايات، يعانون أزمة جديدة، ذلك أنّ حديث محمد عن إسرائه العجيب برفقة جبريل إلى بيت المقدس، ومن ثم إلى السماء، كان قد أوقع موجة من الشك في نفوس بعض المؤمنين ، ولكن أبا بكر ضرب بإيمانه الراسخ مثلًا طيبًا لهؤلاء المتشككين فزايلتهم الريب والظنون، ومن الجائز أن تكون هذه الرحلة السماوية التي كثيرًا ما أشير إليها يعد من الأساطير الشعرية التي خلفتها لنا الكتب الإسلامية جميعها أقدم من ذلك عهدًا..”[كارل بروكلمان(1979م) تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين فارس، ومنير البعلبكي، 1/44، ط8، دار العلم للملايين، بيروت – لبنان.]
3. واشنطن إيرفينج(مستشرق أمريكي)في كتابه” محمد” قال:” تم تأمين ملجأ وحماية للرسول(صلى الله عليه وسلم)من المطعم بن عدي، فغامر بدخول مكة، ولم يلبث بعد أن أعقب كشف غطائه عن الجن في وادي نخلة، بسط الأرض والسماء بين يديه عبر رؤية أو وحي كان أكثر خرقًا للعادة، وهو منذ حصوله ظل موضوع تعليقات من دكاترة – فقهاء – الإيمان الإسلامي، وموضوع خرافات من الساذجين، ونعني الرحلة الشهيرة التي أسري به فيها(صلى الله عليه وسلم)من مكة إلي بيت المقدس”[إيفرينج، واشنطن (1999م)محمد، ترجمة ومقارنة د. هاني يحيى نصري، ص 165، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء– المغرب]
4. أميل درمنغم(مستشرق فرنسي)في كتابه حياة محمد، حيث أورد حديث الإسراء والمعراج بعد ذكره لإسلام الجن، وممّا أورده في حديث الإسراء:” فلما بلغ محمد بيت المقدس ربط البُراق.” درمنغم، إميل (1988)حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، ط2. 1988م، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – لبنان.]
5. وليم موير(مستشرق بريطاني) ويتعرض “موير” إلى واقعة إسراء الرسول، وبعد أن يسردها طبقًا للروايات الإسلامية ويشير إلى أثارها بين أهل قريش واتباعه يعلق عليها بأنّها عبارة عن خيال خاصة أنّه وصف السماوات ومن فيها يتسم بطابع الرومانسية.”[وليم موير:”حياة محمد وتاريخ الإسلام The Life Of Mohommet And History Of Islam]
6. هاملتون جب وكالرز في الموسوعة الإسلامية الميسرة؛ فممّا جاء في مادة”إسراء”هذا النص:” تجري قصة الرحلة الليلية إلى بيت المقدس على النحو التالي: ذات ليلة وبينما محمد نائم في الحجر بمكة، أو في دار أم هانئ.”[ه.أ..ر.جب، وج .ه .كالمرز(1985)الموسوعة الميسرة، ترجمة د. راشد البراوي، 1/79،طبعة بدون رقم،، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر. ]
7.جورج بوش الجد(1796- 1859م) في كتابه ” محمد مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس امبراطورية المسلمين”بالرغم من إنكاره للإسراء والمعراج، وحديثه الفج غير الموضوعي عن الإسلام إلّا أنّنا نجده يقول: ” آثر الله محمدًا في السنة الثانية عشرة لبعثته المزيفة برحلة ليلية فيما يقول هو – من مكة إلى القدس، ومن القدس إلى السماء السابعة بصحبة جبريل، ونجد إشارة لهذا في مطلع سورة الإسراء من القرآن.”[ جورش بوش الجد (2005)محمد، ترجمة وتحقيق وتعليق د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ص 89،ط3 ، دار المريخ، الرياض- السعودية.]
وهكذا نجد كبار المستشرقين(غم مواقفهم تجاه الإسلام ونبيه غير حيادية وغير موضوعية أجمعوا أنّ الإسراء كان من المسجد الحرام بمكة المكرّمة قبل الهجرة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، ومن خلال ال 15 نصًا المذكورين لأكثر من سبعة عشر مؤرخًا ومستشرقًا تتأكد هذه الحقيقة، ولم يذكر ولا واحد منهم أنّ الإسراء كان إلى المسجد الأقصى بالجِعرانة، في طريق الطائف إلْا المستشرق البريطاني الفريد جيوم في كتابه الإسلام؛ حيث قال: ” إنّ المسجد الأقصى الذي أسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه أنّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد ذهب في الليل من المسجد الحرام الموجود في مكان يسمى “الجعرانة” يبعد عن مكة 50 كم إلى المسجد الأقصى في السنة الثامنة للهجرة”، ويعلق على هذا بأنّه التفسير الطبيعي تمامًا للآية القرآنية التي يعبر فيها محمد صلى الله عليه وسلم عن شكره لله؛ إذ مكنه من الحج ليلًا في وقت لم يكن فيه المشركون قد أباحوا له إقامة شعائره، فكان عليه أن يعقد معهم صلحًا حتى يتمكن من الذهاب إلى الحج في وضح النهار.[جيوم ، الفريد(1958) الإسلام، ترجمة ، د . محمد مصطفى هدارة، د .شوقي اليماني السكري، ص 108، ط1،القاهرة ، مكتبة النهضة المصرية]
وهذه المقولة بها خطأ جغرافي وأخطاء تاريخية كثيرة، وهي أنّ الجِعرانة تبعد عن مكة 25كم،وليس 50كم، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب من الطائف بعد موقعة حنين إلى الجعرانة سنة 8 ه، حيث قسّم غنائم هوازن، واتجه منها معتمرًا إلى مكة التي تم فتحها وأسلم أهلها.
فالنصوص السابقة واضحة وصريحة أنّ الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان إلى بيت المقدس، وليس من الجعرانة بالطائف إلى المسجد الحرام.
وإنْ نّسَبَ البعض هذه الرواية إلى الواقدي في مغازيه، فقد أخطأوا، لأنّ رواية الواقدي عن عمرة الجِعرانة كما أطلق عليها مؤرخو السيرة النبوية وسائر المؤرخين المسلمين، وإليكم نص الواقدي:”وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا; فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ, – فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ – ولم يجُز رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلّا مُحْرِمًا، فلم يزل يُلبي حتى استلم الركن.”[الواقدي( 1404ه/1984م) المغازي ، تحقيق د. مارسدن جونس، 3/958، 959، ط3،عالم الكتب، بيروت – لبنان.]
في هذا النص نجد الآتي:
- يتحدث الواقدي عن عُمرة وليس إسراءً، فقد كان الرسول صلى الله عليه بالجعرانة بعد موقعة حنين بالطائف، وقبل عودته إلى المدينة أحرم في الجعرانة، التي تبعد عن مكة 25كم، وتوجه إلى الكعبة معتمرًا، وسُميت بعُمرة الجعرانة، وبهذا الاسم تحدث عنها كتاب السيرة والمؤرخون، والواقدي عندما ذكر المسجد الأقصى ذكر المسجد الأدنى في ذات الموقع، بينما كان العرب يُطلقون على المسجد الذي في القدس بالمسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام(المسجد الأدنى)، وقد انفرد الواقدي بذكر هذين المسجدين في عمرة الجِعرانة، فلم يذكرهما سواه، فهي رواية مفردة، ولم يذكر فيها مصادره، وعلى العموم الواقدي لا يعتد المؤرخون برواياته .
- أنّ الإسراء والمعراج حدثا قبل الهجرة عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، حتى أنكر كفّار قريش عليه ذلك، فقالوا:”إنّ هذا القول لا يصدّق أفيذهب محمّدٌ إلى القدس ويرجع إلى مكّة في ليلة واحدة”، بينما عمرة الجِعرانة حدثت بعد الهجرة بثمان سنوات، وكان في الجعرانة وليس في مكة، والإسراء حدث وهو في مكة في عام الحزن. ، ويؤيد هذا ما جاء في تاريخ الطبري تحت عنوان” عمرة رسول الله من الجعرانة “
- أنّ آية الإسراء تتحدّث عن إعجاز إلهي في قوله تعالى:(لِنُرِيَهُ مِنْ آآيَاتِنَا) فأين الإعجاز في خروجه عليه الصلاة والسلام من الجِعرانة التي تبعد عن مكة 25كم محرمًا إلى مكة، وبسبب الإسراء أرتد بعض النّاس مستنكرين هذا الحدث، لأنّ العقل البشري – آنذاك – لم يستوعبه، فلم يُصدّقه، فأين الإعجاز في السير 25كم؟
- بينما الإسراء كان من مكة إلى المسجد الأقصى بالقدس ثم العروج من المسجد الأقصى إلى السماء السابعة، ثم العودة إلى مكة المكرّمة في نفس الليلة ما بعد العشاء إلى الفجر، وهنا يكمن الإعجاز الذي لم يستوعبه العقل البشري آنذاك إلّا العقل المؤمن بقدرة الخالق مثل إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
- والآية تبيّن أنّ الله قد بارك المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حوله)ومنطقة الجِعرانة بالطائف ليست منطقة مباركة، ولم يرد في كتب السيرة النبوية شيئًا عن ذلك، والقول إنّ بالجعرانة كعبة اللات، وهي مقدّسة، فهو قول مردود، فالله لا يُعطي قدسية للأوثان ولا لأماكنها، والرسول صلى الله عليه وسلّم لا يُقدس الأصنام، فهو لم يسجد لصنم قط.
- أمّا المسجد الأقصى فحوله مبارك، لكثرة الأنبياء الذين صلّوا به، ولصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما.
وإلى جانب قدسية القدس لدى المسلمين، فهي مدينة فلسطينية عربية كنعانية، وتوجد شهادات من العهد القديم أنّ أورشليم اسم كنعاني عربي وليس عبري، وأنّ اليهود لم يؤسسوا القدس، فأورشليم التي تطلق على القدس كلمة كنعانية معناها “مدينة السلام”، ووفقًا لرؤية مسيحية إنجيلية يرى شفيق مقار أنّه” طبقًا لما يقرره العهد الجديد، دعيت المدينة باسم” يروشاليم”،أو” يروساليم” الذي تحوّل إلى” يروشلايم”، ثمّ بات أورشاليم نسبة إلى مُنشئها” وملكها ملكي صادق الذي دعي بملك ساليم، أي ملك السلام”[رسالة إلى العبرانيين7/1 – 2، يوحنا 3/ 23] المذكور في التوراة باسم ” ملك شاليم” [تكوين14/ 8] [انظر: شفيق مقّار: المسيحية والتوراة، ص 25، رياض الريس للكتب والنشر، طبعة سنة 1992م، لندن، قبرص.]
فكيف تٌقام دولة فلسطينية دون أن تكون القدس (الشرقبة) على الأقل عاصمتها؟
البريد الالكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://nz.sa/YyRQu