د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة ارأي بجريدة المدينة في 27 / 12/ 2023م.
توقفتُ في الجزء الأول عند تفسير مقولة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو لتبرير حربه الغاشمة لغزة التي التي استدعى نبوءة إشعياء إحدى أساطير العهد القديم “في إطار سعيه لمواصلة حرب الإبادة على قطاع غزة، وقال: “نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”. وأضاف :”سنحقق نبوءة إشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببا في تكريم شعبكم، سنقاتل معا وسنحقق النصر”.كما استدعى نصًا دينيًا آخرًا، حين قال “يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول لنا كتابنا المقدس. ونحن نتذكر ذلك بالفعل، ونحن نقاتل بجنودنا الشجعان وفرقنا الذين يقاتلون الآن في غزّة وحولها وفي جميع المناطق الأخرى في إسرائيل”.، وهو بهذا يؤكد أنّ حرب نتنياهو على غزة حرب دينية، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: مصطلح أبناء النور وأبناء الظلام، فهو مصطلح ديني ظهر في القرن الثاني قبل الميلاد في أدب الرؤيا بعد انتهاء النبوة في إسرائيل، وهذا الأدب يعبر عنه في الأناجيل رؤيا يوحنا اللاهوتي، تتكلم عن آخر الزمان قبل مجيء المسيح المخلص، ستحدث حرب كبيرة مدمرة بين أبناء النور والظلام، ومعسكر أبناء النور الذي يعنيه نتنياهو، يشمل إسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وفق تفسير رؤيا يوحنا اللاهوتي المسيحي والتفسير اليهودي.
أمّا أبناء الظلام هم الفلسطينيون ومن يدعمهم، وصدرت قوانين في أوروبا لإبادة أبناء الظلام .
فهي حرب دينية للقضاء على أبناء الظلام تنفيذًا لأمر الرب.
قال يوحنا اللاهوتي في آخر الزمان ستقوم حرب أبناء النور و أبناء الظلام في (هرمجدون) شمال فلسطين على بعد 55 ميلاً شمال تل أبيب و20 ميلاً جنوب شرق حيفا وعلى بعد 15 ميل من شاطيء البحر المتوسط، وتوجد هذه المدينة حاليًا التي كانت إحدى أهم مدن سليمان والملك آخاب على أنقاض المدينة القديمة وتحمل نفس الاسم (هرمجدون) وتعرف مجدون الآن باسم (تل المتسلم) والتي ـــ كما يقول البعض ــــ ستشهد يوم حساب الرب لهذا العالم).[ https://2u.pw/4ggILBC]
ثانيًا: مصطلح العماليق: كلمة العماليق تحيل إلى قبيلة من البدو الرحل سكنوا شبه جزيرة سيناء وجنوبي فلسطين، وصارت تعني في الثقافة اليهودية “ذروة الشر الجسدي والروحي”.
والعماليق مصطلح له دلالة دينية ورد في التوراة المحرّفة أنّ الرب يأمرهم بسحق ذكر العماليق من تحت السماء، لا تنسى امحوا ذكره، اقتلوا رجل أو امرأة، طفل أو رضيع، بقر أو غنم، فقد جاء في سفر العدد (24/2):«عماليق أول الشعوب. وأما آخرته فإلى الهلاك». ويقصد بذلك أنّ العمالقة كانوا أول شعب وقف في وجه بني إسرائيل الذين أخذوا، بعد خروجهم من مصر بقيادة النبي موسى عليه السلام في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، يهاجمون العمالقة، ويعتدون على ممتلكاتهم، وجاء في سفر صموئيل الأول”اذهب وحارب عماليق، هم وكل ما لهم. لا تشفق عليهم، اقتل جميع الرِجال والنساء والأطفال والرضع، واقتل ثيرانهم وغنمهم وجمالهم وحميرهم، وحاربهم حتى يَفنوا”.
ثالثًا: قول نتنياهو أنّه سيحقق نبوءة إشعياء التي تتنبأ بالخراب لمصر والظلام لفلسطين والنور لإسرائيل، وهذه نبوءة من وضع كتاب العهد القديم، ورد في الإسرائيليات أنّ النبي إشعياء نبي من أنبياء الله عند اليهود، ولقب بـ”النبي الإنجيلي” لكثرة كتابته عن المسيح، وهو من نسل ملكي، وكان مصلحًا اجتماعيًا.امتدت رسالته لما يزيد على 60 عامًا، وعاش قرابة 80 عامًا، وعاصر ملوك يهوذا:عزيا ويوثام وأحاز وحزقيا، ويعتبره اليهود أحد أعظم أنبياء العهد القديم. وقتل بمنشار خشبي في زمان حكم الملك منسَّى (مَنْ ينسى).
ويعد “سفر إشعياء” نصًا رئيسيًا من العهد القديم، وجمع على مدار قرنين، بدءًا من النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد إلى النصف الثاني من القرن السادس قبل الميلاد وهو ليس بنبوءة واحدة، وإنّما عدة نبوءات، منها: تناول نهاية منفى الشعب اليهودي، ونهاية الزمان، وهو حسب غالبية الدراسات الكتابية عمل جماعي، نصفه تقريبًا كتبه النبي إشعياء والباقي تلاميذه نقلًا عنه.
ولم تتحقق نبوءة أشعياء ، ولن تتحقق في حديثها عن سبي الشعب اليهودي إلى بابل وعودته ـــ وهذه النبوءة لم تتحقق لأنّ اليهود الذين سبوا في بابل رفضوا العودة عندما طلب منهم قورش الفارسي العودةــــ، بالإضافة إلى إعادة بناء الهيكل في القدس ـــ الهيكل لا أثر له في القدس ـــ وقد أسماه اليهود الهيكل بِ “بيت الرب”، أي المكان الذي يسكن فيه على الأرض، ولا تجوز الصلاة إلاَّ فيه، وعندما جاء المسيح عليه السلام صحَّح وصرَّح بأنَّ الله يقبل العبادة في أي مكان لأنَّ له ملكوت السماء والأرض، وهو بذلك أنهى دور الهيكل في حياة اليهود ، فعاد بيْيدرًا يبوسيًا كما كان، وعندما رآه قد تحول سوق توثق فيها عقود الربا وماخورة دعارة، وملعب حمام تنبأ بهدمه ، ومن هنا حقد اليهود على المسيح عليه السلام وحاربوه، وهدم الهيكل بيد الأقوام الخرى وعدم بنائه هو عقاب الرب لبني إسرائيل على كفرهم ،فكان خراب البيت الأول بيد “بنوخذنصر” البابلي سنة 578ق.م، فقد تمرَّد صديقًا على “بنوخذنصَّر” مستعينًا بالمصريين ،وثارت يهودا على بابل، وقاومت أورشليم الحصار البابلي ثمانية عشر شهرًا سقطت بعدها المدينة، وبعد شهر من سقوطها أرسل “بنوخذنصر” أحد قواده إلى أورشليم ومعه تعليمات لمحوها فجعلها قاعًا صفصفًا، وهدم المعبد، وأخذ كنوزه الذهبية ،وسبى اليهود إلى بابل[ د.ليلى حسن سعد الدين: مثل الذين حُمِّلوا التوراة ، ص 127].أعاد بناؤه كورش، ولكن اليهود لم يحفظوا الفرائض والوصايا، ولم يعملوا بها ،وكفروا وحق عليهم وعلى بيتهم الخراب والدمار الأبدي، وبين عشية وضحاها يصبح هذا البيت أثراً بعد عين في عام 70م لأنَّه استحال إلى مغارة لصوص، ومأوى فجرة وكفرة ،وتوجه تيتس الروماني إلى أورشليم، ودخلت جيوشه المعبد الداخلي، وأشعلت النار في قدس الأقداس، وأضرمت النار في المدينة كلها، وذبح آلاف المدنيين والكهنة والعلمانيين والنساء والأطفال، وأمر تيتس بإبادة المدينة كلها . وانتهى حال المعبد إلى الخراب الذي قدَّره الله له إلى الأبد ، وبيوت الله لا تعمر إلاَّ بالمؤمنين الموحدين الذين لا يشوب إيمانهم أدنى شك. ولن يقوم لهذا البيت اليهودي قائمة لأنَّه لا راد لحكم الله، وقد شهد التاريخ محاولات إعادة بنائه، وكلها باءت بالفشل كمحاولة الإمبراطور الروماني جوليان سنة 361م، فلقد ارتد عن المسيحية، وأراد إعادة بناء الهيكل ليبطل نبوءة المسيح عليه السلام، ولكنه لم يتمكن من ذلك رغم ما رصده من أموال وعمَّال لإعادة البناء، وممّا يثير الدهشة والاستغراب أنّ المسيحيين يؤيدون عمليات الحفر التي تقوم بها السلطات الإسرائيلية في المسجد الأقصى بحثًا عن الهيكل المزعوم ممّا يعرض المسجد الأقصى للانهيار، وهم يعلمون بنبوءة المسيح عليه السلام بعدم إعادة بناء الهيكل عقابًا إلهيًا لليهود على كفرهم!
هذا ويستند اليهود إلى النص العبري الوارد في سفر الرؤيا:16 بأنّ المعركة المسماة معركة هرمجدون ستقع في الوادي الفسيح المحيط بجبل مجدون في أرض فلسطين، وأنّ المسيح سوف ينزل من السماء ويقود جيوشهم ويحققون النصر على الكفار، وصرح القس (بيلي جراهام) عام 1977م: (بأنّ يوم مجدو على المشارف، وأنّ العالم يتحرك بسرعة نحو معركة مجدو، وأنّ الجيل الحالي يكون آخر جيل في التاريخ، وأنّ هذه المعركة ستقع في الشرق الأوسط).
يتسابق الساسة الاستعماريون إلى تثبيت فكرة المعركة بتفسيرها اليهودي لدى الشعوب للحصول على مكاسب سياسية، وتنفيذاً لمآرب الصهيونية العالمية وإرضاءً لدولة إسرائيل، وبهذا الصدد تقول الكاتبة الأمريكية جريس هالسل في كتابها النبوءة والسياسة: (إن النبوءات التوراتية تحولت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصدر يستمد منه عشرات الملايين من الناس نسق معتقداتهم ومن بينهم أناس يرشحون أنفسهم لانتخابات الرئاسة الأمريكية وكلهم يعتقدون قرب نهاية العالم، ووقوع معركة هرمجدون، ولهذا فهم يشجعون التسلح النووي ويستعجلون وقوع هذه المعركة باعتبار أن ذلك سيقرب مجيء المسيح).
وفي هذا المعنى تحدث الرئيس الأمريكي ريغن عام 1980م مع المذيع الإنجيلي جيم بيكر في مقابلة متلفزة أجريت معه قال: (إننا قد نكون الجيل الذي سيشهد معركة هرمجدون).
أما الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عام 2008م قد نقلت عنه مجلة دير شبيغل الألمانية ما يلي: (منذ ذلك الوقت أصبح بوش واحدًا من الستين مليون أمريكي الذين يؤمنون بالولادة الثانية للمسيح)
وأتعجّب كيف يؤمن قادة دول كبرى بالمسيحية التي من تعاليمها المحبة والتسامح، بما يناقضها من خرافات وأساطير وضعها كتّاب التلمود والعهد القديم تدعو لحروب إبادة للأطفال والنساء بمن فيهن الحوامل والمدنيين من العرب والفلسطينيين وتدمير مدنهم ليعود المسيح، وينسبونها ذلك إلى الخالق جل شأنه، وأنّه يأمر بقتلهم، فهي تتناقض مع تعاليم المسيح عليه السلام التي منها:” إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، وإذا أخذ أحدهم رداءك فأعطه إزارك.”!
البريد الالكتروني : suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://nz.sa/FZbrL