مؤسسة تكوين الفكر العربي

طه حسين والمشروع النهضوي التجديدي التنويري الإصلاحي(3)

By شهرين مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

توقفتُ في الحلقة الماضية عند ادعاء الدكتور طه حسين  نفس ادعاء جو لد تسهير، فزعم أنّ التشريع الإسلامي مستمد من القانون الروماني، فيقول  في صفحة 39 من كتاب مستقبل الثقافة في مصر”وقد ذكرت في غير هذا الوضع أنّ الكاتب الفرنسي المعروف بول فاليري  أراد ذات يوم أن يشخص العقل الأوربي فرده إلى عناصر ثلاثة : حضارة اليونان وما فيها من أدب وفلسفة، وفن، وحضارة الرومان وما فيها من سياسية وفقه، والمسيحية وما فيها من دعوة إلى الخير والحث على الإحسان، فلو أردنا أن نحلل العقل الإسلامي في مصر وفي الشرق الغريب أفتراه ينحل إلى شي آخر غير هذه العناصر التي أنتهى إليها تحليل  بول فاليري.”

   ثم يطبق طه حسين تحليل بول فاليري على الإسلام فيقول:”خذ نتائج العقل الإسلامي كلها فستراها تنحل إلى هذه الآثار الأدبية والفلسفية والفنية، التي مهما تكن مشخصتها فهي متصلة بحضارة اليونان، وما فيها من أدب وفلسفة وفن، وإلى هذه السياسية والفقه اللذين مهما يكن أمرهما فهما متصلان أشد الاتصال بما كان للرومان من سياسية وفقه، وأنّ هذا الدين الإسلامي الكريم وما يدعو إليه من خير، وما يحث عليه من إحسان، ومهما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن يفكروا أنّ الإسلام قد جاء متممًا ومصدقًا للتوراة والإنجيل”.

وقد قال الدكتور طه حسين قولته هذه ليبين أنّه لا فرق بين العقل الأوربي والعقل المصري، فيقول : “وإذًا فمهما نبحث ومهما نستقضي فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أنّ بين العقل الأوربي والعقل المصري فرقًا جوهريًا)

هذا وقد تصدى فضيلة الشيخ محمد الغزالي في كتابه” دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين” لادعاء جولد تسهير بأنّ التشريع الإسلامي مستمد من القانون الروماني، والذي ردّده  الدكتور طه حسين، فقال فضيلته:”وكنا نعذر الشرق الواهم لو أنّ القانون الروماني والتشريع الإسلامي يتفقان في المنابع والغايات، أو يتشابهان في الحقوق والواجبات، أو يتقاربان في المبادئ والعقوبات، أمّا والشريعة الإسلامية تناقض القانون الروماني في القيم الخلقية والاجتماعية، وتخالف مخالفة واسعة الأمد في النظرة إلى الإنسان والحياة كلها، فإنّ القول باستفادة الفقه الإسلامي من الرومان قول بيِّن البطلان… الفقه الإسلامي يستقي أولًا وآخرًا من الوحي، وقد أمده الكتاب والسنة بأحكام كلية وجزئية لا تحصى:أحكام تتناول الإنسان من نعومه أظفاره إلى مثواه الأخير، من ساعة الميلاد إلى حين التكفين، توجد نصوص فقيهة تحد العمل الواجب ومن يقضه الإنسان مع الفجر  إلى هجعته إلى فراشه كذلك، ومن صلته مع جاره إلى اتفاقه مع غيره على تنصيب رئيس الدولة. إنّ التشريع الإسلامي تغلغل في كل شيء حتى أصبح من لوازم المجتمع الإسلامي في القرى والمدائن، تدرس الشريعة كلها عبادتها، ومعاملاتها في المساجد، وأن يعرف الخاصة والعامة أمور دينهم منها ليلًا ونهارًا، ولم توجد في الحضارات القديمة أمة كتبت في الفقه واشتغلت بالشؤون التشريعية إلى حد الإسراف مثل ما أثر ذلك على الحضارة الإسلامية والأمه الإسلامية  فكيف يقال إنّ المسلمين نقلوا عن غيرهم؟؟ … إنّ الفقه الروماني لا يعد وأن يكون تنظيمًا ضيقًا خطأه أكثر من صوابه لمجتمع تحكمه علاقات فوق البدائية حينًا، ودونها حينًا آخر، فالقول بأنَّ التشريع الإسلامي نقل عن القانون الروماني كالقول في زماننا هذا بأنّ أمريكا نقلت حضارتها عن الكنغو، أو أن البحر  الأبيض المتوسط يأخذ مياهه من بحيرة مريوط.”[محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد المستشرقين. ص 85، 86]

   هذا بعض ما قاله فضيلة الشيخ الغزالي ردًا على الادعاء بأنّ الفقه الإسلامي مستمد من التشريع الروماني، ومن يريد تفاصيل أكثر فليرجع إلى الكتاب المشار إليه.

ولم يكتف الدكتور طه حسين بهذه التبعية الغربية، فهاجم البلاغة العربية وأعتبرها سخفًا، وطالب بالتقليل من دروس البلاغة والصرف والنحو ليتيح المجال لدراسة الأدب الأوربي قديمة وحديثة باللغة العربية في المراحل الدراسية المختلفة .

هذا وقد أستجيب لاقتراح الدكتور طه حسين واختصرت مناهج البلاغة والنحو والصرف، فماذا كانت النتيجة؟

   ضعف عام في اللغة العربية حتى من خريجي أقسام اللغة العربية، وركاكة في اللفظ ولحن في اللغة، وأكبر شاهد على هذا الأخطاء النحوية الظاهرة في عناوين الصحف والمجلات ، ولحن المذيعين والمذيعات .

  وبعد … هذه ثمار كتاب مستقبل الثقافة في مصر لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والذي لكم أساء إلى الإسلام ورسول الإسلام ورجال الإسلام، وإلى اللغة العربية!

 لقد كان الدكتور طه حسين أمينًا على دعوته بتلقي الحضارة الأوربية، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، ما يحمد منها وما يعاب؛ إذ ظهر هذا واضحًا على مؤلفاته ولاسيما تلك التي ألبسها ثوب الإسلام وهي: في الشعر الجاهلي، مرآه الإسلام، الوعد الحق، على هامش السيرة، الشيخان، الفتنة الكبرى، إذ أخضعها لمذهب ديكارت الفلسفي القائم على الشك، كما طبّق المنهج ذاته في دراساته عن الأدب  العربي وشعرائه ليشكك في تاريخنا الإسلامي وأدبنا العربي، فلقد خص دراساته عنهما بهذا المنهج، الذي لم يطبقه عند دراسته للتاريخ اليوناني، والأدب الغربي وأدبائه ومفكريه والأمثلة كثيرة لا حصر لها.

منها تلك القصة التي رواها الدكتور طه حسين عن أستاذه ديكارت  قصة لا يصدقها عقل، ولا يقبلها منطق، إنّها قصة لا تختلف عن ألف ليلة وليلة، رواها الدكتور طه حسين عن ديكارت  كحقيقة مسلم بها، ولم يشكك فيها، بل قال عنها أنّه لو أعلنها في فرنسا(لاندكّت لها السوربون ولا اضطربت لها الكوليج دي فراتس، ولأعلن لها المجمع العلمي الفرنسي إفلاسه) ما هي هذه الحقيقة؟

   هي كما يقول الدكتور طه حسين (أمَّا ديكارت لم يكن مسيحيًا ولا فيلسوفًا ولا من أصحاب التجديد، ولا من أنصار هذه الحقائق الثابتة التي ألفها الناس، وإنّما كان مسلمًا ديانًا متصوفًا مغرقًا في التصوف، شاحطًا مشرفًا في الشطح انتهى بهذا كله إلى  شي لا أستطيع أن اسميه إظهار الكرامات، ولعل أحسن طريق لشرح هذه الناحية الخفية من حياة ديكارت أن ألخص لك في شي من الإيجاز بعض ما كتبه ديكارت عن نفسه، ومـا وجدناه في الكتب المخطوطة).[ د. طه حسين: ومن بعيد. المجلد الثاني عشر، ص 214.  

 وأخذ  الدكتور طه حسين في سرد هذه القصة بيقين ثابت لا يزعزعه أي شك، بما فيها ذاك الطائر العجيب(بريبيش) الذي سخر لخدمة ديكارت بعد أن صار زعيم الصوفية بعد موت (دووكليكس)، وهذا الطائر كما يصفه طه حسين يشبه الهدهد، وأنّه موكل بزعماء المتصوفة منذ كان  يخدمهم، ويقضي حاجاتهم، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرًا، وهو فوق العلة، وفوق الموت حتى تنقرض طائفة المتصوفة ويموت بعد أخرهم بقليل، وأنّه خدم متصوفة الهند قبل المسيح بآلاف السنين، وأشرف على بناء الأهرام، وأملى ما كتب فيها من طلاسم، وأعان فيثاغورس ورافق أفلاطون في سياحته، ولزم الحلاج وابن الفارض ومحيي الدين بن العربي، قال هذا الوصف على لسان دروكلكيس ليعلن لديكارت أنّه أصبح زعيم الصوفية، وأنّ هذا الطائر سيكون مسخرًا لخدمته، وأنّه سيعينه على زيارة البيئات الصوفية في بغداد والقاهرة وتلمسان وفارس)

    ويستمر الدكتور طه حسين في نشر هذا الهذيان إلى أنّه يزعم أنّ هذا الطائر حمل ديكارت وطاف به على مدى سنتين في أقطار العالم الإسلامي إلى ادعائه بأنّ ديكارت ما كان ينزل بلدًا إلا وكان متقنًا للغته عن طريق أقراص يعطيها له هذا الطائر، لكل لغة بلد قرص، وبذلك كان متقنًا للغات، وعادات البلاد التي زارها، وأنّه في رحلاته هذه مشى على الماء وطار في السماء وزارا  الجن في الأرض السابعة، والملائكة في السماء الرابعة، إلى أن عاد إلى هولندا …)[ المصدر السابق باختصار]

   هذا الهذيان رواه الدكتور طه حسين كحقيقة واقعة مسلم بها، ولم يشك فيها أبدًا ولكنه للأسف الشديد عندما ما جاء يكتب عن الإسلام بل عن القران الكريم، راح يبث الشكوك، حتى قال إنّه منحول، كما أدعى أنّ الشعر الجاهلي منحول أيضًا، وشكك في تاريخ الخلفاء الراشدين ودس فيها ما دس، وأعتبر قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الواردة في القرآن الكريم أنّها أسطورة ، فهو باختصار نسج خيوط الشك حول القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وكل ما يتعلق بالإسلام وتاريخه وعلمائه ومفكريه  وهذا نهج مركز تكوين الفكر العربي، ومعظم أعضاء مجلس أمنائه.

و سيتضح لنا هذا عند  العرض السريع لمؤلفاته، في مقالات أخرى.

Leave a Reply