د. سهيلة زين العابدين حمّاد
تحدّثتُ في الحلقة الماضية عن مدى تأثر طه حسين بأساتذته المستشرقين الذين درس على أيديهم في مصر وفرنسا بإقرار منه من خلال ما كتبه في”الأيام” ومؤلفات أخرى، وفي هذه الحلقة سأقدم نموذجًا عمليًا لولائه للغرب من خلال مؤلفاته، وفي مقدمتها كتابه” مستقبل الثقافة في مصر”؛ إذ دعا فيه إلى الأخذ بالحضارة الأوربية خيرها وشرها، حلوها ومرها ما يحمد منها وما يعاب، فقال تحت عنوا”وجوب الصراحة في الأخذ بأسباب الحضارة الأوربية “لكن السبيل إلى ذلك ليست في الكلام يرسل إرسالًا، ولا في المظاهر الكاذبة والأوضاع الملفقة، وإنّما هي واضحة بيِّنِّنة مستقيمة ليس فيها عوجًا ولا التواء، وهي واحدة فهذه ليس لها تعدد وهي: أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.”[ص 54]
ويزعم طه حسين أنّ هذه هي السبيل للتحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال والتخلص من كل ألوان التبعية؛ إذ يستمر في هرائه، فيقول: “ومعنى ذلك أنّ الدفاع عن حوزتنا والزود عن حرمنا والصيانة لاستقلالنا كل ذلك يكلفنا ويفرض علينا أن نتهيأ لأمور الحرب كما يتهيأ لها الأوربيون. وأن نوجه لونًا من ألوان التربية والتعليم عندنا نفس الوجه الذي يتجه إليه الأوربيون عندما يهيئون أبناءهم للدفاع عن أرض الوطن… ونحن إذًا نريد أن نصارع الأمم الأوربية في قوتها الحربية لترد عن أنفسنا غارة المغير، ولنقول لأصدقائنا الإنجليز بعد أعوام انصرفوا مشكورين فقد أصبحنا قادرين على حماية القناة، ومن أراد أسباب القوة، ومن أراد جيشًا أوربيًا قويًا فقد أراد تربية أوربية، وتعليمًا أوربيًا يهيئان الشباب لتكوين الجيش القوي العزيز.”[ص59]
ونلاحظ هنا قد أعتبر الإنجليز أصدقاء مصر في وقت كانت إنجلترا مستعمرة مصر، فإلى أي مدى بلغ ولاء هذا الرجل للأوربيين؟ فلم يقل المستعمر الإنجليزي، وإنّما قال أصدقاءنا الإنجليز.
ولم يكتف طه حسين بالتعبئة العسكرية والدعوة إلى تربية جيوشنا تربية أوربية، وسلخهم من دينهم والتربية الإسلامية، فدعا إلى التبعية الاقتصادية، فكتب يقول:(ونحن في حاجه الاستقلال اقتصادي ما يشك في ذلك شاك، ولا يجادل في ذلك مجادل … ونحن لا نريد الاستقلال الاقتصادي للتمتع بمشاهدته والنظر إليه، وإنّما نريده لنحمي به ثروتنا وأقواتنا كما نريد الجيش لنحمي به أرض الوطن، فهذا الاستقلال الاقتصادي يجب أن يكون استقلالًا اقتصاديًا من الطراز الأوربي، لأنّنا لا نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى الحجاز واليمن والشام والعراق، وإنّما نريد أن نستقل في الاقتصاد بالقياس إلى أوربا وأمريكا..فكما أنّ وسائلنا إلى حماية أرض الوطن هي نفس الوسائل التي يصطنعها الأوربيون لحماية أوطانهم، فوسائلنا لحماية الاقتصاد القومي هي نفس الوسائل التي يصطنعها الأوربيون والأمريكيون لحماية ثروتهم، وإذًا فلابد من أن نهيئ شبابنا للجهاد الاقتصادي على نفس النحو الذي يهيئ الأوربيون والأمريكيون عليه شبابهم لهذا الجهاد، ولابد من أن ننشئ المدارس والمعاهد التي تهيئ لهذا الجهاد على النحو الذي أنشأ الأوربيون والأمريكيون عليه مدارسهم ومعاهدهم، لأنّ من أراد الغاية فقد أراد الوسيلة، وليس يكفي ولا يستقيم في العقل أن نريد الاستقلال ونسير سيرة العبيد.”[ ص57]
إنّها سخرية ما بعدها سخريه من طه حسين بعقلية أهل بلده؛ إذ يدعوهم إلى السير سيرة العبيد، ويمحو هويتهم وشخصيتهم، ثم يقول لهم:(ولا يستقيم في العقل أن نريد الاستقلال ونسير سيرة العبيد )
والسؤال الآن: ما هو حصاد مصر من سيرها على النهج الاقتصادي الأوربي ؟
لقد طبقت مصر الاشتراكية بإيعاز من توفيق الحكيم كما طبقتها معظم دول أوربا الشرقية، فماذا كانت النتيجة ؟
تدهور اقتصادي وتراكم الديون ؟ وقد أدركت مصر ضرورة التخلص من النظام الاشتراكي، وبدأت تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار، كما أدركت من قبلها تركيا، وأخذت تعيد تمليك شركات القطاع العام للأفراد وانفرجت بهذا أزمتها الاقتصادية .
نعود مرة أخرى لطه حسين الذي سعى جاهدًا لإكمال حلقة التبعية للغرب تحت شعار “الاستقلال” فكتب يقول:”ونحن نريد الاستقلال العلمي والفني والأدبي، هذا الذي يمكننا من أن نهيئ شبابًا قادرين على حماية الوطن أرضه وثروته من جهة وعلى إشعار الأجنبي بأنّنا مثله وأنداده من جهة أخرى، هذا الذي يمكننا من أن نتحدث إلى الأوربي فيفهم عنّا، ومن أن نسمع للأوربي فنفهم عنه، ومن أن نُشْعِر الأوربي بأنّنا نرى الأشياء كما يراها، ونُقوِّم الأشياء كما يقوِّمها ، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها، وإذا فنحن نطلب منها مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض، ونريد أن نكون شركاء في الحياة وأعوانه عليها، لا خدمة ووسائله إلى هذه الحياة، فإذا كنا نريد هذا الاستقلال الفعلي والنفسي الذي لا يكون إلاَّ بالاستقلال العلمي والفني والأدبي، فنحن نريد وسائله بالطبع، ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوربي، لنشعر كما يشعر الأوربي، ولنحكم كما يحكم الأوربي، ثم لنعمل كما يعمل الأوربي، ونصرف الحياة كما يصرفها”[ ص57، 58]
وهكذا نجد طه حسين قد ألَّه الإنسان الأوربي، ومسخ الشخصية العربية الإسلامية، وجعل منّا تابعين خاضعين لهذا الأوربي نُصرِّف الحياة كما يُصرِّفها، نشعر بشعوره هو، ونحكم كما يحكم هو، ونطلب الأشياء مثل ما يطلب، ونرفض منها مثل ما يرفض، لا دين لنا ولا عقيدة ولا قيم ولا مبادئ، ولا كيان ولا وجود، فوجودنا وكياننا مستمد من هذا الأوربي!!!
والسؤال هنا: ماذا كان الحصاد من هذا الاستقلال العلمي والأدبي لطه حسين؟
الحصاد تمثل في التبعية الفكرية بتغلغل المذاهب الغربية الإلحادية من واقعية ورومانسية، وسريالية، ووجودية، وما تمخض عنها من الحاد ومجون وإباحية متمثلة في الحداثة والبنيوية والواقعية السحرية!
الحصاد تمثَّل أيضًا في التجرؤ على الذات الإلهية والعودة إلي الوثنية الإغريقية فلأدونيس إله ميت، ولصلاح عبد الصبور إله صغير، وأدونيس يريد قتل الله، وأحمد الشاعر البحريني يريد حشر الله في المقصلة، وأمل دنقل يمجد الشيطان، وتوفيق الحكيم جعل للفن إلهًا، والشيطان شهيدًا وناقض القرآن الكريم، وأنكر واقعية القصص القرآني، وأنكر عصمة الأنبياء، وجعل إرادة الإنسان تعادل إرادة الله في تعادليته.
لقد صرح طه حسين بآرائه هذه بعدما كتب خمسين صفحة، يحاول فيها إقناع العقلية المسلمة العربية المصرية أنّ ثقافتها أوربية، وعقليتها أوربية، متخليًا عن فرعونيتها وعروبتها، فيقول في صفحه 28:”وإنّما المهم أن نمضي في هذه الملاحظة التاريخية حتى يثبت لنا في وضوح وجلاء أنّ من السخف الذي ليس له بعده سخف اعتبار مصر جزءًا من الشرق واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين.” ثم يقول مؤكدًا أوربية مصر عقلًا وثقافة:(لا ينبغي أن يفهم المصري أنّ الكلمة التي قالها إسماعيل وجعل بها مصر جزءًا من أوربا، قد كانت فنًا من فنون المدح، أو لونًا من ألوان المفاخرة، وإنّما كانت مصر دائمًا جزءًا من أوربا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية على اختلاف فروعها وألوانها )[ ص 35،36]
ولم يقف طه حسين عند هذا الحد، بل أدعى نفس ادعاء المستشرق اليهودي جولد تسهير، فزعم أنّ التشريع الإسلامي مستمد من القانون الروماني، هذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
قراءة لمقارنات السوّاح بين القصص القرآني ومتوازياته التوراتية(3)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 4 / 9/…
قراءة لمقارنات السوّاح بين القصص القرآني ومتوازياته التوراتية(2)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة بتاريخ 29 أغسطس 2024م….
قراءة لمقارنات السوّاح بين القصص القرآني ومتوازياته التوراتية (1)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة بتاريخ 22 أغسطس 2024م….
قراءة متأنية لكتاب القصص القرآني ومتوازياته التوراتية للحوّاس (3)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 21 أغسطس 2024م….
قراءة متأنية لكتاب القصص القرآني ومتوازياته التوراتية للحوّاس (2)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة بتاريخ 7/ 8/ 2024…
قراءة متأنية لكتاب القصص القرآني ومتوازياته التوراتية للحوّاس(1)
د. سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 1/ 8/ 2024…