مؤسسة تكوين الفكر العربيمقالات اخرى

طه حسين والمشروع النهضوي التجديدي التنويري  الإصلاحي(1)

By شهرين مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

مما لاشك فيه أنَّ لطه حسين أثر تأثيرًا كبيرًا في فكر الكثير من رواد الأدب والفكر في عالمنا العربي، بل أمتد تأثيره إلى طلبة العلم، لما كان له من دور في وضع مناهج التعليم بحكم تقلده لمناصب كبيرة في وزارة المعارف والجامعات المصرية على مدى ثلاثين عامًا، أصبح خلالها مديرًا لجامعة الإسكندرية ووزيرًا للمعارف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تدريس بعض مؤلفاته بل أخطرها للطلبة في مختلف المراحل التعليمية بما فيها الجامعية، ليس في مصر فقط ، ولكن في مختلف الدول العربية.
هذا ومن أخطر آثاره الفكرية هو نهجه نهج كتاب الغرب والاستشراق، في كتاباته عن التاريخ الإسلامي والأدب العربي ورجالهما، مرددًا لآرائهم وأفكارهم، ويظهر هذا بوضوح في مؤلفاته ولاسيما:(في الشعر الجاهلي وعلى هامش السيرة، والوعد الحق، ومرآة الإسلام، والشيخان، والأيام ، وحديث الأربعاء، والفتنة الكبرى،(عثمان، وعلي وبنوه) ومع المتنبي، وفلسفة ابن خلدون، ومستقبل الثقافة في مصر)
فهذه المؤلفات تبرز التأثير الغربي والاستشراقي على فكر طه حسين وسيطرتهما عليه، وسأتوقف عند بعض هذه المؤلفات لأبيِّن أخطر ما ورد فيها، ولكن بعدما الإجابة عن هذه الأسئلة :
كيف بدأت علاقة طه حسين بالمستشرقين، وبمن تأثر، ومدى كان عمق هذا التأثير؟
بمن تأثر من الكتاب والأدباء والمفكرين الغربيين، وعلى أي مدى كان ولاؤه لهم؟ ولماذا خضع لسلطانهم واستجاب لدعواتهم، وكان خير سفير لثقافاتهم؟
لقد تربى طه حسين فكريًا وعلميًا في أحضان الاستشراق والتغريب؛ إذ وجد فيهما ضالته في الوصول إلى الشهرة والمجد بعد أن عاش سنين طويلة أسير العزلة والوحدة والإهمال وعدم الاكتراث، فهو لم يجد من علماء الأزهر ومشايخه طوال الست سنوات التي درسها في الأزهر ما يرضي غروره ويشبع طموحاته، فصب عليهم جم غضبه وكبير سخريته، وتحامل عليهم أشد ما يكون التحامل، وكأنِّي به لم يكتب أيامه إلا ليهاجم الأزهر والأزهريين، فالصورة التي رسمها في مذكراته(الأيام) للأزهر وعلمائه تغاير حقيقة هذه الجامعة الإسلامية الكبرى التي خرّجت للعالم الإسلامي فطاحل العلماء والتي تصدت لكل المؤامرات التي كانت تدبر ضد الإسلام والمسلمين من قبل أعداء الإسلام فكريًا وسياسيًا وعسكريًا، وكان أساتذته المستشرقين من ألمان وإيطاليين وفرنسيين، والذين احتشدت بهم الجامعة المصرية في أولى نشأتها والتي التحق بها طه حسين سنة 1908 بعد فشله في الأزهر، وكان هؤلاء الأساتذة يشجعون طه حسين على مجادلة علماء ومشايخ الأزهر، والسخرية منهم، للتقليل من شأنهم، لما كان للأزهر والأزهريين يشكل عقبة كؤود في طريق المستشرقين لتحقيق مآربهم، وكان يكشف زيف ادعاءاتهم ويتصدى لها.
لقد شغف طه حسن بأساتذته المستشرقين الشغف كله، وتقبل منهم كل ما يقولونه دونما جدل أو نقاش؛ إذ تخلى عن أسلوبه الجدلي الذي كان يتّبعه مع أساتذته الأزهريين، ويحدثنا طه حسين عن بعض أساتذته المستشرقين في كتابه الأيام، فيقول :
(فقد أقبل أساتذة جدد ملكوا عليه أمره استأثروا بهواه، فهذا الأستاذ كار لونا للينوا المستشرق الإيطالي يدرس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأموي، وهذا الأستاذ سنتلانا يدرس العربية، كذلك تاريخ الشرق القديم، ويتحدث إلى الطلاب عن أشياء لم يتحدث عنها أستاذ قبله في مصر ، فهو يفصل التاريخ ببابل وأشور، ويذكر الكتابة السومرية ويتحدث عن قوانين حامورابي ، والفتى يفهم عن هؤلاء الأساتذة كل ما يقولون، لا يجد في فهمه التواءً أو عسرًا ، وهو لا يكره شيئًا كما يكره انتهاء الدروس، ولا يتشوق إلى شيء كما يتشوق إلى ما يستقبل منها..) ثم يستطرد قائلًا:
( وأستاذ ألماني هو الأستاذ ليثمان قد أقبل يتحدث إلى الطلاب عن اللغات السامية والمقارنة بينها وبين اللغة العربية، ويأخذ في تعليمهم بعض هذه اللغات، وإذا الفتى يخرج من حياته الأولى خروجًا يوشك أن يكون تامًا لولا أنّه يعيش بين زملائه من الأزهريين والدرعميين وطلاب مدرسة القضاء وجهة النهار وطرفًا من الليل، ولكن عقله قد نأى عن بيئته هذه نأيًا تامًا، وأتصل بأساتذته أولئك اتصالًا متينًا، فكلهم قد عرفه وكلهم قد آثره بالحب والرفق والعطف، وكلهم قد أدناه من نفسه، ودعاه إلى أن يزوره في فندقه وأحب أن يقول له ويسمع منه.)[ المجلد الأول من المجموعة الكاملة لطه حسين ص 446- 447]
بهذا الحب والتقدير والإعجاب تحدث طه حسين عن أستاذته المستشرقين فهو لم يجادلهم ولم يحاورهم ولكنه يتقبل منهم ما يقولونه دونما نقاش، ولكن تختلف شخصيه طه حسين عندما يستمع لأساتذته الأزهريين.
والسؤال هنا: لماذا تعلق طه حسين بأساتذته المستشرقين وأنصرف عن الأزهريين؟
لقد أدرك المستشرقون نقاط الضعف في طه حسين، وهي لفت الأنظار إليه والاهتمام به والاستماع إليه، فكانوا يدعونه لزيارتهم ويستمعون ويحتفون به، فكان أسير هذا الاهتمام، فرضي عنهم، وتقبل منهم أقاويلهم لم يجادلهم ولم يحاجهم على خلاف ما كان موقفه من أساتذته الأزهريين. لأنّهم لم يولوه ذاك الاهتمام فأنصرف عن معظمهم، ولم يتلق عنهم القدر من العلم الذي يؤهله لتمييز ادعاءات وأباطيل ودسائس المستشرقين، فرغم أنّ طه حسين أمضى بالأزهر ست سنوات(1902_ 1908)إلا أنّه لم تتكون لديه خلفية عن الإسلام فقهًا وتشريعًا، ولاعن القرآن شرحًا وتفسيرًا، وكان ينصرف عن هذه العلوم لأنّه لم يرُقْ له أستاذتها.
فطه حسين لم يتعلم تفسير القرآن الكريم من الشيخ الأكبر سليم البشري رحمه الله، ولكنه تلقاه من المستشرق كازانوفا، ولم يتلقه في الأزهر ولكن في الكوليج دي فرانس، فيقول عن كازانوفا: “عرفته أستاذ في الكوليج دي فرانس، ولم أكد أسمع له حتى أعجبت به إعجابًا لم أعرف له حدًا، كان يفسر القرآن وكنت حديث العهد بباريس، كنت شديد الإعجاب بطائفة من المستشرقين، ولكني لم أقدر أنّ هؤلاء المستشرقين يستطيعون أن يعرضوا في إصابة وتوفيق ألفاظ القرآن ومعانيه، والكشف عن أسراره وأغراضه، فلم أكد أجلس إلى كازانوفا حتى تغير رأيي، أو أقول حتى ذهب رأيي كله، وما هي إلا دروس سمعتها منه حتى أستيينتُ أنَّ الرجل كان أقدر على فهم القرآن، وأمهر في تفسيره من هؤلاء الذي يحتكرون علم القرآن ويرون أنّهم خزنته وسدنته وأصحاب الحق في تأويله، ففُتِنّ بهذا الرجل لا لأنّه كان عالمًا حاذقًا، ولا لأنَّ منهجه في البحث كان متقنًا دقيقًا حصيفًا، بل لهذا ولشيء آخر خير من هذا كان حرًا خصبًا رفيقًا لا يتعصب لرأي ولا يتأثر بهذه العواطف المنكرة التي تفسد على الناس علمهم وأدبهم وفنهم وحياتهم العقلية والشعورية بوجه عام، كان كازانوفا مسيحيًا شديد الإيمان بمسيحيته يذهب فيها إلى حد التعصب، ولكنه كان إذا دخل غرفة الدرس في الكوليج دي فرانس نسي من المسيحية واليهودية والإسلام، وكل شيء إلا أنّ لها نصوصًا يجب أن تخضع للبحث اللغوي، كما تخضع المادة للعلماء يتناولونها في معاملهم بما يشاءون من البحث والامتحان، نعم لم يكن مسيحيًا ولا يهوديًا ولا متدينًا حين كان يعرض لنص من النصوص القرآنية، يدرس لفظه ويكتشف معناه)[السياسة اليومية 27 مارس سنة 1926]
وهذا المنهج كان جد خطير على طه حسين؛ إذ أخضع القرآن الكريم، والتاريخ الإسلامي، والأدب العربي لهذا المنهج، وتجرد من إسلاميته في كتاباته، فجاءت والمستشرقون سواء، وهذا ما سيتضح لنا عند التوقف عند هذه المؤلفات .
يقول الأب كمال قلتة في رسالته عن طه حسين وأثر الثقافة الفرنسية في أدبه: “أنّ الفكر الفرنسي بالنسبة لطه حسين أكثر من مدرسة أو من معين، لقد كان جزءًا من حياته، وجزءًا من إنتاجه حتى تكاد تحسب من خلال قراءة ما كتبه عن فرنسا وعن أدباء فرنسا وعن تاريخ فرنسا، ما يقنعك بأنَّ هذا الأثر لا ينتجه إلاّ من كان فرنسيًا فكرًا وعقلًا وثقافة وإحساسًا، فعلاقة طه حسين بالفكر الفرنسي ليست علاقة أخذ فقط”[المرجع السابق]
للحديث صلة.
البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com

Leave a Reply