د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 11/ 9/ 2024م.
لم يكتف الأستاذ إبراهيم عيسى أحد أعضاء مجلس أمناء مركز تكوين الفكر العربي التشكيك في صحة السيرة النبوية لتنهار القدوة العظمى والمثل الأعلى لشباب وشابات الأمة الإسلامية بأسرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده في روايته التي أسماها” رحلة الدم ـــ القتلة الأوائل ــــ الصادرة عام (2016) في (708) صفحة للقضاء على كل قدوة من صحابته رضوان الله عليهم بمن فيهم المبشرين بالجنة وكتبة الوحي، ولاسيما سيدنا عثمان بن عفّان ؛ فما من نقيصة إلّا وألحقها بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم صانعي أحداث روايته مجتمعين أو منفردين مستندًا على روايات موضوعة توافق ما هدف إليه من روايته، فأخذ من كتب التراث التي يهاجمها، ولا يعترف بها ــ هو ومجموعته من أعضاء مجلس أمناء مركز تكوين الفكر العربي ـــ الروايات الموضوعة من قبل من يكنوّن العداء لسيدنا أبي بكر وعمر وعثمان وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضوان الله عليهم، وقائمة المراجع التي ذكرها في تنويهه مستقيًا منها روايته، لم يكن أمينًا في النقل منها، فأخذ من تاريخ الطبري روايات أبي مخنف المعروف موقفه العدائي لكبار الصحابة رضوان الله عليهم، وأخذ جملة من بعضها، ولم يكمل باقيها، كالذين يُرددون قوله تعالى(ويل للمصلين..) ولا يُكملون (الذين عن صلاتهم ساهون)، وأحد مراجعه “سقيفة حُبِّي” تأليف جورج كدر لا علاقة لها بموضوع روايته، وسأُبيّن هذا في حينه.
والذي استوقفني في هذه الرواية:
أولًا: نيله من شرف الرسول صلى الله عليه وسلم وعدله، بإثارته إشاعة لا علاقة لها بموضوع الرواية، وذكرها دون التحري والتدقيق في مدى صحتها، جاعلًا من شخصية صالح القبطي التي أضاف إليها من نسيج خياله، مرددًا لهذه الشائعة وعرّفه خلاف ما أورده عنه كُتّاب التراجم في مقدمتهم ابن الأثير في أسد الغابة ـــ أحد مراجعه ــــ ، وابن حجر العسقلاني في الإصابة في تمييز الصحابة، فقد ورد فيهما صالح القبطي: سار من مصر إلى المدينة مع مارية القبطية، كذا ذكره ابن الأثير في أُسد الغابة مختصرًا ،فصالح القبطي خرج مع مارية، ولم يهده المقوقس، وإنّما كان اتبعها من قريتها.[ابن حجر العسقلاني(1995) الإصابة في تمييز الصحابة . 3/ 324، ترجمة رقم 4046.ط1. دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.] ولكن الأستاذ عيسى عرّفه بأنّه تاجر كتّان وتعرف في رحلات الشتاء والصيف على عرب من الجزيرة واليمن وتعلم معهم العربية(الصواب تعلّم منهم)حتى يدبر تجارته.[ص 76] ثم بروي صالح القبطي كيف ذهب إلى المدينة ورؤيته النبي صلى الله عليه وسلّم وإسلامه؛ إذ أتاه حاطب بن بلتعة رضي الله عنه ومعه هدية المقوقس حاكم مصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية وأختها سيرين ومأبور وحمار، فقد طلب منه حاطب رضي الله عنه مرافقته إلى المدينة؛ حيث أسلم صالح، واستقر فيها.[ص 77)،ونلاحظ أنّ عيسى وقع في خطأيْن عند تعريفه بشخصية صالح القبطي من نسج خياله، أولهما قوله الجزيرة واليمن، فقد فصل اليمن عن شبه الجزيرة العربية، مع أنّها جزءًا منها؛ إذ تقع في جزئها الجنوبي، وثانيهما رحلة الشتاء والصيف كانت تقوم بها قريش من مكة إلى الشام صيفًا، وإلى اليمن شتاءً، كما جاء في سورة قريش، وليس من مصر إلى الشام صيفًا وإلى واليمن شتاءُ، واستحضر المؤلف إشاعة حمل السيدة مارية القبطية من مؤبر القبطي( الخصي) على لسان صالح القبطي رغم مرور 12 عامًا عليها، ولا علاقة لها بأحداث الرواية، وذلك ليشوّه المؤلف صورة النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه يأمر بالقتل لمجرد سمع كلامًا لم يتحقق من صحته، مع أنّه لو ارتكب الجرم الذي نسب إليه بشهادة أربعة شهود أو أعترف جلده خمسين جلدة لأنّه ليس حر، وإن قيل هذا ما رواه مسلم في صحيحه، وقد صنّفها الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، أقول : فهذا خطأ منهما لأنّ معظم المُحدّثين اهتموا بصحة السند دون المتن، مع أنّ المتن إن كان مخالفًا للقرآن الكريم، أو ضعيفًا لا يؤخذ به حتى وإن صح سنده، وهذا الحديث يخالف قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، ولا يمكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف القرآن الكريم، كما أنّ متنه لا يتفق مع صفات نبي الله ورسوله، ولا يتفق مع شخصيته وأخلاقه، ولو صدر منه مثل هذا التصرّف لعاتبه الله كما عاتبه في حادثة عبد الله بن مكتوم في سورة عبس، كما هدف المؤلف إلى الإساءة لأم المؤمنين السيدة مارية القبطيّة التي تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، فضرب عليها الحجاب، كما ذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة وقد كرّمها الله بأن أنزل فيها قرآنًا(يَٰٓا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِي مَرۡضَاتَ أَزۡوَٰجِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ)[التحريم:1]، ثمّ أنّ الأستاذ عيسى لا يؤمن بصحة الأحاديث النبوية ولا بصحة السيرة النبوية، فعلى أي أساس يستحضر هذه الحادثة؟
ثانيًا : ممّا استوقفني في هذه الرواية اسمها” رحلة الدم”القتلة الأوئل، وهو يرمز إلى نشر الإسلام بحد السيف ترديدًا منه إلى مزاعم المستشرقين، وتسمية الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم بالقتلة الأوائل فهم ــــ طبقًا لرؤيته ـــ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم ـــ من خلال عرضه حادثة اتهام السيدة مارية القبطية بالزنا مع ابن عمها مأبور، وأمرْ الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب بقتله إلى الفتح العربي الإسلامي وفتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وقتل الصحابة بعضهم البعض، وأنّ الدوافع الرئيسية للفتوحات هي حاجة المسلمين للمال لما يعانونه من الفقر، كقول المؤلف على لسان أبو مريم عندما أرسل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه اربعة آلاف جنديًأ إلى مصر عندما تعثر أمام حصن بابليون تساءل من اليمن أيضًا ؟ أشك أنّ هذه القبائل اليمنية ما تركت طفلًا لها لم تأت به إلى جيش ابن العاص(ص 54،53)
وقال على لسان عبد الرحمن بن عديس:”أغلب من تعرف عليهم وعرفهم كانوا من قبائل اليمن وأكثرهم في عدة ثلاثة آلاف من قبيلة عك لكن معظمهم لم يتفرغ للدين شغلتهم حروب الغزوات خرجوا إلى العراق وحاربوا مع جيش المسلمين في فارس ثم انتقلوا إلى الشام ومن هناك منهم عاد إلى اليمن، ولكن أكثرهم حضروا إلى مصر.”[ص57،58]
ويستطرد قائلًا:” فالحروب جلبت النصر والعزة والغنائم والفيء، ثمّ إنّ جفاف الصحراء وضيق الحال لم يعد يستهويهم خصوصًا مع رسالة باتوا ينتسبون إليها وفوز دنيوي وأخروي مضمون، فجذب القتال في سبيل الله في اليمن والجزيرة حتى إنّ قبيلة برجالها وشبابها كانت تملأ صفوف جيش عمرو حين قرر أن يأتي به لمصر.[ص 58) فالمؤلف هنا يردد زعم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في كتابه”تاريخ البشرية” الجوع هو الذي دفع بالعرب لطرق الفتح، وكذلك استعراض الفريد جيوم في كتابه الإسلام الحياة الاقتصادية في بلاد العرب قبل الميلاد، وحتى ظهور الإسلام، وهدف من هذا العرض أن يخلص أنّ قوام حياة العرب يقوم على أساسين هما: التجارة والإغارة رابطًا ذلك بقوله إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول عمل تولاه هو التجارة، ثم شغل في نهاية حياته بالحروب.”
لذا عندما تقرأ رواية رحلة الدم لإبراهيم عيسى تجده لم يتطرق قط إلى حال المصريين تحت الحكم البيزنطي على مدى ثلاثة قرون، وما عانوه من ظلم واستعباد واضطهاد ديني ونهب خيرات بلادهم؛ إذ اعتبر الأباطرة البيزنطيون مصر مستودعًا للقمح وأصبحت أراضيها الزراعية کلها ملکًا للامبراطور البيزنطي، وكانت مصر مقاطعة رومانية فترة الحكم الروماني، بينما العرب المسلمون منحوهم حق الحرية الدينية، وخلّصوهم من الاضطهاد الديني الذي كانوا يعانون منه، ولم يفرضوا عليهم الإسلام، ولم يأخذوا من الذين لم يسلموا من الرجال المصرين القادرين على حمل السلاح سوى ديناريْن للفرد الواحد مقابل إعفاءهم من الخدمة العسكرية، ومن يقاتل يُعفى من دفعهما، ويُنفق من الجزية على مشاريع خدمية في مصر، ومع هذا نجد الأستاذ عيسى يصب جُمَّ غضبه على الفاتحين العرب، ويصور الصحابة رضوان الله عليهم بأنّ همهم السبايا من النساء الروميات(ص 134)، وجعل عبد الرحمن بن ملجم (الخارجي قاتل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه) صدمته تقاشات الأموال والأنعام والنعم الدنيوية.(ص 209) وزعم عيسى أنّ أهل المدينة عادوا من مصر محمّلين بالغنائم.(ص221) وحرص عيسى على اتهام عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّه كان يغدق العطايا على الذين يبلغون ابن الخطّاب رضي الله عنه ليأمن جانبهم.(ص208)، ويصوّر حروب المسلمين قائمة على سفك الدماء، وتعليق الرؤوس(ص 195) بل نجده يتطاول على القرآن الكريم، فعندما كان ابن ملجم يقرأ هذه الآية من سورة محمد (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) وعندما سأل أبو مريم عن معنى ما يقرأه القارئ، رد صالح:”إنّ أقرب للمسلمين هم المسيحيون.” سأل أبو مريم مسيحيو المقوقس أم مسيحو القبط؟
ضحك صالح:”المسيحيون الذين يستسلمون.”[ص85، 86]
ورده هذا لا علاقة له بالآية المتلوة، ولكنه قالها لغرض في نفسه.
للحديث صلة.
البريد الالكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://linksshortcut.com/oSldv