مؤسسة تكوين الفكر العربي

قراءة متأنية لرواية رحلة الدم لإبراهيم عيسى (3)

By 3 أشهر مضىNo Comments

د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في صفحة الرأي بجريدة المدينة في 26/ 9/ 2024م

أواصل قراءتي لرواية ” رحلة الدم ” لإبراهيم عيسى، وسأتوقف هنا عند ثلاث شخصيات محورية في أحداث فتنة مقتل سيدنا عثمان بن عفّان رضي عنه وفق رؤية المؤلف،  وهم:

  • كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي (توفي سنة 38ه/659م) ساهم بقتل الخليفة عثمان بن عفان وهو من الخوارج الذي خرجوا عن حكم الخليفة علي بن أبي طالب، وكان من قنائص عبد الله بن سبأ في مصر، ولكن المؤلف أخفى حقيقته هذه، لأنّه اعتمد روايات الشيعة التي تنكر أنّ عبد الله بن سبأ اليهودي هو الذي بث بذور الفتنة في صفوف المسلمين في مصر والكوفة والبصرة، وألّبهم على سيدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه،  وعندما جمعوا شباب القبائل للزحف على المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 انقسموا في مصر إلى أربع فرق على كل فرقة أمير، وكان كنانة بن بشر أميرًا على إحدى هذه الفرق(الطبري(5 : 103 ) ثم كان في طليعة من اقتحم الدار على عثمان وبيده شعلة من نار تنضح بالنفط، فدخل من دار عمرو بن حزم ودخلت الشعل على إثره (الطبري 5 : 123 ). ووصل كنانة التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصًا(أي نصلاً طويلاً عريضاً ) فانتضح الدم على آية (فسيكفيكهم الله)،(الطبري 5 : 126 ) وقطع يد نائلة زوجة عثمان رضي الله عنه، واتكأ بالسيف على صدر عثمان وقتله(الطبري 5 : 131 ).قال محمد بن الحارث بن هشام المخزومي المدني المتوفي سنة 43: الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبى(الطبري 5 : 132)، وقد أكد هذا ابن الأثير في الكامل في التاريخ. 3/178، وقبلهما خليفة بن خيّاط في تاريخه / ص 103.
  • حُبّي:التي يزعم المؤلف أنّها هي التي عالجت السيدة نائلة عند بتر أصابعها، وهي الوحيدة التي سعت إلى دفن سيدنا عثمان الذي ظل جثمانه ثلاثة أيام في بيته قبل أن يواري جسده التراب، وهي  مجهولة النسب والهُوية ماجنة جعلها المؤلف  الشخصية النسائية الرئيسة في روايته، ويدعي أنّها شخصية حقيقة، مع أنّها مجهولة، لا نسب لها، فلم تتطرّق المصادر التي ورد فيها اسم “حبي” إلى نسبها وقبيلتها، ولم تذكر لها تاريخ مولدها، وتاريخ وفاتها، وهاهو جورج كدر يُعرِّفنا بها متسائلًا في صفحة 7 من كتابه” سقيفة حُبِّي ـــ  الذي أعلن عيسى أنّه من مصادره ـــ :” من هي حبي المدينية؟ هل هي امرأة حقيقية أم من نسيج خيال الرواة؟ ويستطرد قائلًا: “

وإذا كانت شخصية تاريخية، فما هو الدور الذي لعبته في مجتمع المدينة / يثرب؟ ثمّ يستطرد فائلًا:”تحدثنا كتب الأمثال وبعض كتب الأدب في التراث الإسلامي عن امرأة كانت ترضع كل طفل جديد يولد في المدينة، فاستحقت أنّ تُلقّب بِ حواء أم البشر”بعض مؤرخي المدينة قالوا إنّها مرضعة الخليفة عمر بن الخطّاب، وقالوا إنّ أشراف المدينة كان يجتمعون في سقيفة حُبّي يسألونها وهي تُجيب … وحُبَّى من نساء العرب اللواتي دخلن تاريخهم وكنّ من أبطال أساطيرهم، لكن قصصها وأخبارها تناثرت في بطون كتب التراث، تارة تظهر حكيمة من حكيمات العرب، وتارة ناقلة لـ”كلام القدماء وأهل البدو”، في أخرى نجدها “مغنية مشهورة”. بعض الرواة يجعل “حُبَّى المدينية من المقتلمات، وبعضهم يقول: إنّها “كانت من كبار السحاقيات”، وبعضهم رأى فيها “ماجنة”.[ ص 7، 8]

   كما نجد جورج  يقول في الصفحة التي تليهما:” ظهرت حبي في المدينة المنورة في عصر امتد من أواخر أيام الجاهلية إلى الخلافة الأموية.”[ص 9]، ويقول في آخر صفحة 45 :” عمومًا فإنّ المرويات العربية فيما بين أيدينا من مصادر تظهر أنّ حبي ولدت وعاشت وماتت في المدينة. ومن الملاحظ أنّ  جورج لم يذكر شيئًا عن نسبها، عن قبيلتها، فعلى أي أساس ينعتها بِ” المدينية.”؟ وكيف أرضعت سيدنا عمر بن الخطّاب وقد ولد في مكة قبل الهجرة بأربعين عامًا وهي كما قال :” إنّها ظهرت في أواخر العصر الجاهلي، وإنّها ولدت وماتت في المدينة.؟

أمّا نسبة  قوله هذا إلى  بعض مؤرخي المدينة، فعندما رجعتُ إلى مؤرخيْ المدينة عمر بن شبّه النميري وكتابه تاريخ المدينة المنورة، وإلى السمهودي وكتابه وفاء الوفا للم يذكرا نسبًا لحبي، حتى البلاذري لم يذكر لها نسبًا في أنساب الأشراف، أمّا السخاوي فلم يذكرها البتة في كتابه التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة؛ لأنّ لا نسب لها، أمّا عمر رضا كحالة في أعلام النساء فلم يذكر لها نسبًا، هي  مجرد امرأة اسمها” حُبّي المدنية” لا أب لها ولا قببلة، وذكر ما يبيّن أنّها كانت(معلمة للجنس)، ومصادره: مجمع الأمثال للميداني، وجمهرة الأمثال، وبلاغات النساء لطيفور.[عمر رضا كحالة (1977م) : أعلام النساء.1/ 237. ط3 . مؤسسة الرسالةدمشق.] وروايات كتب  الأمثال والأدب لا يعتد بها المؤرخون كمصادر موثوقة.  

 خلاصة القول: إنّ حبي شخصية مجهولة النسب والهُوية  مليئة بالتناقضات والتشابكات، كما  رسمها الرواة العرب عنها، فشخصيتها أقرب إلى الأسطورة من الشخصية الحقيقية، فكيف يقرر الأستاذ عيسى أنّها حقيقة؟

  ومع هذا نجد المؤلف جعلها الشخصية النسائية المحورية في روايته، كما جعلها تتهم سيدنا عثمان أنّه أباح النهب(ص 220)

هذا ونلاحظ أنّ المؤلف أقحم امرأة  مجهولة النسب والهوية عرفت بالمجون، وجعلها هي التي سعت إلى دفن سيدنا عثمان رضي الله عنه مع وجود كبار الصحابة وعلى رأسهم سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ليؤكد زعمه الباطل أنّهم أسهموا في قتله من جهة، وإمعانًا في امتهان هذا الصحابي الجليل أحد المبشرين بالجنة وكتّاب الوحي ، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفق ماله في خدمة الإسلام والمسلمين فهو الذي جهزّ جيش العسرة، وهو الذي تصدٌق على فقراء المسلمين.

  • نعثل اليهودي الذي أتي به المؤلف ـــ  مع إجلاء الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود من المدينة لنقضهم وثيقة المدينة التي عقدوها معه ـــ  ليمعن في امتهان سيدنا عثمان رضي الله عنه ليدفنه هذا اليهودي في مقابر اليهود، دون غُسل ودون الصلاة عليه، ليؤكد زعمه الباطل  اشتراك بعض الصحابة في قتله. وإن كان يهود المدينة تم إجلاؤهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بني قريظة لنقضهم وثيقة   المدينة، فمن أين أتى به الأستاذ عيسى ليدفن سيدنا عثمان في مقابر اليهود؟

  وقد كذّب هذه الفرية ابن كثير في البداية والنهاية  ـــ أحد مصادر المؤلف التي ذكرها في تنويهه  ـــ  نقلاً عن الحافظ ابن عبد البر: دفن الصحابة عثمان بحش كوكب. وكان قد اشتراه وزاده في البقيع، فقد قال السيوطي: في تاريخ الخلفاء صلى عليه الزبير بن العوام  ودفنه وكان أوصى بذلك إليه ودفن  في حش كوكب بالبقيع وهو أول من دفن به، وذكرخليفة بن خيّاط في تاريخه جبير بن مطعم، ويقال حكيم بن حزام  ويقال المسور بن مخرمة.[ص 105.ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. لبنان] وذكر ابن حبّان:”أنّ الذي صلى عليه جبير بن مطعم ودلته في قبره نائلة بنت الفراقصة وأم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية ،زوجتا عثمان رضي الله عنه [ابن حبّان1987م) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء. ص 520. ط1 . مكتبة الكتب الثقافية. بيروت ـــ لبنان.]

نلاحظ هنا لا ذكر لحُبي الماجنة، ولا لنعثل اليهودي الذيْن أتى بهما  عيسى لدفن سيدنا عثمان رضي الله عنه إمعانًا منه في امتهان الصحابي الجليل عثمان بن عفّان أحد كتّاب الوحي، حافظ القرآن الكريم،  وأحد العشرة المُبشِّرين بالجنة، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتهان لكل ما يحمله هذا الصحابي الجليل من مكانة كبرى المتمثلة في ما سبق ذكره.  

 قراءتي لما كتبه مؤلف رواية رحلة الدم عن الفتنة لم تنته بعد، ولي وقفات عندها في مقالات أخرى لدحض ما وردعنها من مزاعم وافتراءات من قبل المؤلف قد تفوّق فيها على مزاعم وافتراءات المستشرقين.

البريد الاليكتروني:

 Suhaila_hammad@hotmail.com رابط المقال : https://2u.pw/gBHi7Uga

Leave a Reply