د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في صفحة الرآي في جريدة المدينة بتاريخ 31 أكتوبر 2024
لم يكتف بحيري بوصف الإسلام بأنّه قطعة من اللؤلؤ في بحر من الطين في برنامج توتر عالي في قناة المشهد؛ إذ سبق وأن وصف الإسلام في برنامجه “إسلام حر” الذي قدّمه في قناة الحُرّة الأمريكية في الحلقة المذاعة في 13 نوفمبر عام 2018″بأنّه:” أكبر دين دموي في العالم.. كيف سيغيّر صورته؟[من فضلك افتح هذا الرابط (12) X \ قناة الحرة على X: “إسلام بحيري: “الإسلام أكبر دين دموي في العالم.. كيف سيغيّر صورته؟” | #إسلام_حر”]
وهو هنا لا يختلف عن أستاذه الذي يصفه ب”المفكر العظيم” إبراهيم عيسى الذي يقوم مشروعه النهضوي على تصوير الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم بأنّهم دمويون، وأطلق عليهم”القتلة الأوائل ” في روايته “رحلة الدم “
وردًا عليهما أقول:
بحيري وعيسى يرددان مزاعم المستشرقين أنّ الإسلام انتشر بحد السيف، وهذا يخالف التوصيف القرآني لحقيقة نبوة سيد الأولين والآخرين، بأنّه رحمة عامة شاملة، تجلت مظاهرها في كل موقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الإسلام دين رحمة وليس دين دم وقتل، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107]
لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم على مدى ثلاث عشر عامًا يدعو في مكة، إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد حارب كفار قريش الدعوة الإسلامية، وآذوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إيذاءً تجاوز كل معاني الإنسانية، وكان الله جل شأنه يعزيه ويثبته ويقويه ليصبر يقول تعالى:(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)[النحل: 127]
ويقول جل شأنه (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى: 43]
وقوله تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الأحقاف:35]
قوله جل شأنه (وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)[المزمل: 10]
وكان المسلمون كثيرًا ما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج ومعذب شاكين إليه، فيثبتهم ويضرب لهم الأمثال، والعظات ويقول لهم “اصبروا فإنِّي لم أؤمر بقتال” حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة ، وموآخاتهم مع الأنصار، وأصبح لهم كيان وسلطان ووطن ” إقليم ” وأضحوا ذوي عدد وقوة، فلم يكن بد من أن يأذن الله لهم بالقتال لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة يَدعو بالحُجة والموعظة الحسنة بلا قتال أو إراقة نقطة دم، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُستضعَفين يتعرَّضون للتعذيب والتنكيل ليَرجعوا عن دينهم، فما صرَفَهم هذا عن الإسلام، وما زادهم إلا إصرارًا على اتباع الحق، فإن كان هناك إكراه ففي الصد عن الإسلام لا في اتِّباعه، وقد دخل الإسلام إلى أهل يثرب المدينة النبوية بلا أي قتال؛ فقد اقتنع سادتهم بالإسلام حين عرضه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعوه بيعتي العقبة الأولى والثانية، ثم أرسل إليهم مصعب بن عمير، فاجتهد في دعوة أهل المدينة حتى دخل معظمهم في دين الإسلام، فأين شبهة الإجبار في إسلام أهل المدينة؟
فقد صار من المسلَّمات التي لا يداخلها شك أن المهاجرين والأنصار الذين هم ركيزة الدولة الإسلامية الأُولى – قد دخلوا في دين الله عن اقتناع وتسليم، وتحمَّلوا في سبيله الابتلاءات والاضطهادات؛ ممّا يَنفي أية شبهة إكراه وإجبار، وعندما شرع الجهاد في السنة الثانية من الهجرة، فالحروب الإسلامية في العصر النبوي غالبها لم يكن بمُبادرة من المسلمين؛ فقد غُزي المسلمون مثلًا في بدر وأُحُد والأحزاب، وأمّا حروب اليهود وفتح مكة ومؤتة وتبوك وغيرها، فكانت تأديبًا لمن خانوا العقود، وخالفوا العهود والمواثيق، وبدأوا بالاعتداء أو محاولة قتَل رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان المسلمون يدخلون في الغالب في معارك غير متكافئة من حيث العدد والعدة؛ حيث كان خصمهم يتفوق عليهم تفوقًا ساحقًا، ففي غزوة مؤتة على سبيل المثال نجد أنّ عدد جنود المسلمين ثلاثة آلاف رجل، في حين كان عدد جيش الخصوم مائتي ألف مقاتل، ناهيك عن التفوق في العدة والآلة الحربية، فهل يظن بهذه القلة المستضعفة أن تغرَّها قوتها وتشرع في فرض ما معها من الحق على هذه الجموع الغفيرة؟ وهل سعى ثلاثة آلاف مسلم في فرض الإسلام على مائتي ألف شخص؟
إنّ العقائد لا تستقر في النفوس تحت وطأة السيف والقهر على الإطلاق؛ وإنّما تستقر بالإقناع وبالحُجة الواضحة، ولو كانت الشعوب قد دخلت في الإسلام مُجبَرة فسرعان ما كانت تمرَّدت عليه ولفَظتْه، ولكن الحقيقة التي يشهد لها التاريخ والواقع أن الشعوب الإسلامية هي أكثر الشعوب تمسُّكًا بدينها رغم ما تعانيه من اضطهادات وحروب في كثير من أنحاء العالم، ومن المعلوم أنّ هناك كثافة إسلامية في جنوب شرق آسيا والفلبِّين وإندونيسيا، وفي شرق أفريقية وهناك عشرات بل مئات الملايين أسلَموا ولم تطأ بلادَهم قدمُ مُجاهد مسلم فاتح، فمَن الذين أجبر هؤلاء على اعتناق الإسلام؟ وهل ثبت تاريخيًّا أنّ جيوش المسلمين حاربت هناك؟ وجدير بالذكر أن هؤلاء يُشكِّلون غالبية المسلمين في عصرنا، كما يُضاف إليهم كثير من المسلمين في دول أوربا والأمريكيتين، وهي بلاد لم يدخلها الفاتحون المسلمون أيضًا.
هذا وممّا يؤكد بطلان هذه الفرية ما أثبته التاريخ أن بعض القوات والجيوش التي حاربت المسلمين وانتصرت عليهم كالتتار مثلاً، قد أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجًا، في سابقة لعلها لم يعرف لها التاريخ مثيلًا، فأنّى للمُنتصِر أن يدخل في دين المَهزوم؟ وأي شبهة إكراه هنا؟
فتشريع الجهاد لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام؛ وإنّما لإقامة الحق، ورد الظلم، وتأمين المسلمين، ورد كل عدوان يقع على الإسلام والمسلمين.[إيهاب كمال أحمد. https://2u.pw/rPBfva7e
ومن نصوص الشرع ما يشهد على عدم الإكراه والإجبار في الدين قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ )[البقرة: 256]، (وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ *وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تُؤۡمِنَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ..)[يونس: 99- 100]
وممّا ينبغي التأكيد عليه أنّ الفتوحات العربية للشام والعراق ومصر كانت لحماية الدولة الإسلامية الأولى المحاطة بأكبر امبراطورتيْن في العالم الفارسية والرومانية، ولو لم تتوجه الجيوش العربية للشام والعراق ومصر لقدمت إلى الجزيرة العربية جحافل الروم والفرس لتقضي على الدولة الإسلامية في مهدها.
والجهاد في الإسلام حرب في غاية النقاء والطهر والسمو، وهذا الأمر واضح تمام الوضوح في جانبي التنظير والتطبيق في دين الإسلام وعند المسلمين، وبالرغم من الوضوح الشديد لهذه الحقيقة، إلا أنّ التعصب والتجاهل بحقيقة الدين الإسلامي الحنيف، والإصرار على جعله طرفًا في صراع وموضوعًا للمحاربة، أحدث لبسًا شديدًا في هذا المفهوم -مفهوم الجهاد- عند المسلمين، حتى شاع أنّ الإسلام قد انتشر بالسيف، وأنّه يدعو إلى الحرب وإلى العنف، ويكفي في الرد على هذه الحالة من الافتراء، ما أمر الله به من العدل والإنصاف، وعدم خلط الأوراق، والبحث عن الحقيقة كما هي، وعدم الافتراء على الآخرين؛ حيث قال سبحانه في كتابه العزيز: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[آل عمران: 71].
ولقد فطن لبطلان هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو توماس كارليل، حيث قال في كتابه “الأبطال وعبادة البطولة”، والذى ترجمه الكاتب محمد السباعى، ما ترجمته: إنّ اتهامه -أي سيدنا محمد- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس ممّا يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها. اهـ. “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه”[كارليل. نوماس. ص 166.]
ويقول المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب” وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وآله وسلم وفي عصور الفتوحات من بعده: “قد أثبت التاريخ أنّ الأديان لا تفرض بالقوة…، ولم ينتشر القرآن إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها…، ولم يكن القرآن أقل انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط” .[لوبون: حضارة العرب، ص 128- 129]
للحديث صلة.
البريد الاليكتروني: Suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال: https://n9.cl/vue7jo