د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في 19 يوليو2023م
في مقال سابق بيّنتُ أنّ من الأهداف الاستراتيجية لرؤية المملكة 2030 إصلاح الخطاب الديني بالعودة إلى الإسلام النقي الذي يمثله العهديْن النبوي والراشدي خير تمثيل، وتنقية الأحاديث النبوية المصدر الثاني للتشريع من الموضوع والضعيف والآحادي والشاذ، وذلك طبقًا لما جاء في حديث ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لمجلة أتلانتك الأمريكية المنشور في 3/3/ 2022م.
ومن الأمور الاجتهادية التي ينبغي التوقف عندها، وإعادة النظر فيها لعدم توافقها مع واقع المجتمعات الإسلامية المعاصر، التوريث بالتعصيب للذكور، فمن أخطاء الخطاب الديني في مسائل التوريث بالتعصيب للذكور أنّه لم يبن على نص قرآني، وإنّما بُني على حديث واحد رواه البخاري في صحيحه منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مسلم بن إبراهيم، عن وهيب، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس: قال رسول اللّه: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر”[باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن باب ميراث الجد مع الأب والإخوة]، كما رواه مسلم في صحيحه، والترمذي وأبو داود في سننهما، وجعلوه حكمًا ثابتًا نسبوه إلى شرع الله ، مع أنّ الله جل شأنه لم يُشرِّعه في كتابه، وهذه الرواية موضوعة:
1. لنفي ابن عباس وطاووس روايتها، وهذا ما رواه أبو طالب الأنباري(هو عبيد اللّه بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري. قال النجاشي: شيخ من أصحابنا ثقة في الحديث، عالم به، كان قديمًا من الواقفة توفّـي عام 356قائلًا: “حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميري، قال: حدثنا سفيان(بن عيينة)، عن أبي إسحاق(عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي)، عن قاربة بن مضرب، قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة، فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: إنّ ما أبقت الفرائض فلأوْلَى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أنّي أقول: إنّ قول اللّه عزّ وجلّ:(آباؤكُم وأبناؤكُم لا تدرونَ أيُّهم أقربُ لَكُمْ نَفعاً فريضة مِنَ اللّه)وقوله:(أُولُوا الأرحام بَعضُهم أولى بِبَعض في كتابِ اللّه)وهل هذه إلاّ فريضتان، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا، ولا طـاووس يرويه عليّ، قال قاربة بن مضرب: فلقيت طاووسًا، فقال: لا واللّه ما رويت هذا عن ابن عباس قـط وإنّما الشيطان ألقـاه على ألسنتهم.[ النجاشي برقم 615 طبع بيروت]
2. يخالف القاعدة الأساسية لآيات المواريث، وهي أنّ الأنثى هي الأساس في احتساب الحصص، وأنّ الذكر تابع لها، وحظّه من الميراث يتوقف على عدد الإناث، فكيف يقصي النساء ويحرمهن من الإرث بالتعصيب الذكوري؟
3. حرمان الإناث من الميراث من الموروثات الجاهلية التي نبذها الإسلام، بل أكدّ على أنّ المرأة والرجل سواء في قوله تعالى:(للرجالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)[النساء:7]وإن كان سياقها يبيّن علاقتها بالوصية، فهي تؤكد بذلك على مساواة الإناث للذكور في حق الإرث، كمساواتهن في حق الوصية.
فكيف يأخذ بهذه الرواية الفقهاء وعلماء الفرائض رغم نفي راويها لروايته لها، ويحرمون بموجبها إناثًا من الإرث، أو يُدخلون ذكور شركاء لبنات المتوفى بالتعصيب؟ فمثلًا: لو خلف الميت إناثًا فقط يشاركهن في إرث أبيهم أعمامهم أو بني عمومتهن بالتعصيب، وإن قيل لأنّهم مسؤولون عن الإنفاق والمشاركة في دفع الديات والغرامات، وهي مبررات من ورّثوا الذكور بالتعصيب، فهنا أقول ما علاقة مشاركة الإناث المتوفى والدهن في اقتطاع ثلث ميراثهن الذي هنّ في أمس الحاجة إليه ليعطى للأعمام أو أولادهم لينفقوه على أسرهم، وفي دفع غرامات أو ديات لجرائم ارتكبها ذكور لا علاقة لهن به، مع العلم أنّ الغالبية العظمى للوارثين بالتعصيب بمن فيهم الأعمام لا يتحملون مسؤولية الإنفاق على بنات أخيهم أو عمهم الذي ورثوا ثلث تركته بالتعصيب، ولا توجد مراقبة قضائية تلزمهم بالإنفاق على أسرة المتوفى، وقد يكون الورثة الذكور بالتعصيب لا يعرفون المتوفى، وليسوا على تواصل معهم، ولم يقفوا معه في محنه ومرضه، وقد تكون عداوة بينه وبينهم!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا إذا توفى رجل أو امرأة عن ولد ذكر واحد، تكون تركته أو تركتها كاملة للولد، بينما إذا توفى أو توفيت عن أنثى واحدة أو مجموعة إناث يشاركها/ هن في ثلث التركة عصبة ذكور، بينما تسقط عصبة الذكور إن لم يكن للميت وارث إلّا من أعتقه ليرث التركة بكاملها، وهذا يتنافى مع شرع الله المنسوب إليه فريضة التعصيب بالذكور المخالف لقوله تعالى:( للرجالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)
أمّا مقولة:” إنّ مسائل الإرث لا اجتهاد فيها وأنّ مردها إلى النصوص، فآيات المواريث الثلاث(11،12، 176) من سورة النساء جد محدودة، إذ لا نجد فيها من الورثة سوى الأبناء ذكورًا وإناثًا والأبويْن والزوجيْن والإخوة ذكورًا وإناثًا، ولا تسع كل تلك التفريعات وأنواع الإرث التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله .
وممّا يؤكد أنّ مسائل الإرث اجتهادية بنسبة كبيرة مسألة الجد مع الإخوة، والتي لا يستطيع فقيه إنكارها، فمسائل الجد مع الإخوة لا تكاد تنضبط وتفاريع مسائله لا تكاد تنحصر؛ حيث إنّه يرث بكيفيات مختلفة وله مع الإخوة قضايا طال فيها الكلام ووقع فيها الخصام واضطربت فيها النقول والآراء من لدن الصحابة الكرام، ومن بعدهم حتى إنّه ليُروى عن الصحابي الواحد عدة آراء مختلفة بقوله: “وأخرج يزيد بن هارون … عن عبيدة بن عمرو قال:” إنّي لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها يتقض بعضها بعضًا … (و) عن محمد بن سيرين سألت عبيدة عن الجد مائة قضية مختلفة، وقد استبعد بعضهم هذا عن عمر، وتأول البزار صاحب المسند قوله( قضايا مختلفة) على اختلاف حال من يرث على مع الجد.. ويدفع هذا التأويل ما تقدم من قول عبيدة بن عمرو ينقض بعضها بعضُا.[ ميراث النساء :دراسة متعددة الاختصاصات حول الإرث في المغرب ـ إشراف وتنسيق سهام بشقرون، ص 7 نقلًا عن فتح الباري، ص 12.]
والذي يستوقفني هنا أنّ التعصيب بالذكور ومسائله لا تستند على نص قرآني، وإنّما على مسائل اجتهادية بُنيت على رواية لابن عباس عنه عليه الصلاة والسلام، وقد نفى روايته له، ونجد أغلب الاجتهادات مبنية على العادات والواقع والعرف، بمعنى أنّ تلك الاجتهادات كانت في إطار اجتماعي معين وفي واقع معين، في زمن معين، وإن لم يُصرِّحوا بها فهو واضح في تعليلاتهم وشروحهم، ولعل هذا الواقع، وهذه الأعراف هي التي استحضرت في ضرورة توريث الجد، وهي التي استُحضرت في تحديد مفهوم العصبة، ولا يخفى على باحث له قليل علم بمبادئ علم الاجتماع، ونظام القبيلة ما للجد من مكانة ودور في تسيير الأسرة، وما للرجال عمومًا من دور في رعاية الأسرة والزود عن العشيرة، وهذا ما نلمسه في قبول العلماء لرواية ابن عبّاس التي نفاها، وتبريرهم المقولة المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام “رجل ذكر”، وفي قول ابن حجر على لسان ابن العربي:”وحكمته أنّ الرجال تلحقهم المؤن كالقيام بالعيال والضيفان، وإرقاد القاصدين ومواساة السائلين وتحمل الغرامات وغير ذلك، وقوله:” فلما علم أنّ الرجال هم القائمون بالأمور، وفيهم معنى التعصيب، وترى لهم العرب ما لا ترى للنساء فعبر بلفظ ذكر إشارة إلى العلة التي لأجلها اختص بذلك.”[العسقلاني، فتح الباري، ص15]
فالعصبة إذًا مرتبطة بالإنفاق وتحمل عبء الحياة المادية، وارتبطت بالذكورة بالتبع لهذا السبب، أي سبب الإنفاق وتحمل مسؤولية الأسرة وحماية العشيرة ونصرة الأقارب وأداء الغرامات عنهم، ولكون الذكور كانوا من يتولون كل ذلك، وهذا يعني أنّ العصبة تخص الرجال عمومًا لهذه العلة، وبسقوط العلة أي علة الإنفاق تُسقط العصبة، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًاـ ودليل ذلك يتضح من مجموعة من الأحاديث التي تدل بشكل غير مباشر على هذا؛ وهي أحاديث الولاء، أي أنّ الولاء لمن أعتق، فقد جُعل الولاء سببًا من أسباب الميراث، فإذا مات الرجل وليس له أقارب أو زوجة، يرثه مّن كان قد أعتقه، ولا ترثه عصبته.[ميراث النسا بتصرف، مرجع سابق]، فكيف تسقط العصبة عند توريث من أعتقه المُتوفى، ولا تسقط عند توريث ابنة أو بنات المتوفى؟ أيهما أولى بكامل تركة المتوفى ابنته أم عتيقه؟
لذا فمادامت استراتيجية رؤية المملكة 2030 قائمة على إصلاح الخطاب الديني، أقترح أنّ يكون اسقاط علة توريث الذكور بالتعصيب من أسس هذه الاستراتيجية باعتبار أنّها مسائل اجتهادية لا تستند على نص قرآني، وإنّما اجتهادات قائمة على انفراد الرجل بالإنفاق، والرجل في زمننا هذا لم يعد منفردًا بمسؤولية الإنفاق، فقد باتت المرأة كالرجل تنفق على بيتها وأبنائها ووالديها، وفي بعض الحالات حتى على زوجها وإخوتها الذكور، بل هناك كثير من الرجال يتنصلون من الإنفاق على نساء أسرهم المسؤولون عن الإنفاق عليهن مع استيلائهم على ميراثهن، فعلة انفراد الرجل بالإنفاق قد سقطت، وبالتالي تسقط عُصبته.
البريد الاليكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://www.al-madina.com/article/847408/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%B5%D9%8A%D8%A8-%D9%84%D9%84%D8%B0%D9%83%D9%88%D8%B1