د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في جريدة المدينة في 16 فبراير 2023م

ونحن نحتفل بمرور(305) على تأسيس الدولة السعودية رأيتُ التوقف عند دور المرأة في مراحل تأسيس الدولة السعودية، هذا الدور الذي لاقى تعتيمًا أو تجاهلًا من قبل بعض مؤرخي الدولة السعودية في دورها الأول، ولا سيما من قِبل المؤرخيْن السعوديين ابن بشر وابن غنّام، ثمّ أنصفتها رؤية المملكة 2030 بتمكينها سياسيًا واقتصاديًا وعدليًا وعلميًا وتعليمًا واجتماعيًا وفي باقي مناحي الحياة.

  إنّ مرحلة التأسيس الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود، وتتمثل في الدولة السعودية الأولى،  وتبدأ  من 1139ــــ 1233ه/ 1727 ــــ 1818م)عاصمتها الدرعية، دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتأكد هذا في العهد بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1157ه. وقد كان للمرأة السعودية في الدولة السعودية الأولى  دور كبير في تأسيسها على ثلاث أصعدة هامة.

أولها: إنقاذ حياة المؤسس الأول للدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود، عندما كان الرجل الأول لحاكم الدرعية آنذاك” زيد بن مرخان” وإعطائه الأمان كان على يد امرأة هي الجوهرة بنت عبد الله المعمر،عمة محمد بن حمد بن معمر” المعروف بـ “خرفاش” حاكم العُيينة ــ آنذاك ـــ  فهي تُعتبر  الأساس في التاريخ السعودي، لأنّ بإنقاذها لحياته كان سببًا في وصوله  إلى حكم الدرعية.

 والقصة تبدأ عندما  ظن “زيد بن مرخان” حاكم “الدرعية”أن نظيره في “العيينة” “محمد بن حمد بن معمر” المعروف بـ “خرفاش”، حاكمًا ضعيفًا لا يقل ضعفًا عن البلدة التي يحكمها، ولئن كانت خرجت من أحضان ملك الموت بعد الطاعون، فلن تخرج عن حرب الاستيلاء عليها بالسيف.

قرر”زيد بن مرخان” شن حرب لا رحمة فيها على “العيينة”، فجمع الكثير من الرجال واتفقوا على نهب البلدة وتحركوا إلى هناك، فعلم بأمرهم “خرفاش” وقرر أن يتفق معه برسالة سياسية قال له فيها “لماذا تريد إشراك هذه الجموع في نهب العيينة، دعهم وأقبل إليّ وأنا أعطيك ما يرضيك”.

لم يورد المؤرخ”حسين خلف الشيخ خزعل” في كتابه “حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب”، تبريرًا لتصديق “زيد بن مرخان”  لهذه الرسالة التي ذكر نصها، غير أنّ العلة الوحيدة التي تبدو منطقية هي أنّ “زيد بن مرخان” صدق هذه الرسالة لظنه أنّ “خرفاش” يخاف الموت.

وصل”زيد بن مرخان” إلى “العيينة” ومعه 40 رجلًا من أخلص أتباعه وعلى رأسهم “محمد بن سعود”، واستقبلهم”خرفاش” استقبالًا يدل على حفاوته واحترامه لهم والذي فسروه هم بالخضوع وإظهار ماء الوجه قبل الاستسلام.

بقي”خرفاش” مدة من الوقت مع ضيوفه ثم غادر استعدادًا لتقديم فروض الطاعة، وبمغادرته  خرج رجاله بالبنادق ونفذوا فيهم مقتلة لم ينجو منها سوى”محمد بن سعود” وآخرون، واحتموا في مكانٍ بالبيت ولم يغادروه أحياءًا إلى الدرعية  إلا بواسطة “الجوهرة بنت عبدالله بن معمر” عَمَّة «خرفاش» سنة 1726 م، والتب تزوجها الشيخ  محمد بن عبدالوهاب بعد هذا الكمين بـ 15 سنة.

مفارقات أخرى غير الإنقاذ والزواج

رغم أن كل مؤرخي الدولة السعودية اعتمدوا هذه القصة، لكنهم لم يتطرقوا إلى مدى سطوة المرأة في المجتمع البدوي، فكما يبدو أنّ «الجوهرة» أرادت منع الثأر من باب  تحميل الجمايل، أو بمعنى أدق توهمت، فهي لم تكن تدري أن عرش”آل معمر” سيزول بعد سنوات من تصرفها هذا على يد من أنقذته وحليفه الذي تزوجته، ولم يكن إنقاذها “لـ «محمد بن سعود» وزواجها من «محمد بن عبد الوهاب» هي المفارقة الوحيدة في هذه الحادثة، بل هناك مفارقة أخرى وهي انتهاء العلاقة التي ربطت بين “خرفاش” و الشيخ “عبدالوهاب بن سليمان” والد الشيخ محمد بسنة واحدة، ومات خرفاش مقتولاً على يد آل نبهان من آل كثير.

ثانيها: دستور الدولة ونهجها وسياستها لوضع أسس وقواعد الدولة السعودية، ويتمثل هذا الدور في شخص السيدة موضي بنت أبي وهطان زوج الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، في العهد التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد  بن عبد الوهاب سنة 1157ه  على مناصرة كل منها الآخر وفق رواية المؤرخ عثمان بن بشر في كتابه عنوان المجد في تاريخ نجد، ولكن نجد المؤرخ  حسين بن غنَّام وهو أحد مؤرخي الدولة السعودية قد تجاهل تمامًا دور السيدة موضي وأهمله رغم أهميته.

وقد رواه ووثّقه أيضًا المؤرخ والرحالة اللبناني الأمريكي أمين الريحاني  في كتابه نجد وملحقاته وسيرة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل الفيصل آل سعود” بنفس رواية ابن بشر مع اختلاف.

ثالثهما:على الصعيد القتالي والحربي الذي يتمثل في بطولة وحُسن قيادة السيدة غالية البْقُمية: سيدة من عرب البُقوم من بادية بين الحجاز ونجد، وهي  غالية بنت عبدالرحمن بن سلطان بن غربيط البدري الوزاعي البقمي من قبيلة البدارا البْقُمية، ويعتقد أنّ ميلادها كان في الربع الأخير من القرن الثاني عشر الهجري طبقًا لما كتبه منصور العساف في صحيفة الرياض السعودية(23/‏10/‏2015) أي أنّها كانت في متوسط العمر خلال حملة طوسون باشا على تربة. وتزوجها الشيخ حمد بن عبدالله بن محيي شيخ الموركة والمحاميد الذي أصبح فيما بعد عاملًا للدولة السعودية الأولى على مدينة “تربة البقوم” على حدود الحجاز مع نجد، وكان من أغنياء البقوم من سكان تربة على مقربة من الطائف، من جهة نجد فأنجبت له ابنًا اسمه “هندي” توفي صغيرًا وابنة اسمها “زملة”

وحينما بدأت حملة طوسون باشا وعابدين بك كان زوجها مريضًا، فتولت بنفسها خطط المعركة من قصر زوجها. وفي أعقاب وفاة زوجها في خضم المعركة في عام 1809 أخفت خبر وفاته، بالتعاون مع ابن أخ زوجها، وقد اشتهرت هذه السيدة  بالشجاعة ونُعتت بالأميرة ، ولأهل تربة مواقف معروفة فيما كان بين النجديين والترك والهاشميين،  وقد واجهت جيوش أحمد بن طوسون مرتيْن:

الأولى: عام 1222ه/ 1807م، وقد تحدث عنها المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي في كتابه عجائب الآثار.

الثانية: عام 1229/ 1813م، وتحدّث عتها المؤرخ محمود فهمي المهندس في كتابه البحر الزاخر.

وقد تجاهل هاتيْن المواجهتيْن المؤرخان السعوديان ابن بشر واين غنّام، بينما تحدث عنهما المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي  في كتابه عجائب الآثار، فقال في حوادث صفر سنة 1222هـ(10 إبريل 1807م): وصل مصطفى بك أمير ركب الحجاج إلى مصر، وسبب حضوره أنَّه ذهب بعساكره وعساكر الشريف من الطائف إلى ناحية تربة، والمتأمر عليها امرأة فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة، فحنق عليها الباشا وأمره بالذهاب إلى مصر مع المحمل”، وقال أيضًا في حوادث جمادي الأولى سنة 1229هـ حوالي 1813) وفي روايات أخرى عام 1228ه/ 1812م:(وفي رابعة وصلت هجَّانة من ناحية الحجاز، وأخبر المخبرون أنَّ طوسون باشا وعابدين بك ركبا بعشائرهما على ناحية تربة التي بها المرأة التي يُقال لها غالية، فوقعت بينهما حروب ثمانية أيام، ثُمَّ رجعوا منهزمين لم يظفروا بطائل.)[الأعلام للزركلي)

ويصفها الرحالة والمؤرخ السويسري “يوهان لودفيك بركهارت” حينما كتب مذكراته في كتابه “ملاحظات عن البدو والوهابيين” بقوله: “كان بعض البقوم العرب من الرعاة وبعضهم من المزارعين، ترأسهم أرملة تدعى غالية، وكان زوجها أحد كبار رجال تربة، وتمتلك غالية ثروة أكثر من أي عائلة عربية، في الحي أغدقت الأموال والمؤن على جميع فقراء قبيلتها المستعدين لمحاربة الأتراك”.

ويكمل بركهارت بوصفه غالية: “كان مجلسها مفتوحًا لجميع المخلصين ورئيسهم الذي يعقد اجتماعاته في منزلها، فلم يكن صوتها مسموعًا في المجلس فقط، بل كان الطاغي بشكل عام، كما كانت تحكم البقوم بالرغم من وجود حاكم أو رئيس منتخب يدعى ابن خرشان، وكان رئیسھم اسمًا، ولكن زعیمتھم الحقیقیة كانت غالیة، وهي أرملة أحد كبار تربة,وكانت ھذه المرأة لعقلھا وحكمتھا وكمال معرفتھا بشؤون العشائر مسموعة كلمتھا، مطلوبة مشورتھا، وكانت تحكم قبیلة البقُمي  وتوجھھا”

وأضاف:”لم تكتف غالية بالدفاع عن بلدتھا عندما ھاجمھا رجال الترك عام 1228ھـ بقیادة طوسون وھم في طریقھم للدرعیة، إنّما خرجت على رأس فریق من رجالھا بعد أن خطبت فیھم واستثارت نخوتھم، فقاتلت العساكر التركیة المصریة قتالًا شدیدًا حتى انھزموا ھزیمة منكرة وھربوا لا یلوي أحد على أحد، تاركین خیامھم وأمتعتھم وأكثر مدافعھم، وكان زوجھا الأمیر ھندي بن محيي شیخ محامید البٌقُمي مریضًا ومات أثناء المعركة، فأخفت خبر وفاته حتى لا یتسرب الیأس إلى قومھا فینھزمون، فكانت تصدر الأوامر كأنّھا من أمیرھم المتوفى.”

ویقول المؤرخ الفرنسي إدوارد دريو EDWARD DREW: “إنّ ھزیمة المصریین في تربة أمام غالیة كانت ضربة قاصمة لسمعة محمد علي وابنه طوسون وقواتهم، لذلك أسرع محمد علي بالسفر من مصر إلى الحجاز لتدارك الأمر.”

ویقول مؤرخ فرنسي أخر غوان: “إنّ غالیة كانت في نظر المصریین ساحرة تعطي الجنود سرًا یحصنھم من الھزیمة فلا یستطیع أحد أن یغلبھم، ولھذا شبھوھا ببطلتھم (جان دارك) التي اشتھرت ببطولتھا الخارقة في محاربة الإنجلیز الذین احتلوا قدیمًا جزءًا من فرنسا.”

كانت هذه الأحداث في عهد الإمام  سعود بن عبد العزيزين محمد بن سعود حكم  ما بين عامَي 1218 هـ – 1229 هـ/1803-1813م.

  وقد تجاهل مؤرخا الدولة السعودية الأولى السعوديان ابن بشر وابن غنّام أمر غالية البُقْمية في كتابيهما.

للحديث صلة.

البريد الالكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال :

https://www.al-madina.com/article/827821/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AD%D9%84-%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9

Leave a Reply