د. سهيلة زين العابدين حمّاد

نُشر في جريدة المدينة بتاريخ 29 ديسمبر 2022م

 لغتك التي تنطق بها هي هُويتك وهوية وطنك، وسجل تاريخ الآباء والأجداد، وما حققوه من إنجازات، وما تعثروا فيه من إخفاقات وما كوّنوه من حضارات ـ فكيف إن كانت لغتك هي  لغة الإسلام دينك الذي تدين به المتمثلة في كتاب الله ( القرآن الكريم ) وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وحفاظًا على دينك وهويتك ووطنك وتاريخ وحضارة أمتك عليك الحفاظ عليها، وتعليمها لأولادك وأحفادك، وتحرص على أن تكون لغتهم الأم التي يتحدثون بها، ويكتبون بها، ويتعلمون بها، ولهم  تعلم لغات أخرى ، ولكن ليس على حساب لغتهم الأم .

  ولكن للأسف الشديد نحن النّاطقين بالعربية فرّط الكثير منّا في لغتنا الأم وبات الموسرون منا والمثقفون يستقدمون مربيات أجنبيات للعناية بأطفالهم،  ويتحدثون معهم باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، ويدخلونهم  مدارس أجنبية،  وبعد إتمامهم المرحلة الثانوية يلحقونهم بجامعات أجنبية، وعندما يتقدمون للعمل لم تشترط جهات العمل إجادة اللغة العربية تحدثًا وكتابة إلى جانب  إجادة اللغة الإنجليزية.

 وهكذا لا نجد مجالًا للغة العربية ليتعلموها، ويتحدثون ويكتبون بها!

لكم آلمني وأنا أتابع افتتاح أحد المهرجانات العربية السينمائية في مدينة عربية اعتمد اللغة الإنجليزية لتكون لغة المهرجان، والحضور كله عربي باستثناء بعض الأجانب الذين يعدون على أصابع اليد ، الذين لا يتنازلون عن لغاتهم الأم في المهرجانات التي تقام في بلادهم .

 كما آلمني أكثر أنّه عندما سأل مقدم برنامجًا بثته على الهواء إحدى قنواتنا الفضائية أحد المشاركين بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية بأية لغة تتحدثون في بيتك، فقال بعدة لغات، أمّا اللغة العربية فتفهمها بناتي ويقرأن القرآن، ولكن نتحدث معًا بالانجليزية وبلغات أخرى، وعندما طلب مقدم البرنامج من مشاركة أخرى في البرنامج التعليق على ما سمعته، أجابت بأنّها عبقرية منه أن يتحدث مع بناته بالانجليزية لأنّ اللغة العربية متجمدة غير متطورة، فقد أعطت لنفسها حق انتقاد لغة القرآن الكريم عن جهل تام، اللغة  التي اختارها الخالق جل شأنه لتكون لغة خاتمة كتبه السماوية، واختار أن يكون خاتم أنبيائه ورسله عربيًا، وجعلها لغة أهل الجنة، فقد كرّمنا الله نحن العرب بكل هذا، ونجد الكثير منَا هجر اللغة العربية حتى يتحدثون مع أولادهم بلغة من أحتلهم واستعمرهم، وينظر إليهم بازدراء ولا يزال بخطط للاستيلاء على ثرواتهم وأراضيهم وإبادتهم تدريجيًا، ولم يكتف بهذا، بل نجد ما يُعزز الانصراف عن تعلم اللعة العربية في البلاد العربية ، منها :

  1.  اعتماد اللغات الأجنبية في: الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والمهرجانات ووسائل الإعلام والإعلانات كلغة أساسية .
  2. 2.    تبني مسميات أجنبية لبرامج تلفازية ومسلسلات وأفلام عربية، وأماكن ترفيهية ومنح سجلات تجارية  لمحلات تجارية وشركات بمسميات أجنبية، وكذلك منح تراخيص لفعاليات ومبادرات ومشاريع  خاصة وعامة بمسميات أجنبية.
  3. كثرة عرض برامج وأفلام بلغات أجنبية على قنوات خاصة، ومنها موجهة للأطفال، وخطورة هذا لا تكمن في اللغة فقط، ولكن في ما تبثه  تلك البرامج والأفلام من ترويج للمثلية والعلاقات غير الشرعية  وشرب الخمر كمشروب عادي، والعنف بمختلف صوره وأشكاله، وبذلك يتم تحويل هوية أولادنا إلى الهوية الغربية لغة وسلوكًا وانتماءً يُقللون من شأن كل ما هو إسلامي وعربي، وللأسف الشديد نجد مشاهد في بعض المسلسلات التلفازية العربية  كشرب الخمر في جلسة صديقات وزيارة فتاة بمفردها لشاب أعزب في بيته، وقد تقيم معه، وكل  هذا يبدو عاديًا  ويتقبله المجتمع.
  4. كثرة الأخطاء الإملائية واللغوية في عناوين الأخبار في مختلف الفنوات التلفازية والصحف العربية، ونجد كثير من مقدمي ومقدمات البرامج والأخبار يخطئون في أحرف الجر، وهناك شبه إجماع من معظمهم أنّ أهلًا فيك، وليس بك؟ وفخورين فيك وليس بك… إلخ بل نجد أخطاء إملائية ولغوية في عناوين مسلسلات أو أفلام، والأدهى من هذا كله عند نجد أخطاءً لغوية وإملائية في كتب مناهج دراسية، رغم وجود مدقيقين لُغويين لها !  
  5. تقاعس القائمين على مجامع اللغة العربية والمختصين بهذه اللغة على مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي اللذيْن يشهدهما العالم في تعريب المصطلحات الأجنبية لمختلف العلوم، وإنشاء لجان متخصصة لتعريب العلوم، وترجمة ما تضخَّه المطابع الغربية من المؤلفات التي تدرس في الجامعات العالمية لمختلف العلوم، وغياب دور المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وغيرها من المنظمات الرسمية المعنية بالحفاظ على اللغة والثقافة العربيتيْن. فاللغة العربية كانت لغة العلوم قرونًا عديدة، وتعتبر اللغة العلمية لغة متخصصة وخاصة في أساسها وجوهرها، وذلك لاحتوائها على ذخيرة لغوية قوامها المصطلحات المتخصصة التي تتصل  بمختلف العلوم. فضلًا عن كونها توظف للتعبير عن أغراض ومعارف متخصصة ودقيقة، وهي اللغة التي تمكن أفراد الأمة بمرونتها ودقتها من تأصيل علومهم وتنقيحها والإبداع في جوانب شتى منها، فاللغة العلمية تشكل فرعًا ينتمي إلى أصل اللغة العامة الكبرى التي  تتفرع عنها مجموعة من اللغات الصغرى ، مثال ذلك: اللغة الأدبية، اللغة العلمية والتقنية، اللغة اليومية. وتجدر الإشارة إلى أنّ اللغة العربية العلمية هي لغة خاصة يتم استعمالها وتوظيفها في الأوساط العلمية من طرف أشخاص أو فئة محددة وخاصة من الناس، وهي أيضًا تلك اللغة التي تحرر بوساطتها التقارير والأبحاث والنشرات العلمية المتخصصة، وهذا القصور والتقاعس من اللغويين والمترجمين والمجامع اللغوية والهيئات والمنظمات الرسمية، جعل إحدى العربيات المفتونات باللغة الإنجليزية تقلل من شأن اللغة العربية وجعل من الآباء العرب من جعل لغة أسرته التي تتحدث بها اللغة الإنجليزية، قاصرًا اللغة العربية على قراءة القرآن الكريم فقط، وللأسف هذا الأمر يمتد إلى بعض النخب الاجتماعية والثقافية والإعلامية التي تتفاخر بالتحدث باللغة الإنجليزية متعالية على لغتها الأم.

    ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية الموافق 18 ديسمبر من كل عام وهو اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. بعد اقتراح قدمته المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو،  فلابد من وقفة جماعية عربية موحدة من حكومات الدول العربية والمجامع  والمؤسسات والمنظمات العربية المهتمة باللغة العربية العمل على حماية اللغة العربية،  وإعادتها إلى المكانة التي كانت عليها، وتستحقها، فقد كانت لغة عالمية ولغة العلوم والآداب، وذلك باتخاذ الخطوات والقرارات التالية :

  1. تكوين لجان ترجمة متخصصة لترجمة مختلف العلوم والآداب إلى اللغة العربية ترجمة سليمة غير ركيكة.
  2. أن تكون اللغة العربية لغة المناهج الدراسية في جميع المراحل الدراسية، وأن تكون الفصحى العربية هي اللغة المعتمدة في الفصول الدراسية في جميع المراحل الدراسية.
  3. تعميم  مشروع صاحب السمو الملكي خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة في كافة مناطق المملكة العربية السعودية، والدول العربية  الذي أطلقه عام 2018 في أن تُكتب عناوين المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والأماكن باللغة العربية حتى لو كانت مسميات لشركات أجنبية، ويكتب الاسم باللغة الأجنبية أسفل الاسم بالعربي، وبحروف أصغر.
  4. وضع مناهج المدارس والجامعات الدولية تحت إشراف وزارات التعليم والتعليم العالي، وإلزامها بتدريس اللغة العربية والعلوم الدينية  والتاريخ الإسلامي ، مع تدريس جغرافية الدول العربية والإسلامية.
  5. 5.    أن تكون اللغة العربية  اللغة الأساسية للمؤتمرات والندوات والمحاضرات والمهرجانات وجميع الفعاليات التي تقام على أراض عربية.
  6. أن يكون إتقان اللغة العربية تحدثًا وكتابة شرطًا أساسيًا في التوظيف في القطاعيْن العام والخاص، مع إتقانه للغة الإنجليزية، أو لغة أجنبية أخرى.
  7. الاكثار من الفعاليات التي تحتفي باللغة العربية، وكذلك مسابقات القراءة بالعربية لجميع الفئات العُمْرية.
  8. عمل دورات تدريبية مكثفة للغة العربية لمقدمي ومقدمات الأخبار والبرامج التلفازية.
  9. أن تكون اللغة العربية هي لغة التقارير والعقود  والدراسات، وجميع الفواتير الاستهلاكية في جميع البلاد العربية.
  10. أن يُكرّم سنويًا عدد من معلمي ومعلمات اللغة العربية وأساتذتها في الجامعات.
  11. الإكثار من برامج وأفلام الأطفال باللغة العربية ودبلجة البعض منها إلى اللغة العربية التي تتفق مع ما جاء به الإسلام وقيمه الخُلقبة .
  12. إنشاء هيئات رسمية تعني باللغة العربية وحمايتها والحفاظ عليها، وترصد لها ميزانية خاصة بها.

وأخيرًا أقول : علينا أن نُخرج الدُر الكامن في أحشاء بحر اللغة العربية جوابًا عن سؤال الشاعر حافظ إبراهيم في قصيدته ” اللغة العربية تتحدّث عن نفسها التي جاء في مطلعها:

أنا البحرُ في أحشائِه الدر كامنٌ … فهل سألوا الغوَّاصَ عن صدفاتي؟

البريد الالكتروني : Suhaila_hammad@hotmail.com

رابط المقال : https://www.al-madina.com/article/820938/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AA%D9%89-%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1-%D8%B9%D9%82%D9%88%D9%82%D9%86%D8%A7-%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9

Leave a Reply