د. سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في جريدة المدينة بتاريخ 22 ديسمبر 2030م.
بات مقلقًا على مستقبل المسلمين في أوروبا صعود بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى الحكم في بعض الدول الأوروبية؛ وذلك لأخذ تلك الأحزاب مواقف ضد المهاجرين، بل منها أخذ موقفا معاديًا للإسلام، مثل فيلدزر زعيم حزب الحريات اليميني الهولندي الذي تعهد بإنشاء وزارة التطهير من الإسلام في هولندا حال فوزه في الانتخابات .
وعند تتبعنا لتاريخ الموقف الأوروبي العدائي للإسلام نجد أنه بدأ منذ هزيمة المسيحيين في حروبهم الصليبية ضد المسلمين، والتي كانت من أهم عوامل بداية الاستشراق الديني. ويرى ايرنست باركر في كتابه الحروب الصليبية أنَّ في اجتياز المسيحية اللاتينية ما وراء البحار لمحاربة الإسلام كخاتمة للعداء الطويل بين المسلم والمسيحي في الجزء الغربي من بحر الروم، وهذا عنصر له خطره في الظروف التاريخية التي تحيط بالحروب الصليبية، فالجهود الاستشراقية أعقاب الحروب الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي لم تكن مجرد تخيلات حول الشرق الإسلامي صاغها رحالة أوربيون. وإنّما هي مرحلة تاريخية هامة ذات أبعاد خطيرة سعى الاستشراق البدائي لتصويرها بشكل معاكس: انتصار الغرب المنهزم، وهزيمة الشرق المنتصر، لقد جسد المشروع الصليبي عصبية الغرب تجاه الإسلام؛ إذ يعتبر توماس أرنولد في كتابه ” تراث الإسلام” الحروب الصليبية بمثابة “حركة روحية أوضحت نفسها بنظام روحي، ووصفها بأنَّها عبارة عن حرب مقدسة، حرب عادلة عند رجال الدين من الوجهة النظرية، فضلًا عن أنَّها حرب مباركة يصح أن يعوَّل الناس مصائرهم عليها حرب أشعلت في سبيل القضية النصرانية، ووجدت مصدر قوى المسيحية كلها في إطار عداء جمعي ضد خصمها الألد في الدين”، بينما يرى المستشرق الروسي “اليكسي فاسيلينتس جورافسكي في كتابه المسيحية والإسلام ” أنَّ الدراسات الأوروبية المعاصرة حول الإسلام قد تشكلت بين المسيحية والإسلام على مدى أربعة عشر قرنًا تقريبًا من تجاورهما أو من وجودهما المشترك، وأنَّ هذه العلاقات نمت وتطورت في أربعة مجالات ومستويات أساسية: اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، وثقافية، ودينية إلا أنَّ المجابهة العسكرية السياسية بين هاتين الديانتين أو الحضارتين منذ بدء ظهورهما المتجاور ووصولًا إلى القرن العشرين كانت ـ تلك المجابهة ـ هي الطابع المسيطر على علاقتهما الأخرى بما في ذلك العلاقات الدينية الأيدلوجية”. إلا أنَّه يقرر في موضع آخر أنَّ التصورات الأوربية عن الإسلام قد تشكلت ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر للميلاد، في كثير من جوانبها وخطوطها الكبرى على خلفية التفسير المسيحي الشرقي للعقيدة الإسلامية، مشيرًا في ذلك إلى مؤلفات “يوحنا الدمشقي” من آباء معلمي الكنيسة التي ناقش فيها الإسلام كبدعة، وأنَّ المسلمين لا يعتقدون بألوهية المسيح وصلبه، وأنَّ يوحنا يرفض أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم – نبي الله وهو خاتم المرسلين، وأنَّ القرآن كلمة الله المنـزلة إلى محمد صلى الله عليه وسلم من السماء؛ إذ يرى أنَّ سلسلة الرسالات النبوية ختمت بيوحنا المعمدان. ولم تكن الكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالي، وقصائد لوجيت الإنجليزي سوى أمثلة على تلك العصبية الغربية التي وضعت الإسلام أمام محاكمة تاريخية، ودعت إلى إعدامه ونفيه خارج عقل الغرب وروحه.
ولم يُكتف يهذا؛ إذ نجد المستشرقين على اختلاف مدارسهم قد خاضوا في ترتيب سور القرآن الكريم، ومنهم من رتبها حسب الموضوعات مثل المستشرق الألماني “نولدكه” في كتابه تاريخ القرآن، وكذلك المستشرق “شفاليSchvally ” وغيرهما من المستشرقين الألمان، وقد علق علماء الغرب على تقسيماتهم أخطر النتائج في عالم الدراسات القرآنية، واتخذوه أكبر مدخل للطعن في صحة القرآن الكريم، وتضارب تعاليمه، وقد ركز المستشرقون في بحوثهم على القرآن الكريم ليشككوا فيه، وليثبتوا أنَّه من تأليف محمد(صلى الله عليه وسلم)، ومن القضايا التي أثاروها الترتيب المصحفي والسور والآيات المكية والمدنية، فلقد أثبت القرآن الكريم نفسه حقيقة وجود الترتيب المصحفي، وقد جاء ببرهان قوي أنّه توقيفي من عند الله في سورة “القيامة” نقرأ قوله تعالى:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، وجمعه يعني تنظيم الآيات والسور، وهذا التجميع، أو التنظيم للسور لا يمكن صنعه إلاَّ وفق ترتيب محدود، ألا وهو الترتيب الإلهي، وعلى ذلك يبدو واضحًا أنَّ الله سبحانه وتعالى لم ينزل الوحي فقط، ولكنه أنزل معه تنظيمه وجمعه .
ولكن المستشرقين تجاهلوا هذه الحقائق الثابتة فنجد مثلاً “ريتشارد بل” يذكر أنَّه بعد دراسة مفصلة ودقيقة للهيكل العام لمقاطع القرآن الكريم، فقد ثبت أنَّها قد بدلت وروجعت.. كما أنَّ عبارته لم توضع في أماكنها فقط مجرد وضع في السور، ولكنها تعرضت لنوع من التكيف مع أماكنها وهو يبدو من خلال وقع الإيقاعات الخفية المحتجبة، وقد افترض بعض المستشرقين أنَّ القرآن لم يرتب مصحفيًا، واضعين في اعتبارهم أنَّ الوحي قد كتب على الرقاع، وعلى الألواح والجلود، كما كتب على عظام أكتاف الإبل، وعلى سعاف النخيل، فنجد “بل” مثلًا يرى أنَّ القرآن الكريم ما هو إلاَّ عدد لا نهائي من الجزئيات غير المتصلة، وذات تغيرات مفاجئة في الموضوع، كما أنَّه يحوي أخطاء نحوية، ثم مضى في محاولة منه لتأكيد الاتهام، فقال: والتعليل ما مضى ذكره من عيوب، فإنَّه ليس أمامنا إلاَّ أنَّ نفترض أنَّ عملية الكتابة شملت أحيانًا كتابة ما في ظهر الرقعة لما في وجهها..، ثم استشهد “بل” بالآيات التالية – على زعمه – فقال” نحن نجد في سورة “الانشقاق” وفي الآيات من 15 -13 هدمًا للتوازن المذكور في الآيات المتقدمة عليها، وهي الآيات 7- 12 والتي يمكن اعتبارها وحدة متكاملة مستقلة لو بقيت وحدها.
هذا ولقد انتقد كل من “موير” و”نولدكه” وبالمر وردويل، وآربري، وغيرهم االقرآن، لأنَّ السور قد رتبت فيه بصورة معاكسة لتلك التي نزلت بها حسب ظنونهم، واتهم ردويل و”تريتون” زيد بن ثابت ورهطه بإهمال جُل جزئيات نظام السور، متغاضين عن حقيقة أنَّ مجموعة زيد كانت تتبع المنهج المصحفي القرآني الذي انتهجه الرسول صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، كما تخيل كل منهما أنَّ زيدًا وضع بكل بساطة “الجزء الأكبر” ما رآه معروفًا بالنسبة إليه أولًا، ثم اتبعهما كريتزيك بأنّ اتهم زيد بن ثابت رضي الله عنه بتلفيق نظامه الخاص لترتيب السور فقال: “تم هذا بدون أي اعتبار لتواصل الموضوع، وتناسق الأسلوب حسب تقديره”، ثم استطرد “والمحصلة التي لدينا هي عمل من أصعب ما يكون من ناحية القراءة، وكذلك من ناحية تضارب الأفكار، ثم جاء آربري، فاتهم زيدًا أو جماعته باتخاذهم وحي النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة “انطلقوا منها لترتيب المصحف وفق ما استحسنوه، وأضافوا إليه مواد أخرى رأوها مناسبة، وهذا الاتهام أكثر الاتهامات شناعة وضحالة واستهتارًا بالحق.[ د. محمد حليقة. الاستشراق والقرآن العظيم . ص 104]
أمَّا ردويل فلقد زعم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خلط بين الوحي القديم والجديد في القرآن لتخفيف الحدة لبعض العبارات التي نزلت قبلًا.
وقد استبدت بعقول بعضهم فكرة ترتيبها حسب النزول، وهذه طريقة مستحيلة التطبيق، ويظهر هذا من اختلاف المستشرقين في ترتيب السور، فمثلًا: أعتقد موير في كتابه شهادة القرآن أنَّ سورة الفاتحة هي السورة السادسة، على حين تصور ردويل أنَّها الثامنة، وتصورها نولدكه الثامنة والأربعين، بينما أنكر آربري أنَّها من القرآن أصلًا، وغير ذلك من المزاعم الخاطئة.[Arberry The Koran, p 15DD]
هذا وما يلاحظ أنَّ هؤلاء المستشرقين رغم نهجهم منهجًا واحدًا في التفكير والبحث إلاَّ أَّننا نجد أنَّهم اختلفوا في الاستنتاجات والمحصلات الفكرية، والشيء الوحيد الذي اتفقوا عليه واشتركوا فيه، هو ذاك الإصرار العنيد على عدم تقبل ما رسخته المعتقدات الإسلامية وارتضاه المسلمون عبر القرون للترتيب المصحفي لقرآنهم الكريم لأنَّه ترتيبًا توقيفيًا من عند الله .
أمّا ردويل لا يشك بأنَّ القرآن من إنتاج خيال محمد “هذا ما قاله آربري في كتابه القرآن ، لقد ابتدع ردويل نظرية يفسر بها ما اختلفه من ترتيب تنزيل آيات القرآن، وابتدأ من حقيقة أنَّ الآيات التي نزلت مع أول الوحي كانت تقسم بالقصر، وحاول أن يضع على أساسها ترتيبًا جديدًا للسور المختلفة، ومثال ذلك: لقد علق على سورة “الملك” فقال: ” إنَّ الآيات من 8 – 11 من الواضح أنَّها نزلت متأخرة عن بقية السورة، ثم ألحقت بها، لأنَّ كلًا منها أطول بكثير من بقية آيات السورة، ولردويل افتراضات أخرى.
لقد جاء آربري بافتراضات خاطئة حول السور المكية والمدنية، فقد لفق معيارًا للتمييز بين الوحيين المكي والمدني، والذي لم يقتصر على ردويل وآربري، ولكنه شمل أيضًا المستشرق البلجيكي (Lammensإذ لفق هو الآخر معيارًا للآيات المدنية، مضمونه أنَّ تلك الآيات قد ابتعدت تمامًا عن الترتيب الإلهي من يوم الحساب، وما ذهب إليه ينافي الحقيقة تمامًا,
كما نجد بعضهم قد تطرّق إلى وجود بعض الكلمات الأجنبية في القرآن الكريم ليشككوا في عروبته؛ إذ يزعم الفريد جيوم في كتابه الإسلام أنَّ قصة رفض الشيطان السجود لآدم، قصة من أصل أجنبي فكيف يدعى أنَّ القرآن عربي أصيل؟[د.سهيلة زين العابدين حمّاد. السيرة النبوية في كتابات المستشرقين ــ دراسة منهجية تطبيقية على المدرسة الإنجليزية ــ ج1″ الاستشراق والمدرسة الاستشراقية الإنجليزية،وموقفها من النبوة والأنبياء” معد للطباعة ]
هذا وقد تناول برنارد لويس هذا الجانب أيضًا وذكر أنَّ بعض ألفاظ القرآن مأخوذة من لغات أخرى، ومن الأمثلة على ذلك كلمة “أم القرى” زعم أنَّها مأخوذة من الكلمة اليونانية “ميترو بوليMetro polis ” ، وعبارة “الصراط المستقيم” مأخوذة من الكلمة اللاتينية “سترانا”، ويضيف بثقة والتي اشتق منها اللغة الإنجليزية ” ستريت Street، أي شارع ,
وبعد هذا العرض السريع لمواقف مستشرقي المدرسة الإنجليزية بصورة خاصة من الوحي المكي والوحي المدني، والذين حاولوا من خلال إخضاعهم القرآن الكريم لمنهج النقد التاريخي الذي طبقوه في دراستهم لنصوص التوراة أو الإنجيل أن يشككوا في صحة القرآن الكريم ، نجد بعضهم في النهاية أقرَّ بصحته ، فقد أشار وليم موير إلى خلو القرآن الكريم من العيوب بقوله : “إنَّه لا يوجد كتاب في العالم – غير القرآن.. بقي على صورته النقية طوال قرون عدة، وعلّق مرجليوث قائلًا: “بأنَّ نظرية التلون بالوسط Coloringby the medium التي أعدها اللاهوتيون المسيحيون مبررين بها التناقضات التي حفلت بها كتبهم المقدسة هذه النظرية ليست معروفة مطلقًا في الإسلام . وفي الدراسة الخاصة التي قام بها مونتجمري وات وريتشارد بل عن القرآن الكريم التي تناولا فيها أعمال عدد كبير من المستشرقين في دراستهم للقرآن، وهي في غالبتيها العظمى تستخدم مناهج النقد الغربية، ومن هولاء فيل، وهيرشفيلد، وآربري، ورودي بارت وغيرهم، قد اعترف المؤلفان بأنَّ الدراسات الحديثة للقرآن لم تستطع أن تثير أية شكوك جدية حول مصداقية النص القرآني، ورغم اختلاف الأسلوب الواضح لكنه أمر لا يختلط فيه القرآن مع غيره، لأنَّه من الواضح أنَّ القرآن كله يحمل طابع التساوق مما يجعل من الصعب الشك في مصداقيته، ويعود المؤلفان يصران على أنَّ بعض الآيات كانت مثار جدل وشك من قبل عدد من المستشرقين، ولكنها متناسبة مع السياق أسلوبيًا وتاريخيًا ممَّا ينفي كل الشكوك حول مصداقيتها وموثوقيتها، ويستمر المؤلفان في إيراد كثير من النماذج لهذه الدراسات النقدية التي لم تنل من مصداقية النص القرآني ومصداقيته .[ د. مازن مطبقاني. منهج برنارد لويس . ص129]
البريد الاليكتروني: suhaila_hammad@hotmail.com
رابط المقال : https://www.al-madina.com/article/819950/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D8%AA%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%82%D9%8A%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%83-%D9%81%D9%8A%D9%87