تنويه حديث الذكريات كتبته في 18/4/1424هـ الموافق 18/6 /2003م، ويتوقف حديث ذكرياتي عند هذا التاريخ ، وسيكون له جزء ثان إن شاء الله. تقديم لا قيمة لوجود الإنسان إلاَّ بتاريخه ،ومن لا تاريخ له ،لا وجود له ،ولمَّا كنَّا غير موثقين لنظم الحياة الاجتماعية في بلادنا ،فنحن من خلال توثيقنا لسيرنا الذاتية نستطيع أن نوثق نظم حياتنا الاجتماعية، وطرز مبانينا ولكثير من عاداتنا خاصة فيما يتصل بمجتمعنا النسائي الذي يكاد يكون تاريخه معتمًا ،وذلك لأنَّ الكتَّاب والمؤلفين السعوديين الذين تناولوا الكتابة في نظم الحياة الاجتماعية في بلادنا أهملوا الحديث عن الجانب النسوي باعتبارهم ليسوا على احتكاك به . ولا أخفي عليكم فلم أكن أفكر قط في كتابة سيرتي الذاتية ،لأنَّني كنت أعتقد أنَّ كتابة السير الذاتية ينبغي أن تكون وقفاً على عظماء الأمة ،لأنَّ فيها ما يهم النَّاس ،أمَّا سرد سيرتي فقد لا تستهوي الآخرين قراءتها ، وعليَّ أن أركز في تقديم للقارئ ما يهمه من فكر وأدب، ولكن عندما طلبت مني الزميلة والصديقة العزيزة “طيبة الإدريسي “حديث الذكريات ” لتنشره في جريدة عكاظ التي تخطو خطوة رائدة ترصد من خلالها سير أعلام النساء في المملكة العربية السعودية ،والذي سيكون بمثابة رصد وتوثيق نظام الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية داخل مجتمعنا النسائي ، ونظرة المجتمع للمرأة على اختلاف الفترات والحقب التاريخية في مختلف مناطق المملكة ،ـوممَّا لا شك فيه أنَّ نظام الحياة الاجتماعية في منطقة الحجاز يختلف عمَّا كانت عليه في نجد ،وكذا في المنطقة الشرقية ،والشمالية والجنوبية ـ اقتنعتُ بأهمية كتابة هذه الذكريات، خاصة وأنا مقدمة للقارئ أكثر من تسعين كتاباً حتى الآن (صدر منها ستة عشر مؤلفا ً ،والباقي معد للنشر) ،ومن حقه عليَّ أن يعرف البيئة التي نشأتُ فيها ،والعوامل المؤثرة في تكوين فكري وثقافتي التي بين يديه ،ولا شك أنَّ ذلك سيساعده في فهم ما يريده الكاتب ،فأنا شخصياً يهمني أن أعرف منابع فكر وثقافة الكاتب الذي أقرأ له لأدرك أبعاد ما يكتب . فاقتنعتُ بالفكرة وكتبتها، وكانت موجزة لا تتعدى الأربعين صفحة ولستُ أدري هل نُشرت أم لم تنشر؟ و لقد شجعني أحد الناشرين على نشر هذا الحديث في كتاب، إلاَّ أنَّه تخيل أن يكون الحديث بشكل روائي ،وأنا لستُ من كاتبات الروايات والقصص ،وكتابة القصة والرواية موهبة وملكة لا أدَّعي أني أمتلكهما ،ولكني سأحاول صياغة حديث الذكريات بأسلوب قصصي روائي فيما يتعلق بالنشأة والتحصيل العلمي ،ولكن لا أعد القارئ الكريم بأنَّني سوف أصيغ معاركي الأدبية ،ومشاركاتي العلمية والفكرية والثقافية بشكل روائي قصصي، فأنا لا أتقن هذا الفن في الكتابة ،فما سأكتبه مجرد محاولة أتمنى أن أوفق فيها ولا أخفق. وسأحاول عند إعادتي لشريط الذكريات أن أتوقف عند بعض المواقف التي تحتاج تأصيلًا وتسجيلًا وتوثيقًا، وباعتباري باحثة تاريخية وأدبية وناقدة أدبية سأحاول أن أرصد جوانب هامة في حياتنا الاجتماعية والفكرية والأدبية عامة وفي المجتمع النسائي بالمدينة المنورة خاصة . صاحبة حديث الذكريات ************* بطاقة تعريف مدنية أنا المدينة المنورة مهبط الوحي ،وما أقدسه من مهبط! المدينة المنورة التاريخ ،وما أعظمه من تاريخ! المدينة المنورة السيرة النبوية ،وما أعطرها من سيرة! المدينة المنورة دار الهجرة ،وما أرحبها من دار! المدينة المنورة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ،وما أكبره من جهاد! المدينة المنورة الشهادة في سبيل الله ،وما أعلاها من شهادة! المدينة المنورة الإيمان بالله ،وما أعمقه من إيمان! المدينة المنورة الحب في الله ،وما أصدقه من حب! المدينة المنورة الإيثار في أجمل صورة ،وما أخلده من إيثار! المدينة المنورة السمو بالنفس ،وما أرقاه من سمو! هذه هي المدينة المنورة بالنسبة لي ..إنَّها تعني لي قداسة التشريع ،ونقاء العقيدة ،وعظمة التاريخ ،وعطر السيرة ،ورحابة الدار ، وصدق الحب ، وعمق الإيمان، وسمو النفس ،وخلود الإيثار ،وعلو الشهادة ،وكبر الجهاد ، هذه المعاني جميعها قد اختلطت في أحاسيسي ،وامتزجت في دمي، توغلَّت في أعماقي ،واستقرت في عقلي وقلبي ،وتشكل منها عقيدتي وفكري ، فأصبحت كل كياني ،وأضحت تجري في جسدي مجرى الدم في العروق ،وما سطره يراعي ما هو إلاّ ترجمة هذا الامتزاج بذلك الانتماء ،الانتماء إلى النبع الصافي للإسلام ،والامتزاج بما جاء به هذا الدين من مبادئ وقيم ومُثل كانت المدينة المنورة مثلاً حياً صادقاً لها ،ومنارة عالية لازالت أصداء أصوات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم التي انطلقت منها تتردد في الأجواء فتتلقاها الأسماع .. إنَّ كل ما شهدته هذه الأرض الطيبة من أحداث في عهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ،وصحابته من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم تتمثل أمامي ،وأنا أتنقل في جنباتها ،وفي أحيائها ،في طرقاتها وفي جبالها ووديانها ،في حدائقها وحقولها، وفي لحظات خلوي بنفسي لأمسك بالقلب واكتب ، فأشعر برهبة وخشوع ،وحب كبير لهذا الانتماء ،فأنا مدنية الفكر والروح والوجدان ،وما سجله قلمي إلى الآن ذرة ممَّا أحمله في قلبي من حب كبير للإسلام الذي كانت المدينة المنورة عاصمته الأولى ،ومؤيدته ومنارته. ********** أبي وأمي ولدتُ ونشأت وترعرعتُ وتربيتُ في أرض وبقعة طاهرة هي أحب بقاع الأرض إلى الله عزَّ وجل ،في دار الهجرة طيبة الطيبة المدينة المنورة ،هذه المدينة المنورة بأنوار النبوة ،والمباركة ببركات النبوة ،إذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالبركة في مدها وصاعها وبرها ،ومن كرم الله عليَّ أنّه جعلني جارة من جيران الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، فرغم تنقلنا من دار إلى دار إلاَّ أننا لم نكن نخرج عن محيط المسجد النبوي الشريف، فكنتُ عندما أمشي على أرضها فأكون قد مشيتُ على الأرض التي مشى عليها خير خلق الله ،وصحابته رضوان الله عليهم ،وعندما استنشقُ هواءها فاستنشقُ الهواء الذي استنشقه خير خلق الله ،وعندما أشربُ ماءها ،فأشرب من الماء الذي ارتوى به خير خلق الله ،وعندما أسمع أذان الصلوات الخمس فأسمعه من مآذن الحرم النبوي الشريف من المكان الذي كان ينطلق منه صوت سيدنا بلال رضي الله عنه مؤذن سول الله ،والذي لا تزال أصداؤه تردد في أجواء السماء ، فأي نعيم وهناء الذي عشتُ ونعمتُ به ! هذا عن المدينة التي ولدتُ ونشأتُ وتربيتُ فيها، أمَّا عن تاريخ مولدي فصدقوني لم أعرفه بالضبط ،لأنَّ الفترة التي ولدتُ فيها لم تكن هناك أهمية لاستخراج شهادات ميلاد ،ولذا لم يسجلني والدي أنا وأخواتي في حفيظة نفوسه إلاَّ عندما تقدم ثلاثتنا إلى امتحان الشهادة الابتدائية ،وكان اسمي أول اسم يسجله ،وبذلك كنتُ الابنة الكبرى ،مع أنّ ترتيبي كان ثالث أخواتي البنات ،وعندما أخذتُ أكتبُ استمارة الشهادة الابتدائية اكتشفتُ أنّني أكبر أخواتي ،فأخذ أبي ـ رحمه الله ـ حفيظة نفوسه وعدَّلها بأنَّ سجل عمري أصغر من أختي الكبريين. والآن سأعرفكم على أفراد أسرتي ،وسأبدأ برب الأسرة ،والدي رحمه الله. أبــي قد أحاطني الله بكرم وطوَّقني به عندما وهبني أبويْن صالحين بارين معطاءين ،فلقد كان والدي الشيخ زين العابدين بن محمد حمَّاد ـرحمه الله ـ ينتهي نسبه إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ،وهو من أسرة علم وفقه ودين ،فآل حمَّاد كانوا أئمة وخطباء في المسجد النبوي الشريف ،وكان منهم القضاة ،وعندما آل الحكم إلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـــ رحمه الله ـ رأى توحيد الإمامة في الحرمين الشريفين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ،ووالدي رحمه الله كان إماماً على المذهب الحنفي ،وكان أبي ـ رحمه الله ـ آخر أئمة وخطباء الحرم النبوي الشريف من آل حمَّاد ،ولا يزال آل حمَّاد لهم نصيب في وقف الأئمة والخطباء بالمدينة المنورة، وكان جدي لأبي الشيخ محمد حماد رحمه الله حافظًا لكتاب لله ، خطيبًا وامامًا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان خطيبًا مفوهًا بليغًا يهز مشاعر المسلمين في خطبه. وكان عالمًا جليلًا ويعتبر من كبار رجال الدولة العثمانية؛ اذ كان باش كاتب المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة ، وله اتصال بكبار رجال الدولة العثمانية ، وكان وكيلًا للوزير عزت باشا، وله اتصال بالسلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله. وحينما سافر الى الشام في سفر برلك أثناء الحرب العالمية الأولى استقبله كبار رجال الدولة في مدينة دمشق .. عاش رحمه الله في الفترة ما بين 1840 إلى 1917م ـ ولم يكن من أعيان المدينة المنورة فقط ، بل كان من أهم أعيان الدولة العثمانية ،وكان قائم مقام ،و يمشي في موكب كبير ، وبلغت شهرته العلمية مختلف الولايات العثمانية ، وكان له قصر بقرب الحرم النبوي الشريف بنى في وسط بستان تقدر مساحته بحوالي 12ألف متر مربع وهو قصر ” الفيروزية ” وقد أوقفه على ذريته وقد استفادت ذريته منه فائدة كبيرة، وكان أخوه أبو بكر قاضياً في جده، وأخوه عمر قاضياً في مكة المكرمة ،وكان والدي آخر علماء آل حمَّاد بعدما توحدت الإمامة على المذهب الحنبلي ،وكان والدي من علماء المدينة المنورة وفقهائها الذين تخرجَّوا من الجامعة الكبرى “الحرم النبوي الشريف”، وكان حافظًا فقيهًا ومحدثًا،وعالماً بعلوم القرآن الكريم والحديث والفقه واللغة العربية والتاريخ ،وقد قضى جُلَّ حياته في خدمة الإسلام ونشر الدعوة ،حيث أتمَّ حفظ القرآن الكريم وهو في سن التاسعة من عمره ،واستطاع أن يؤم الناس في صلاة التراويح بالمسجد النبوي الشريف وهو في سن الثانية عشرة من عمره ،وقد حفظ القرآن الكريم على عدة قراءات، وتتلمذ على عدة مشايخ في المسجد النبوي الشريف وتفوق على أساتذته ،منهم فضيلة الشيخ إبراهيم بري ،وفضيلة الشيخ عارف بري ،وفضيلة الشيخ عبد القادر بري ،وفضيلة الشيخ صالح بري ،وفضيلة الشيخ ملا سفر ،وفضيلة الشيخ عبد الجليل مدني ،وفضيلة الشيخ زين العابدين مدني ، وفضيلة الشيخ عبد القادر شلبي ،وفضيلة الشيخ أحمد بساطي، وفضيلة الشيخ أحمد كماخي ،وفضيلة الشيخ عمر كردي ،وفضيلة الشيخ السيد زكي برزنجي ،وفضيلة الشيخ عبد الباقي الهندي، وهؤلاء أشهر وأكبر علماء المدينة المنورة في تلك الفترة. وكان زاهداً متقشفاً لم يجر وراء الأضواء ،ولم يكن من طلاَّب المناصب ،عُرض عليه القضاء أكثر من مرة ورفضه ؛إذ كان يخشى أن يكون أحد القاضيين في النار ،لقد أمضى والدي ـ رحمه الله ـ أكثر من ثلاثين عاماً في الدعوة في بلادي الهند والسند ،و أسلم على يديه الكثير ، وحفظوا على يديه القرآن الكريم وتعلموا منه أمور دينهم ،وكان لديه قارباً يعيش فيه ويتنقل به ، وفيه مكتبته ، وكان يتنقل من قرية إلى أخرى ،ومن بلد إلى بلد ،حتى أنَّه كان يأكل الطعام مستخدماً ورق الموز بدلاً من الآنية ،ويستخدم صحون الطين لوضع شربة العدس أو العدس فيها ،وكان يقضي أياماً طويلة في ظروف صعبة . وكانت والدتي رحمها الله تساعده على الإحسان لحجاج بيت الله الحرام القادمين إليه من شبه القارة الهندية ،إذ كانت تقوم بإعداد الطعام لمن ينزل منهم ضيوفاً عنده ، وقد ذهبت إلى بيت والدها عندما سافر إلى الهند ، فبعد زواجها منها بعدة أشهر قام برحلته الأخيرة إلى الهند ،وتركها حاملاً في أخي سامي الابن البكر لأمي ؛إذ كان والدي متزوجاً من ابنة عمه قبل زواجه بأمي ،وكان لديه أولاد وبنات منها ،ولكنها توفيت هي وجميع أولاده منها رحمهم الله جميعاً بحمى التيوفئيد التي نجا منها والدي رحمه الله ،عندما أصيب بها في دمشق ، فأصبحت لديه مناعة من هذا المرض ، فتزوج أمي ،وقد كان فارق السن بين أبي وأمي كبيرًا ، وكان خالي الشيخ صلاح الدين عبد الجوَّاد ـ رحمه الله ـ معترضاً على زواج أبي بأمي لفارق السن بينهما ،ولكن جدي يوسف حمزة عبد الجوَّاد ـ رحمه الله ـ قد أصرَّ على إتمام هذا الزواج ،لأنَّه عرف والدي عن قرب ؛إذ كان والدي تاجر قماش ،وكان متجره قرب متجر جدي الذي كان يتاجر بالقماش أيضاً ،وبعد زواج أبي وأمي قام أبي برحلته الأخيرة للهند ،وكان برفقته في هذه الرحلة خالي الشيخ صلاح الدين ــ رحمه الله ــ الذي ذهب إلى الهند للتجارة ،وكان في حاجة إلى رفقة أبي ـرحمه الله ـ لأنَّه يعرف البلاد وأهلها ولغاتهم ،وفي السفر تظهر معادن النَّاس ،وبعد معاشرة خالي لأبي في هذه الرحلة التي دامت ثلاث سنوات ،أصبح والدي من أعزَّ النَّاس لدى خالي ،وموضع ثقته ؛ إذ وجده يتصف بصفات نبيلة بندر وجودها، وكان خالي رحمه الله يروي لنا هذه القصة ،وقد وفق الله خالي في تجارته ، وأصبح من أكبر التجار في جدة حيث استقر فيها ، وعُرضت عليه مناصب كبرى ،ولكنه آثر الأعمال الحُرّة، وأصبح من أغنى أغنياء جدة . وكانت رحلات والدي إلى الهند متقطعة ،فالثلاثين سنة التي قضاها في الهند لم تكن متواصلة ،وإنَّما كانت متقطعة ،حيث كان يسافر سنوات عديدة ثمّ يعود إلى المدينة ،ويستقر في المدينة المنورة سنوات ثمّ يكر راجعاً إلى الهند ،وهكذا فإنّ عدد السنين التي قضاها في الهند حسب ما كان يقوله لنا حوالي ثلاثين عاماً. وكانت الفتوى المختومة بختمه يسير عليها المسلمون في الهند ،وكان يتحدث الأردية ،ومن أحاديثه لنا عن ذكرياته هناك أنَّ أحد منافسيه حاجة في مسألة فقهية ،وقد نسي والدي اسم المرجع الذي استند عليه ،وأعطي مهلة يوماً واحداً ليأتي باسم المصدر والصفحة الوارد فيها تلك المسألة الفقهية ،وابتهل والدي إلى الله عزَّ وجل أن يذكره بالمصدر ،ونام ورأى والده في المنام يقول له : “يا عابدين تجد المسألة كذا في حاشية ابن عابدين في صفحة كذا” ،فهبَّ والدي مستيقظاً ،وأخذ كتاب حاشية ابن عابدين ،فوجد المسألة الفقهية في الجزء والصفحة الذين ذكرهما له والده في المنام. كانت علاقة والدي رحمه الله بوالده جد وثيقة ، وكان جدي الشيخ محمد حمَّاد ـ رحمه الله ـ كاتب عدل في محكمة المدينة ،وكان عالمًا كبيرًا، ومعروفًا في الدول المجاورة بعلمه ،ويحكي لنا والدي ـ رحمه الله ـ أنَّه سافر مع والده إلى الشام أيام “سفر برلك” ،وحدث أن مرض والدي بحمى التيفوئيد ،وأحضر له جدي طبيبًا لعلاجه ،وحينما حضر الطبيب قال له : إنَّ الحمى شديدة ،ولا يمكن علاجه لأنَّه سيموت قريباً ،فما كاد أن يسمع جدي بذلك توجَّه إلى القبلة ،وأخذ يصلي ويدعو الله ويقول : “يا رب إنَّي وهبتُ عمري لولدي ،يا رب إنَّي لا أريد أن أعيش وابني الحافظ العالم يموت أمامي ،إنَّي وهبتُ عمري له.” وكان والدي في غيبوبة يفيق منها في لحظات ،ثُمَّ تعود إليه تلك الغيبوبة ،وقد سمع دعاء والده في لحظات الإفاقة ،وبعد ساعات آفاق والدي ،وطلب الطعام فأكل وشفي ،وبعدها بأيام توفي جدي في مدينة دمشق ودفن بحي المهاجرين بها، وكان والدي دائماً يقول : “أنا عائش بعمر والدي “لذا عندما مرض مرضه الأخير حيث أصيب بفشل كلوي ،وقررنا علاجه خارج المملكة رفض أن يسافر خارج المملكة ،إلاَّ إذا كانت وجهة الرحلة إلى دمشق حيثُ قبر والده ،ليتمكن من زيارته . وكان والدي رحمه الله مجيداً للغة العربية ،ولا سيما علم النحو حيث كان يحفظ ألفية ابن مالك ،ويعرف شرحها بإتقان ،إذ درس شرح ابن عقيل ،ومعظم شروح ألفية ابن مالك ،وكان يحفظ الكثير من الشعر . قضى حياته في المدينة المنورة في خدمة حجاج بيت الله الحرام وزوَّار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ،وعلى الأخص الحجاج التابعين لآل حمَّاد ،حيث كانت التقارير في تلك الأيام معروفة ،فكان تقرير آل حمَّاد يشمل مدنًا من الهند والباكستان ،فكان هو وأخوه الشيخ عبد الحفيظ حمَّاد يقومان بتوفير احتياجات حجَّاج بيت الله لحرام وزوار مسجد رسول الله صلى لله عليه وسلم ،وقد تمسَّك والدي بهذه المهنة ،وكان أحد أعضاء هيئة الأدلاء بالمدينة المنورة . وقضى معظم حياته في المدينة المنورة ناسكًا متعبدًا حيث كان في صلاته للتراويح يقرأ المصحف كاملًا في كل ليلة ،وبهذا فكان يختم ثلاثين مصحفاً في كل رمضان ،ولمَّا تقدمت به السن أخذ يقصر في صلاة التراويح حتى أضحى يصلي ويختم مصحفاً واحداً في رمضان إلاَّ أنَّ القرآن دائمًا على شفتيه يقرأه في لحظات صمته ،وكنَّا عندما نريد التحدث إليه ،ويكون يتلو القرآن في سرِّه يشير إلينا بالسكوت ،فكنَّا نعرف أنَّه يتلو القرآن ،فإذا ما فرغ من تلاوته يشير إلينا بالتحدث، وكان يومياً يختم القرآن نظراً ،وكان يقرأه في ست ساعات ،وذلك ليثبِّت حفظه بعدما بدأ يتفلت منه بحكم كبر السن. كان والدي رحمه الله خفيف الظل يدخل في مجلسه البهجة والسرور ،فكان إذا جلس في مجلس لا يمل مجلسه ،فنجده تارة يتجه إلى الوعظ ،وتارة إلى الإرشاد ،وتارة ثالثة إلى التعريف بكتاب الله ،وتارة يتجه إلى سرد بعض الأحداث التاريخية في مختلف العصور وكان يحدثنا في السيرة النبوية عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وصفاته وعن غزواته صلى الله عليه سلم ،وكان يصحبنا إلى مواقع بعض الغزوات ،كموقع غزوة أحد ،ويشرح لنا كيف انتهز خالد بن الوليد ـوكان ذلك قبل إسلامه ؛ إذ كان في جيش كفار قريش ـ فرصة نزول الرماة من جبل الرماة ليأخذوا المغانم حيث تحول النصر إلى هزيمة بمخالفتهم لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ،كما كان يأخذنا إلى الخندق قبل طمسه وتعبيده بالأسفلت ويشرح لنا على الطبيعة أحداث غزوة الخندق ” الأحزاب”، كما كان يحدثنا عن مجالس الخلفاء ،وما يحدث فيها من مناظرات ،ومن مواقف بعض العلماء مع الخلفاء ،كما كان يحدثنا عن القضاة ،ومواقف بعض القضاة من الخلفاء في القضايا التي ترفع ضدهم، وكان معجبًا بشخصية محمود الغزنوي ،وكيف نسخ المصحف كاملاً بخط يده ،وقد رأيتُ هذه النسخة في مكتبة الشيخ حسن بن علي آل ثاني في قطر، وكان والدي معجباً أيضًا بشخصية فاتح بلاد السند ،وفاتح القسطنطينية محمد الفاتح. وكان والدي رحمه الله معروفًا بين أصحابه وأهله بالأحاجي والألغاز ،وكان معظمها يدور حول القرآن الكريم كما كانت لديه فوازير مسلية لا يمل الفرد من سماعها ،حيث كانت يتصل بعضها بالحساب وبعضها في اختبارات في الذكاء ،وكان رحمه الله كثير البر والإحسان محباً للخير ،ساعياً فيه يحب الإصلاح بين النَّاس. كان والدي ـ رحمه لله ـ متخلقًا بأخلاق القرآن الكريم ،وكان يعاملني أنا وأخواتي البنات الثلاث مثل ما يعامل أخانا الوحيد ،لم يفرِّق بين ولد وبنت ،كان يحترمنا نحن بناته ،ويأخذ آراءنا ويستشيرنا في الأمور المتعلقة بنا ،ولم يفرض علينا رأيًا قط ،أعطانا حق اتخاذ القرار وأعدَّنا لذلك ،كان رحمه الله ينظر إلينا نظرة الإسلام للمرأة ،ولم يقصِّر في أي حقٍ من حقوقنا ،كان حريصًا عل تعليمي أنا وأخواتي ،وأنفق مالاً كثيراً عل تعليمنا ؛إذ تلقيتُ تعليمي في المراحل المتوسطة والثانوية والجامعية في المنزل ، وكان والدي يحضر لنا الأساتذة ،وكان يصر على أن نتلقى العلم على يد أساتذة ،وكان يسافر معي وأختي سهام إلى الرياض لأداء الامتحان في جامعة الملك سعود قبل موعد الامتحان بأكثر من شهر ،لأنَّ المحاضرات لم تكن تصلنا بانتظام ،إذ كنَّا ندرس بالانتساب ،وكان ابن خالي أسعد و اسمه محمد صالح يدرس في قسم تاريخ بجامعة الملك سعود ، وكان يسبقني أنا وأختي سهام بسنة ، وكان يتولى إرسال لنا المحاضرات ، ولمّا تخرّج من الجامعة اتفق من أحد الطلبة في السنة الرابعة في قسم التاريخ ، وكان اسمه ” عبد الله القحطاني ” ليرسل لنا المحاضرات ، ولمّا كان الأساتذة في قسم التاريخ يتغيرون في السنة أكثر من مرة ، وكان كل ما يأتي أستاذ جديد يلغي المحاضرات السابقة ، ويقرر محاضرات أخرى ، فلم يتمكن الطالب من الانتظام في إرسال المحاضرات ، فاضطررنا السفر إلى الرياض قبل الامتحان بشهرين لنتمكن من الحصول على المحاضرات فور إصدارها ، وعندما ذهب والدي ــ رحمه الله ـ إلى بيت الطالب ليأخذ منه المحاضرات ليصورها ، ويعيدها إليه ، ولكن هذا الطالب أشفق على أبي لكبر سنه ، وقال له ” أنا آت إليك ” ،وأصبح ــ جزاه الله خير الجزاء ـــ يأتي إلى أبي في الفندق ،ويسلمه المحاضرات أولًا بأول . كان أبي حريصًا على وقتينا فكان عندما يوصلنا إلى لجنة لامتحان ينتظرنا عند الباب الخارجي ثلاث ساعات هي مدة الامتحان ليصحبنا إلى الفندق فور انتهائنا من الامتحان ؛ إذ كان يخشى أن يتأخر علينا في العودة ، أو ينام فيأخذه النوم ،وكان حنوناً علينا ، ؛إذ كان يقرأ علينا سورة ياسين ،وبعض الآيات القرآنية قبل ذهابنا إلى الامتحان ،بل كان يضع العباءة على رأسي ،كان يحيطنا بحب وحنان ورعاية فائقة وكبيرة ،وكنتُ شديدة التعلق به والتأثر به ،إذ كانت تربطني به علاقة بنوة وصداقة حميمتين ،وكان يحبني أكثر إخوتي، ولكن لم يكن يصرِّح لهم بذلك ،ويناديني بِ ” يا أم أبيكِ” . أمَّا عن تعامله مع أخي سامي ،فلا أنسى موقفه عندما تخرَّج أخي من الجامعة ،وهو الابن الوحيد لديه ،وكان أبي كبير السن في السبعينيات من عمره ،وكان في أمس الحاجة إلى وجود أخي بجانبه ،ولكنه لم يطلب منه أن يعمل في المدينة المنورة ،وتركه يختار البلد التي يعمل فيها ،واختار أخي جدة حيث عُيِّن في الخطوط السعودية ،وبعد ست سنوات استقال من الخطوط السعودية ،وكان عمي عبد الحفيظ ـ رحمه الله ـ يقول له : “لماذا جعلت سامي يتوظف في جدة ،وأنت في حاجة إلى وجوده معك “،فقال له والدي : ” لا أريد أن يأتي يوم يقول فيه إنَّ أبي وقف في طريق مستقبلي وحرمني من ارتقاء منصب كذا وكذا ” وبعد ست سنوات استقال أخي سامي من الخطوط السعودية ،وأتى المدينة ،وفتح متجراً ليعمل فيه خلال عام ،حيثُ لا يستطيع أن يتوظف ثانية إلاَّ بعد مضي عام على استقالته ،وكان أمام أخي منصبًا كبيرًا في شركة أرامكو في الظهران ،ولكن أبي لم يطلب من أخي سامي البقاء في المدينة ،وشاء الله أن يرى أخي سامي أبي حاملاً “زنبيل المقاضي ” بكلتا يديه المرتعشتين ،ففلت من يديه ” الزنبيل ” ؛وإذ بالخضار واللحم تبعثروا في الأرض ،فقال له أخي سامي : – يا أبي كيف تقول لي أذهب وفقك الله وأنت في أمس الحاجة إليَّ، فلماذا لم تطلب مني أن أبقى معك ؟ -فردَّ عليه والدي قائلاً : ” إذا ردت أن تمكث أنت باختيار نفسك فهذا ما أتمناه ،ولكن لا أريد أن أجبرك ” -فقال له أخي : ” لماذا يا والدي لم تجبرني ؟ -فقال له : إذا متُ غداً سوف تقول أبي هو الذي أجبرني أن أمكث في المدينة ،ولو أطلق لي الفرص لكنتُ اليوم في المنصب الفلاني ،أو المنصب الفلاني ،فلا أريد أن أكون حجر عثرة أمامك. -فقال له أخي : لا أريد أن أكون في منصب كبير أو حتى وزير ،وإنَّما أريد أن آخذ رضاك. فقال له والدي : إذا أردت أن تبقى فابق . فآثر أخي أن يبقى في المدينة ،وتوظف في وزارة المالية في المدينة ،وقبل عدة سنوات أخذ تقاعد مبكر ،وفتح مكتبة ودار نشر في المدينة . وقد توفي والدي رحمه الله في الثامن والعشرين من شوال عام 1395هـ عن عمر يناهز الأربع والثمانين عاماً ،ودفن بالبقيع في المدينة المنورة. ******* أمــي مدنية الأسرة والمولد والنشأة ،وهي أنصارية ؛إذ يعود نسب آل عبد الجواد إلى الأنصار ،وأمها فاطمة من آل زاهد، وجدها كان معلمًا لابن حد سلاطين الدولة العثمانية ، وعندما أتم تعليمه بتفوق عرض عليه السلطان أن يطلب منه ما يريد ، فقال له : ” أريد شعرة من شعرات الرسول ،والهجرة إلى المدينة المنورة ” فلقب ب ” زاهد” أي زاهد الدنيا ، لأنه لم يطلب مطلبًا دنيويًا ،لا مالًا ولا جاهًا ولا منصبًا ، وجدة أمي لأمها سورية الأصل من ” آل تقي الدين” وكانت أمي ـ رحمها الله ـ شديدة التعلق بأمها ،فكانت تذهبُ إلى الكتَّاب وتبكي تريد العودة إلى البيت لكي لا تفارق أمها ،فلم تتعلم القراءة والكتابة ،وكأنَّ قلبها قد حسَّ بأنَّ أمها سوف تغادر الدنيا مبكراً ،إذ توفيت وهي شابة ،وعندما توفيت جدتي كانت أمي أكبر أخواتها البنات، إذ توفيت الأخت الكبرى “نفيسة” وهي حامل بضربة من زوجها ولها أربعة أولاد، ولدان وبنتان ، وسامحه جدي وجدتي ، وقد تقدم زوج خالتي المتوفية لخطبة أمي، وكانت جد صغيرة ،وليست في سن الزواج ،فقالت له جدتي رافضة طلبه : -لستُ على استعداد أن أفقد ابنتي الثانية ،فكفاني فقدي لنفيسة. وقد أسمى زوج خالتي حفيدته من ابنة خالتي باسم أمي . وكانت أمي أصغر من أخوانها الذكور وهم بالترتيب : شفيق ،وأسعد ،وعبد العزيز ، وصلاح الدين ،وكانت أمي شبه خالي صلاح في الشكل ،وكأنهما توأمان ،وكانت أمي جميلة الجميلات، وجهها مضيئاً وضاءً ،وكان صوتهاً جميلًا ،وتحمَّلت أمي مسؤولية البيت ،وأخواتها البنات . وكانت سيدة فاضلة مؤمنة شديدة الإيمان بالله ،ضربت أروع الأمثال في التضحية والإيثار وإنكار الذَّات ،عكفت على تربيتنا ،ولم تتطلع إلى الزيارات والسهرات والحفلات ،إذ آثرت البقاء في بيتها مع أولادها على كل ذلك ،وكانت ربة بيت من الطراز الأول ،نظيفة في نفسها وملبسها وبيتها ،ورغم مرضها فكانت تقوم بأعمال المنزل ،وكانت تجيد الطهي ،وكانت كل ما تطبخه لذيذاً ،لم أذكر قط أنَّ أمي لم توفق في طبخ أي صنف من أصناف الطعام ، وكانت أمي مدبرة من غير بخل تكره الإسراف والتبذير ،في الوقت ذاته كانت كريمة مضيافة ،وكان لا يأتينا زائر من الأهل والأقارب ،إلاّ وتجعلنا نعد له مائدة من الطعام فيها ما تشتهيه الأنفس . لقد وقفت مع والدي في المحن والشدائد ،وشيَّدت معه البيت الذي كان يأوينا ،وقد قدَّمت لأبي كل حليها ومجوهراتها ،وكذا حلينا ليبيعها، ويكمل بثمنها بناء البيت. وكانت تجل أبي وتحبه وتحترمه رغم أنَّ فارق السن كبير بينهما ؛إذ كان أبي يكبرها بحوالي خمس وعشرين عاماً ،وكانت دائما تخاطبه بصيغة الجمع احتراماً له ،فلم أكن أسمعها تقول لأبي ” أنت ” ،كانت دائما تقول له ” إنتو ” أي ” أنتم” . وكانت حريصة كل الحرص على تعليمي أنا وأخواتي ،وهي التي خطت الخطوة الأولى في تعليمنا . كانت أمي تحترم أهل أبي أيضًا وتكرمهم ،فكان الجميع يشيد بطيبتها وكريم خلقها ،وكانت بارة بوالديها ،لم يُقدر لي أن أرى جدتي لوالدتي ؛ إذ توفيت وأمي لم تتزوج بعد ،ولكنني أدركتُ جدي يوسف رحمه الله ،فكان جدي يفضلها على جميع بناته ،حتى زوجه ـ رحمها الله ـ كانت تحب أمي أكثر من خالاتي جميعهن ،وكانت تشيد بحسن خلق أمي ،وحسن معاملتها لها ،وكانت أمي ـ رحمها الله ـ تحترم زوجة أبيها ،وتقول يكفي أنَّها تخدم أبي وترعاه وهو في هذه السن المتقدمة ؛ إذ كانت في سن بناته . كانت متدينة ذات قلب مؤمن شفَّاف أبيض طاهر ،تكره النفاق والكذب والنميمة ،وإذا غضبت من شخص تواجهه في وجهه ،ولا تتحدث من ورائه ،وكانت شديدة الذكاء لمَّاحة ،وكانت مهتمة بأحوال الأمة الإسلامية وقضاياها ، تتبع الأحداث من نشرات الأخبار التي يبثها التلفاز ،وكانت تفهم ما تسمعه ،وتتناقش في القضايا السياسية مع كبار المثقفين ،وكأنَّها متعلمة مع أنَّها أمية لا تقرأ ،ولا تكتب ،وكانت ناقدتي الأولى لكتاباتي ،فكنتُ قبل أن أبعث أية مقالة للنشر أقرؤها على أمي رحمها الله ،وكنتُ أعرف رأيها من خلال انطباعاتها ،وأنا أقرأ لها ،فإن أعجبها ما أكتبه انهمرت من عينيها الدموع فرحاً ،وإذا كانت لديها رؤية في إجراء بعض التعديلات ،فكانت تقول لي: – قولي كذا وكذا ،أو تقول لي : – أضيفي إلى ما قلته “كذا ” لتتضح الفكرة. – فكنتُ كثيراً ما أخذه برأيها، وكانت تحفظ الكثير من سور القرآن الكريم ،وكانت حريصة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها ،وكانت تبكي بدموعها ،إذا فاتتها صلاة الفجر، وكانت بعد صلاة الفجر تُسبِّح وتذكر الله حتى تشرق الشمس ،ثُمَّ تصلي صلاة الضحى ،وتنام ،وكانت كثيرة الذكر لله ،وفُتِحتْ لها أبواب السماء في إحدى ليالي القَدْر ،امتحنها الله بمرض لازمها سنين طويلة أكثر من ثلاثين عاماً ، فصبرت وحمدت الله حتى لاقت ربها الكريم في القاهرة ،وهي متوضئة ومستقبلة القبلة لتؤدي فجر الجمعة الثالث من ربيع الأول سنة 1414هـ ،أي بعد وفاة أبي بتسعة عشر عاماً، ودفنت جوار أبي في البقيع ،وكنتُ شديدة التعلق والتأثر بها ،وقد ماتت أمي وهي بين يدي أنا وأختي سهام؛ إذ كنا نحن فقط معها ،وكلانا آثر البقاء معها ،وعدم تركها ،وكدتُ أفقد النطق ،إذ أُصبتُ بخرس مؤقت ،وكنت لعدة أيام لم أستطع أتلقى العزاء فيها عن طريق الهاتف ،إذ كان الكلام يحبس في فمي ،ولم أستطع أتفوه به، وبفقدها شعرتُ باليتم وأنَّي قد تبعثرت ،ولم أستطع لملمة شتات نفسي بعد. في هذا البيت المؤمن الطاهر الذي يعبق بشذى الإيمان ،وفي حضن هذيْن الأبويْن المؤمنين الحبيبيْن الجليليْن نشأت وتربيت، إذ أشبعاني حباً وحناناً ،وتربيتُ على مبادئ وقيم إسلامية آمنت بها كل الإيمان ؛إذ عاشرتُ من امتثل بها كل الامتثال ،فكتبتُ ما كتبته عن عقيدة وإيمان صادقيْن راسخيْن عن الدين الإسلامي وقيمه ومبادئه وتعاليمه، وساءني عدم التزام المرأة المسلمة بهذا الدين الالتزام الأمثل ،والتأثر بالمرأة الغربية ، و ما يسود المجتمعات الإسلامية من فساد ،فرأيتُ أن أجاهد بفكري وبقلمي في سبيل الإسهام في إصلاح المجتمع المسلم ،وأصبحت الكتابة بالنسبة لي رسالة ،وجاهدتُ في نشر حفظ كتاب الله بين نساء الإسلام ،لأنَّني أردتُ أن تتخلق نساء الإسلام بأخلاق القرآن الكريم ،فحفظ القرآن الكريم خير مقوِّم للسلوك الإنساني ،إنَّه مقوِّم تلقائي من يحفظه يقوِّم نفسه بنفسه ،فإذا ما بدر منه تصرفاً لا يليق بحافظ كتاب الله يقلع عن ذاك التصرف حتى ولو كان عادة متأصلة فيه ، وكانت أمي رحمها الله خير مثل لي للأمومة في أجلِّ صورها ،والزوجية في أروع معانيها ،والبنوة في أعظم روابطها. كما كان لنشأتي في المدينة المنورة أثر كبير في نفسي ؛إذ نشأتُ في بيت لا يبعد عن المسجد النبوي الشريف بضع خطوات ،وأسمع الأذان ينطلق من مآذنه ،بل حتى الصلاة كنتُ أسمعها من دارنا الواقعة في شارع أبي ذر أمام فندق الجزيرة ،وكان صوت الإمام عبد العزيز بن صالح ـ رحمه الله ـ وهو يصلي الصلاة الجهرية ،ولا سيما صلاة الفجر ،وصلاة التراويح ،وصلاة التهجد في رمضان أثر بالغ في نفسي ،وشعوري وأنا أمشي على الأرض التي مشى عليها خير الأنام صلى الله عليه وسلم وصحبه ونساؤه رضوان الله عليهم أجمعين ،واستنشق الهواء الذي استنشقوه ،بل أحياناً كثيرة كنتُ عندما أكتب في الليل ،وتهبُّ عليَّ نسائم الفجر أشم روائح بخور العود التي كانت تنطلق من الروضة الشريفة ،وكنتُ أتخيل ساعتها كيف كانت أصداء صوت سيدنا بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم تتردد في الأجواء ،وهو يؤذن لصلاة الفجر ،فكانت تنتابني أحاسيس ومشاعر يعجز القلم عن وصفها ،ولكن أثر كل ذلك كان ينعكس على كتاباتي. كما كان لمجتمع المدينة المنورة أثر كبير في نفسي على شخصيتي ،فهذا المجتمع الطيب المعطاء المؤمن البسيط المسالم ،يتميز أهله بالطيبة التي يشهد لها الجميع ،كما يتميزون بالبساطة والتواضع والقناعة والتآلف ، لم تتحكم فيهم الماديات ،ولم تسيطر على سلوكياتهم. مجتمع كله إيمان وبركة في وقته ،وبركة في رزقه ، وبركة في معيشته ،فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة بالبركة في مدهم وصاعهم وبرهم . في هذه البيئة المؤمنة ،وفي هذا المجتمع الخير الطيب نشأت وتربيت وتلقيت تعاليم ديني على مذهب أهل السنة والجماعة ،فأنا أؤمن أنَّ الدين الإسلامي دين واضح الحلال فيه بيِّن والحرام فيه بيِّن ،ولا حاجة له إلى تكتلات حزبية ومذهبية ، ولا إلى تكوين جماعات ذات مسميات تتسمى باسم الدين ،وعلينا نحن كمسلمين أن نسير جميعاً على نهج رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ،فلم يكن في عهده هذه الأحزاب وهذه الجماعات بما فيها الصوفية الملحدة التي ظهرت في أوائل القرن الثاني الهجري ،لقد جنَّدتُ قلمي وفكري للتصدي لهذه الفرق والجماعات وعقائدها ومنابع فكرها ،وحقيقة أهدافها ،ومن هم وراءها لتبصير الناس بمخاطرها حماية لهم من الوقوع في براثنها. *** ** طفولة سعيدة كــانــت أسعد مراحل حياتي هي مرحلة الطفولة ،سن ما قبل المدرسة بصورة خاصة ،عندما أرى أطفال هذا الجيل أشفق عليهم ،إنَّهم يمضون معظم أوقاتهم داخل علب صغيرة تسمى شقق ،ذلك لأنَّني عشتُ في طفولتي في بيوت واسعة وحدائق غنَّاء ،ألهو وألعب وأمرح وأسبح وأتسلق النخيل والأشجار ،كانت أيام بحق كلها سعادة وحبور ؛ إذ عشتُ في كنف والديْن سعيديْن يحب كل منهما الآخر ،ويحترمه ،ولي أخ واحد وثلاث أخوات جميعنا أشقاء ،فلم يتزوج أبي على أمي رغم مرضها ،وظلَّ سعيداً معها حتى وافته المنية ،وترتيبي بين أخوتي الرابعة ،عفواً الخامسة فقد كان لي أخ اسمه فؤاد كان ترتيبه الثاني بعد أخي سامي ،ولكن فؤاد توفاه الله وهو ابن عشرين يوماً ،فأخي سامي أكبرنا وهو حاصل على شهادة بكالوريوس آداب قسم جغرافيا من جامعة الملك سعود بالرياض ،وهو الآن يمتلك مكتبة كبيرة في المدينة المنورة ، ودار نشر ، هي دار الفجر الإسلامية التي أصدرت لي كتاب ” إحسان عبد القدوس بين العلمانية والفرويدية ،وعاكف على إصدار موسوعة الإدارة في الإسلام ،وهي من تأليفه وقد أصدر منها أكثر من ستة أجزاء، وتصل إلى حوالي أربعة عشر جزءاً ،كما صدر له مؤلفاً في علم الإدارة. أمَّا شقيقاتي : فشقيقتى الكبرى سميحة تزوجت بعد حصولها على الشهادة الثانوية ،وأتمت دراستها الجامعية في الولايات المتحدة الأمريكية ،وقد تفوقت على جميع زميلاتها الأمريكيات ،إذ التحقت بجامعة للبنات ،ولكنها لم تعمل ،وآثرت أن تتفرغ لبيتها وزوجها وتربية أطفالها، أمَّا زوجها فهو: الأستاذ الدكتور محمود إسماعيل صالح ،أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة الملك سعود، مؤسس معهد تعليم اللغة لعربية لغير الناطقين بها بجامعة الملك سعود بالرياض ،وقد أسهم في وضع وتأليف مناهجه ،وكان مديراً لهذا المعهد، ومؤلفاته في هذا المجال تدرس في معظم معاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في مختلف بلاد العالم ،كما هو مؤسس مركز الترجمة بجامعة الملك سعود بالرياض ،وكان مديراً لهذا المركز، وأيضاً أسهم في مشروع بنك المصطلحات العالمية ” بَاسِم ” الذي تبنته مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وأشرف على الموسوعة العلمية التي أصدرها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ، كما له نشاط في الدعوة ونشر الإسلام عندما كان يحضر الماجستير والدكتوراة في جامعة جورج تاون في واشنطن ،وكان له نشاطاً ملموساً في المركز الإسلامي في واشنطن آنذاك. . وشقيقتي سهام حافظة لكتاب الله ،ومعها بكالوريوس آداب قسم تاريخ مثلي ،فأنا وهي واصلنا الدراسة معاً في نفس التخصص ،وكانت الأولى على دفعتها بنين وبنات ،وقد حصلت على البكالوريوس بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف ،وتوظفت سنتين ثمّ استقالت ؛إذ آثرت البقاء مع أمي لرعايتها، وحفظت كتاب الله ،وبعد وفاة والدتي ـ رحمها الله ـ التحقت معي بجامعة الأزهر، وحصلنا معاً على ما يعادل دبلوم دراسات عليا بتقدير ممتاز. وشقيقتي الصغرى عُريْنة ،وهي حاصلة على شهادة الثانوية العامة ،وتزوجت ،وسافرت مع زوجها إلى بولدر بولاية كلورادو بالولايات المتحدة الأمريكية حيث كان زوجها يحضر الدكتوراة في علم الاقتصاد ،وحصلت على بعض الكورسات ،وعندما أنجبت آثرت التفرغ لتربية ابنتها ،فلم تكمل دراستها الجامعية ،ثُمّ أنجبت بنتً أخرى ، أمَّا زوجها فهو الدكتور عبد العزيز أديب طاهر ،كان أستاذًا في جامعة الملك سعود ، ثم أصبح وكيلًا مساعدًا بوزارة التخطيط والاقتصاد، والآن مستشارًا بوزارة التخطيط والاقتصاد. هؤلاء إخوتي حدثتكم عنهم لتعرفوا أكثر عن الوسط والبيئة التي عشتُ وأعيش فيها ،وهم كانوا أصدقاء الطفولة ،فلم أعرف في طفولتي سوى إخوتي ،وكان أخينا سامي يكبرنا ،وفارق السن الذي بيننا وبينه ،كان يجعله يتولى مركز القيادة ،وكنا نتبعه ،ونصدقه في كل ما يقوله ،وكان يتلذذ بذلك ،وعندما نتذكر الآن ماذا كان يقول لنا نضحك على أنفسنا كيف كنا نصدقه ،من ذلك كان يقول لنا في ليالي القدر في رمضان ،وكنا نقضيه في ” بستان الفيروزية ” عندما تنشق السماء سوف يسجد كل النخيل والشجر، وكنَّا نسهر الليل ،ونصعد فوق سطح بيت الماكينة ” ـ ماكينة ضخ المياه ـ وأعيننا تطلع إلى السماء منتظرات لحظة سجود النخيل والأشجار ،وكان يقول لنا عندما نسمع الرعد ،ثمَّ تهطل الأمطار : ” إنَّ هذه براميل الماء عندما تتدحرج في السماء فيحدث صوت الرعد ،ثمَّ تقلب فتصب المطر . وقبل أن أحدثكم عن جوانب هامة في طفولتي سأصفُ لكم البيوت والأماكن التي عشتُ فيها ،وهي تعطي صورة عن النظام المعماري لبيوت المدينة المنورة التي أزيلت في مشروع توسعة الحرم النبوي الشريف الأخيرة ؛إذ أكرمني الله طوال حياتي السكنى بجوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه سلم حتى لحظة انتقالي إلى السكنى بالرياض ،فجميع البيوت التي سكنتها من قبل دخلت الآن في مشروع التوسعة ،وأزيلت وأصبحت مجرد ذكرى محفورة في ذاكرتي ،وفي عقلي الباطن ،ولا زلت أراها في منامي ،فأماكن سكناي ولهوي ولعبي لم يعد لها وجود على خريطة المدينة المنورة الحالية ،ولكنها محفورة في ذاكرتي . ما بين “الفيروزية” صيفاً وبيت “أمة الله” شتاءً ثمَّ إلى بيت “أبي ذر” كان من عادات أهل المدينة المنورة أن يقضوا فصل الصيف في البساتين ،ومعروف أنَّ المدينة المنورة مدينة زراعية ،وتتميز بكثرة بساتينها ،وكانت المدينة مصيفاً لأهل مكة المكرمة وجدة ،وكانت والدتي رحمها الله تحكي لي ولأخواتي ذلك ؛إذ كانت بعض الأسر المكية والجدَّاوية تقضي الصيف في المدينة المنورة. وكانت أسرتي تقضي الصيف في بستان ” الفيروزية” بباب المجيدي ،وكانت تمتد إلى صيادة ،وهي بستان أوقفها جدي الشيخ محمد حمَّاد ـ رحمه الله ـ على أولاده وبناته ،وذريات أولاده ليحصرها في آل حمَّاد ،فالبنتُ لها سهم واحد في حياتها ،ولا نصيب لأولادها لا في حياتها ولا بعد مماتها ،أمَّا الولد فله سهمان ،ولكل أولاده وبناته في حياته ،وبعد وفاته ،وكانت لجدي أملاك كثيرة في شارع العينية ،و كان آل حماد يملكون معظم كل شارع العينية ،وهو كان قرب الحرم النبوي الشريف ،وكانت إحدى أبواب الحرم، وهو ” باب السلام” ــ إن لم تخني الذاكرة يطل على شارع العينية ،وكان هذا الشارع يؤدي إلى المناخة، كما كانت لجدي أراض لا حصر لها من ضمنها حي الأزهري حاليًا وجبل” فتة ” في أول سلطانة، و”الحمادية ” التي أصبح اسمها فيما بعد “العُمرانية ” عندما بيعت لآل عمران ، وكانت له ممتلكات في سويقة التي تعرضت لحريق كبير أتى عليها ،ولم يوقف من ممتلكاته سوى الفيروزية ،أمَّا باقي ممتلكاته فبعضها باعها أعمامي بعد وفاته ،وبعضها تم الاستيلاء عليها من الآخرين بوضع اليد ،وإحياء الأراضي الموات، مثل مخطط الأزهري في سلطانة ، وتقدم والدي ــ رحمه الله ــ بدعوى للمحكمة لإثبات ملكية ورثة محمد حماد لهذا الحي ، المثبتة بصك الملكية ، ولكن الشيخ عبد العزيز بن صالح ـــ رحمه الله ــ رفض الدعوى بدعوى أن المستولي عليها أحياها إحياءً شرعيًا ،وأعلن عنها في الجريدة ، وكان الناس في تلك الأيام لا يطلعون على جرايد ، وكان والدي مشغولاً بالدعوة في بلادي الهند والسند ،وكان يغيب في سفراته ثلاث سنوات ،وكان زاهدًا جدًا، فلا تهمه الناحية المادية كثيرًا. كانت الفيروزية بستانًا كبيرًا يتوسطها قصر كبير يجمع في طرازه المعماري بين الطرازين الفارسي والتركي ؛فلقد أشترى جدي البستان والقصر من رجل فارسي يدعى “فيروز” ،وكان اسمها “باغ فيرزو ” أي بستان فيروز ،فعندما أشتراها جدي أطلق عليها “الفيرزوية” وقد استأجرت عمتي سعاد ـ رحمها الله ـ من الوقف قصر الفيرزوية ،وهي متزوجة من الشيخ عبد الجليل يماني ،وكان مؤذناً بالحرم النبوي الشريف ،بينما استأجر أبي ـ رحمه الله ـ البستان لولعه الشديد بالزراعة ،ولتعلقه بصورة خاصة بالفيرزوية ؛إذ كان هو ووالده يشرفان على الزراعة فيها ،فكان يريد دائماً أن يراها خضراء مثمرة ،وكانت أرضها غير خصبة ، وأنفق والدي مالًا كثيرًا لتغيير تربتها وتحويلها إلى تربة زراعية ، فكان والدي ينفق عليها ولا تنفق علينا ،فلقد كانت تشكل لديه شيئاً عزيزاً لا يقدر بمال ،إنَّها تمثل له ذكرى والده ،وكان يقول لي هذه النخلة ـويشير إلى نخلة ” الروتانا ” وكانت طويلة يصل ارتفاعها إلى ارتفاع القصر المكون من ثلاثة أدوار ،وملحق في الدور الرابع يسمى ” كُشْك” ـ قد زرعتها أنا وأبي رحمه الله ،وعندما باع أحد أعمامي جزءاً منها عندما كان والدي مسافراً في الهند ،ولمَّا عاد والدي من سفره وعلم بذلك استرد الجزء المباع من ماله الخاص وأعاده إلى وقف الفيروزية تنفيذاً لرغبة والده الذي أرادها أن تكون وقفًا لئلاَّ تباع ،وتظل متوارثة في أبنائه وذرياتهم ، وقد حال دون تحويلها إلى ملك عندما رفع ” كامل “ابن عمتي سعاد قضية في المحكمة لتحويلها إلى ملك ،وكان أبي ـ رحمه الله ـ ناظراً على هذا الوقف. اســتـراحــة الفــيروزيـة كان لبستان الفيروزية استراحة عبارة عن “دِيوَان ” متوسط المساحة ،وأمامه بركة صغيرة ،وكانت أرض “الديوان ” وممراته مرصوفة بالحجر تتخللها قنطرة تجري فيها الماء الذي يصب في البركة عبر شلاَّل ،وتستمر القنطرة في مجرى لها لتصل إلى البركة الكبرى الموجودة داخل القصر ،كما كان يوجد حمَّام للاستحمام فقط ليست به دورة مياه ـ إذ كانت توجد دورة مياه مستقلة بمستوى الأرض تحت “المطبخ” ـ ومن الحمَّام تمر القنطرة التي توصل المياه إلى بركة القصر وحديقته الداخلية ،كما توجد في جناح الديوان ” بَرزة ” صغيرة مسقوفة ومفتوحة من جانبين بلا باب ،وكانت والدتي رحمها الله ـ تستخدمها كمطبخ ،وكان هذا القسم مرتفعًا عن الأرض بحوالي متريْن ،إذ كنا نصعد إليه ببضع درجات . وكان يوجد على امتداد الديوان ،ولكن بمستوى الأرض غرفة تسمى ” مَقْعَد” متوسطة المساحة ،ولها نوافذ تطل على البستان ، ويمكن تستخدم كغرفة للنوم ،ولكننا كنا ننام حول البركة ؛لأنَّ الجو ألطف ؛إذ كنا نمد الأسرة عند النوم. وكان يلي ” المَقْعَد “سقيفة مستطيلة المساحة تبلغ مساحتها حوالي 10×5م لها نوافذ تطل على البستان ،وليس لها باب فهي ذات ثلاث جدران . أمَّا “المَقْعَد” فقد حدثت فيه حادثة أخرى شهدتها بعيني ، فلقد كان أخي صاحب أمزجة متقلبة ،فأحيانًا يشتري غزالًا رضيعًا ويعتني به ، ثمَّ فجأة نجده يشتري طيورًا ويضعها في قفص ويربيها ،واصطاد طائرًا يسمى نُغْرِي بلهجة أهل المدينة أي ” بلبل ” ووضعه في قفص داخل المقعد ، ودخل عصفور آخر في الغرفة ،و دخلت قطته التي كان يربيها الغرفة ،وليساعدها على صيد الطائر أغلق باب الغرفة ، وعندما فتح الباب فوجئ بالنُغري في فم القطة وكان “النُّغْرِي ” خارج القفص، وهو لم يتنبه لذلك ، فحزن كثيرًا ، واستغنى عن قطته. كان أبي ـ رحمه الله ـ حريصًا أن يزرع المساحة التي أمام الديوان والبركة بالورد والفل والريحان والياسمين ،وشجر تمر الحنا ،وكنَّا نسميه “فاغِيَة” ،وشجر الليمون إضافة إلى زراعة النعناع بنوعيه “المدِيني ” و “المغربي ” ،و”اللمَّام” ،و”الدُّوش” ،وكنَّا عندما نستيقظ من النوم في الفجر نسمع ،زقزقة العصافير وهديل الحمام ،ونشُّم رائحة الزهور والورود ،وهي تعطر المكان . ما أجملها من أيام ليتها تعود!! كنتُ أنا وأخواتي نقضي نهارنا بين السباحة في البركة ،وبين التنقل بين أرجاء البستان ،تارة نتسلق النخلة هذه ،وتارة نتسلق تلك ،وكان يوجد لدينا شجر التين والرمان ،والسدرة ” النِبِق” ،وكنَّا نتنقل بين أحواض البقدونس والكزبرة الخضراء ،أو نذهب إلى قسم شجر الفلفل الأخضر ،أو شجر الدباء” القرع ” أو شجر القطن ،أو إلى قسم الطماطم والجزر والفجل ،أو قسم البصل والثوم ،وكان يوجد نخل بمختلف أنواعه مثل الرُّوتَانَا والسُّكَرِية ،والحِلَوة ،والحِلَيْة ،والبَرْنِي ،وغيرها . وكنَّا نلهو أحيانًا في الخارجة حيث أحواض البرسيم ،وكان يطل على الخارجة فندق المدني الذي حلَّت محله فيما بعد المتوسطة الثالثة ،والثانوية الثانية للبنات في صيَّادة ، وأقيمت عمارة للوقف فيما بعد محل أحواض البرسيم . وكانت تُعلن حالة طوارئ عندما يداهمنا الجراد ،وأذكر أنَّ أبي وأخي كانا يشعلان النيران لإبعاد الجراد ،وكان العاملون في البستان يدُّقون على الصفيح لعمل أصوات لإبعاد الجراد عن الزرع والأشجار والنخيل ،ولا أنسى علامات القلق والحزن التي كنتُ أراها على وجه أبي ـ رحمه الله ـ عندما يداهمنا الجراد ،وأود أن أنوه إلى الجهود المكثفة التي بذلتها وزارة الزراعة لمكافحة الجراد. وكان يوجد بالقرب من السقيفة مربطاً للحيوانات يسمى ” مرابط” ،وبه ماعز وبقر وحمير ،ودجاج ،وكان أخي سامي في صغره مولعاً بتربية الحيوانات ،وأذكر أنَّه ذات مرة اشترى غزالاً رضيعاً ،وكان يرضعه بالرضاعة بنفسه ،إلاَّ أنّ الغزال مات ،فحزن عيه كثيراً. ومن الأيام السعيدة التي شهدتها هذه الاستراحة ـ كما روتها لي أختي سميحة ؛ إذ كنتُ جد صغيرة ـ استضافة خالي صلاح الدين عبد الجواد ـ رحمه الله ـ ؛ حيث كان معتادًا أن يأتي سنويًا إلى المدينة المنورة ، وينزل عند جدي يوسف ـ رحمه الله ـ و كان تلك السنة في القاهرة ، فاستضافه والدي في استراحة الفيروزية ، وكان برفقته بعض أرحامه من آل زاهد وزينل ،وهاتان العائلتان من أكبر العوائل في جدة ، وكان العم ” عيد ” كالعادة يتولى أعمال الطبخ للضيوف ، وقد سعد خالي بهذه الزيارة كثيرًا ، وقد قامت والدتي ـ رحمها الله ـ بترقيد عدد كبير من صفائح التمر لخالي وأرحامه ، وكانت أمي متميزة في ترقيد التمر. قــصــر الفــيـروزيـة كان عبارة عن قصر كبير له ثلاث ملاحق ،وثلاث مداخل . البوابة الرئيسية كبيرة جداً عرضها يتجاوز الثلاثة أمتار وارتفاعها يتراوح ما بين أربعة أمتار وخمسة أمتار ،وهي من الخشب المحفور بزخارف في غاية الجمال ،ويوجد أعلاه زجاج ملَّون ذو أشكال هندسية جميلة ،وجميع نوافذ القصر كانت كبيرة مزخرفة بزخارف محفورة ،وفي أعلاها زجاج ملَّون . وكما يبدو ـ كما ذكرت سابقاً ـ أنَّ الطراز العمراني للقصر يجمع بين الطرازين الفارسي والعثماني ،لأنَّه بني في فترة الحكم العثماني ،وكان صاحبه رجل فارسي يدعى فيروز، وهذا القصر يتميز عن غيره من المباني التي كانت موجودة في البساتين الأخرى المعاصرة تاريخ تشييدها لتاريخ تشييد قصر الفيروزية ؛ إذ كانت متواضعة جداً . والحقيقة أنَّ القصر كان تحفة فنية ومعمارية أثرية رائعة ،وقد فاتنا تصويره قبل هدمه ونزع ملكيته هو وبستان الفيروزية ليكون حديقة عامة ،ثُمَّ موقف سيارات ،ثمَّ دخل في مشاريع شركة طيبة ،وقد انتزعت ملكيته في حياة أبي ـ رحمه الله ـ وقد حزن على هدمه حزناً كثيراً أثَّر على صحته العامة وأنهكها، ولم يعش طويلاً بعد هدمه ،فلقد مات بعد هدمه بسنة وبضعة أشهر. نعود الآن إلى القصر ،ولنتجول داخله ،ونبدأ بالملحق الأمامي عند البوابة الرئيسية ،وتوجد عند البوَّابة الرئيسة صالة توزيع صغيرة تؤدي إلى القصر وملاحقه ،والملحق الأمامي كان على يسار البوابة الرئيسية ؛إذ توجد غرفة متوسطة المساحة تسمى ” مقعد” ،له نافذة كبيرة بمساحة الحائط تطل على البستان ،وللمقعد بابان ،باب من صالة التوزيع ،وباب آخر يؤدي إلى باقي الملحق ،كما يوجد للملحق باب آخر يؤدي إلى القصر ،لتأخذ النساء حريتهن في الحركة ،والتنقل إذا كان يوجد في المقعد رجال أجانب ،ويوجد في داخل الملحق ديوان صغير وسقيفة كبيرة تطل على الحديقة ،وممر يؤدي إلى الديوان والبركة. أمَّا الديوان فهو كبير جداً أكبر من الديوان الخارجي الموجود في البستان ،ومساحته تبلغ حوالي 20×8م ،أمَّا مساحة البركة حوالي 15×15م ،وما بين الديوان والبركة مساحة تقدر بحوالي 10 أمتار بطول 25م من الجهة الشرقية ،ومزروع من هذه المسافة 5×25م ،وكذلك في الجهة الشمالية توجد مساحة مزروعة قدرها 25×5 ،وتطل الجهات المزروعة على البستان بنوافذ كبيرة ،والمساحة المزروعة في هذا الديوان مزروعة بالورود والفل والياسمين ،وتمر الحنة ” الفاغية” أمَّا شلاَّل البركة فهو من الحجر منحوت على هيئة رأس أسد ،وهذا يؤكد أنَّ الطراز المعماري هو طراز فارسي ،ويوجد عند نهاية الجهة الشمالية الشرقية باب يؤدي إلى البستان ،كما توجد بقربه دورة مياه. والديوان وبركته وحديقته يرتفع عن سطح الأرض بحوالي متريْن. وقد حدثت في هذا الديوان حادثة روتها لي عمتي فردوس ـ رحمها الله ـ ولغرابتها لم أنسها ،قالت لي : ” هذه سقيفة كانت مفروشة كلها بسجادة كبيرة من قطعة واحدة ،وذات ليلة نمتُ فيها ،وكان أخي عبد الحميد ـ رحمه الله ـ نائماً في ذات السقيفة ،وجاء لصوص لسرقة السجادة ،ولمَّا وجدوا أنفسهم لا يستطيعون حملها لثقلها قصَّوا السجادة ،ولقد تظاهرتُ أنا وأخي عبد الحميد بالنوم ،لأنَّهم لو علموا بأننا نراهم لقتلونا ،فكنا نراهم وهم يقصّون السجادة ،وتركوا الجزء الذي كنا نائميْن عليه، وبعدما انصرفوا قام أخي ونبَّه إلى السرقة. هذه الواقعة تبين لنا كيف كان من الضرورة بمكان ذاك الحزم الذي اتبعه الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ في تطبيق شريعة الله بقطع يد السارق ؛إذ عمَّ الأمن والأمان في ربوع بلادنا ،وقد نعمنا به ؛إذ كنَّا ننام حول البركة في أمان، ولم يداهمنا لص قط ،ولم تقفل علينا أبواب ، فلم تكن هناك أبواب. ننتقل إلى الملحق الثالث ؛إذ توجد طرقة أخرى طويلة تؤدي إليه ،وهذا الملحق هو عبارة عن ديوان كبير طوله حوالي 20×8 ،وتوجد فيه دكة كبيرة ،وبها نافذة كبيرة تطل على البستان ، وهذا الديوان يؤدي إلى القاعة ،وهي بطول الديوان ،وبها دكتان ,في الوسط يوجد “جِلى” ،و”الجِلى” هو فتحة كبيرة في سقف مرتفع جداً ،هو بارتفاع المبنى الرئيسي للقصر ،وتعمل هذه الفتحة لجلب الضوء والهواء ،وهي تفتح وتغلق بحبل يخيط في قماش كقماش الخيم ،فإذا ما هطلت الأمطار ،أو دخلت الشمس إلى القاعة يغلق “الجلى” ،كما توجد في القاعة نافذة كبيرة تطل على البستان ،والنوافذ كما سبق وأن أشرت إليها من الخشب المحفور بزخارف فنية رائعة ،ويوجد أعلاها زجاج ملَّون في أشكال هندسية في غاية الإبداع الفني ،وجميع نوافذ القصر بها شيش بحيث يرى النساء من خلالها ما بالخارج دون أن يراهنَّ أحد ،وكانت جميع نوافذ بيوت المدينة بها شيش، تُسمى ” رواشين” ، ومفردها ” روشان” ويوجد في هذا “الدِّيوَان” باب آخر يؤدي إلى المبنى الرئيسي للقصر المكون من ثلاثة أدوار و”كُشْك” ،وفي الدور الأرضي لمبنى القصر توجد غرفة كبيرة جدًا بها دكة كبيرة تطل على ديوان القصر وحديقته ،وغرفة أخرى تسمى مقعد تطل على البستان ، ولهذا المبنى باب آخر يؤدي إلى البستان يسمى “باب الصَّمَد” ،وهو من جهة بستان بضاعة، كما يوجد في هذا الجزء، دورة مياه وبئر ماء تجلب منه الماء لتنظيف القصر ،ولغسيل الملابس ،علمًا بأنَّ جميع أرضيات الدور الأرضي للقصر وملاحقه وممراته ودرجه مرصوفة بالحجر، أمَّا أرضيات الأدوار العلوية فكانت مغطاة بطبقة من الإسمنت .وكان القصر وملاحقه مبنيًا بالحجر . أمَّا الدور الثاني ،فهو مكون من مجلس كبير ،وبه نافذتان كبريان إحداهما تطل على بركة وحديقة القصر ،وأخرى تطل على البستان واستراحتها، كما توجد غرف ثلاث متداخلة ،جميعها يطل على البستان ،وبين المجلس والغرف المتداخلة يوجد مطبخ كبير ،وكما يبدو أنَّه مخصص للخدم لأنَّ به مطبخ كبير، وهو المطبخ الوحيد في القصر ،وذلك ليخدم القصر في فصلي الصيف والشتاء ،حيث يقضي سكان القصر الشتاء في الدور الثالث ،وفي فصل الصيف يقضونه في الدور السفلي ،وهذا كان من عادات أهل المدينة المنورة . أمَّا الدور الثالث .فهو مبني على مستويين ،قسم الضيوف مبني على مستوى مرتفع يصعد إليه بدرج خاصة ،وقسم الضيوف عبارة عن ثلاث مجالس متداخلة في بعضها يبلغ طولها حوالي ثلاثين متراً ،وعرضها حوالي 8 أمتار، ونوافذها تطل على بستان الفيروزية واستراحته ،وبه دورة مياه ،أمَّا القسم الثاني ،فهو قسم الجلوس ،وهو على مستوى منخفض ؛إذ ينزل إليه بدرج ،وله باب خاص ،وبه صالة ،و”دكَة” كبيرة تطل على الحديقة من باب الصمد ،وتوجد غرفتين للجلوس يفصل بينهما” الجِلَى “،ولهذا القسم حمام ،ودورة مياه . ويوجد في الدور الرابع غرفة واحدة كبيرة تسمى “كُشْك” يطل من كل جهاته على البستان. هذا ولقد كانت عمتي سعاد ـ رحمها الله ـ تغسل يومياً الممرات بديوان البركة والدرج وجميع الممرات بالمبني بالدور الأرضي ،وكانت تساعدها والدتي في غسلها ،وكنا أنا وأخواتي نساعدها في تجفيف الأرضيات ،وهذا يبيِّن لنا مدى المعاناة التي كانت تعانيها ربة البيت في تنظيف بيتها. بيت “أَمَة الله” : وهو البيت الذي استأجره والدي ـ رحمه الله ـ من الوقف لقضاء الشتاء فيه ،فكان لا يبعد عن الفيروزية ،إذ يقع في باب المجيدي ،وبينه وبين مدخل الفَيْرُوزِية حوالي مائة وخمسين متراً ،ولكنه كان بيتًا متواضعًا إذا ما قورن بقصر جدي ،وكان مكونًا من ثلاثة أدوار ،وكنَّا نسكن في الدور الثالث المكون من “مجْلِس” ،وهو غرفة استقبال الضيوف ،وهي أول غرفة تقابلك عند صعودك للدور الثالث ،ويقابلك باب آخر يؤدي إلى قسم الجلوس ؛ إذ توجد غرفة المعيشة ، ويوجد بها غرفة داخلية صغيرة ،ويوجد ممران أحدهما يؤدي إلى “خَارِجَة” غير مسقوفة يمكن العائلة أن تنام فيها في فصل الصيف ،أمَّا الممر الآخر فيؤدي إلى الصُّفة ،وهي عبارة عن صالة توزيع صغيرة ،تؤدي إلى المطبخ، وإلى دورة المياه ، ويوجد ممر آخر يؤدي إلى الحمَّام المخصص للاستحمام ،ثمَّ توجد غرفة أخرى تسمى “مُؤَخْر ” لأنَّها في مؤخرة البيت ،وبه نافذة تطل على “جِلَى “القاعة ،وكان المؤخر نخصصه للنوم ،هذا ومَّما تجدر الإشارة إليه فإنَّ أسقف هذه البيوت كانت من الخشب وسعف النخيل ،وكانت الجدران تبني بالحجر أو باللِّبِن أي قوالب من الطوب المكون من الطين.، أمَّا أرضيات الغرف في بيت أمة الله فكانت من التراب باستثناء الممرات فكانت من الإسمنت. وكانت أرضيات الغرف تغطى بِ “الخصف “،وهو مصنوع من سعف النخيل ثُمَّ تفرش بالسجاد. هذه البيوت القديمة كانت موجودة حتى وقت قريب ،ولكن متطلبات توسعة الحرم النبوي الشريف أدَّت إلى إزالتها جميعها ،وقد حرصتُ على وصفها لتبقى سجلًا تاريخيًا للأجيال القادمة . وكنَّا نتنقل صيفًا إلى بستان الفيروزية ،وشتاءً إلى بيت أمة الله إلى أن منَّ الله على أبي ـ رحمه الله ـ ببناء دار نملكه ،وكان والدي يريد بناء لنا بيت في جزء من أرض الفيرزوية ،ولكن والدتي ـ رحمها الله ـ نبهته أنَّ الأرض التي سيبني عليها ليست ملكًا خاصًا له ،وإنَّما هي ملك الوقف ،وبالتالي فالبناء الذي سيبنيه سيكون للوقف ،وعليه أن يشتري قطعة أرض ويبني عليها ،فاقتنع والدي برأي والدتي ،واشترى قطعة أرض في شارع أبي ذر الغفاري مساحتها أربع مخازن ، وبنى عليها بيتًا من بدروم وثلاثة أدوار وملحق ،وكان البناء على فترات ؛إذ لم يكن لدى والدي المبلغ الذي يتطلبه بناء هذه الأدوار ،فبنى في البداية البدروم والدور الأرضي ،وقد أصر أن يبنيه بالحجر ،وكان يريد تسقيفه بالخشب ،وجذوع النخيل ،ولكن والدتي أصَّرت أن يسقف بالخرسانة الإسمنتية ،فامتثل والدي لرغبتها، ثُمَّ بنى الدور الثاني ،وأذكر أنَّ والدتي ـ رحمها الله ـ قد أخرجت كل حليها ومجوهراتها ،وكذلك حلينا ،وأعطتها لأبي ليبيعها ،لتساعده في تكملة بناء البيت ، وبعد فترة أخرى تمكن والدي من بناء الدور الثالث ،ثُمَّ بنى ملحقاً في الدور الرابع كان مخصصًا لدراستنا ثُمَّ خصصناه للنوم فيما بعد، هذا وقد بنى والدي هذا البيت على الطراز الحديث. وكان يقابله فندق الجزيرة الذي لا يزال قائمًا حتى الآن، أمَّا بيتنا فقد انتزعت ملكيته بعد وفاة والدي لصالح التوسعة الأخيرة للحرم النبوي الشريف . وعندما سكنَّا في شارع أبي ذر كان عمري حوالي السادسة ،فأمضيتُ فيه معظم سني عمري ؛إذ فيه حصلتُ على الشهادة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية ،فلقد كانت فيه مدرستي التي درستُ فيها ،وشهد انطلاقتي الأدبية ،وفيه ألَّفتُ ” المرأة بين الإفراط والتفريط ” ،و”مسيرة المرأة السعودية ..إلى أين ؟ ،و “من عمق الروح وصلب الفكر” ،و ” بناء الأسرة المسلمة “،و”دور المرأة المسلمة في وضعنا الراهن” ،وعشرات التحقيقات الصحفية ،ومئات المقالات ،لذا عندما تركته كانت الدموع تنهمر من عيني دونما أشعر ،لأنَّني كنتُ أودع موطن علمي وفكري ،وسجل حياتي ،وذكريات العمر حلوها ومرها ،السعيد منها ،والبائس التعيس ،وقصة كفاح طويلة في سبيل التحصيل العلمي ،ثُمَّ تلتها قصة كفاح أخرى مع الكلمة والحرف ،وكان هذا البيت عزيزً على أبي ـ رحمه الله ـ الذي صمَّم بناءه وتعب في بنائه ،وقد عُرض علينا عشرون مليون ريالاً لنبيعه ،ورفضنا بيعه ،لأنَّ أبينا أوصانا بعدم بيعه ،فموقعه لا يعوض ،ولا يقدَّر بمال ،وكان التعويض الذي دفع لنا أقل من نصف ذاك المبلغ. *** نظام الأسرة الكبيرة في مجتمع المدينة بعدما عرفَّتكم على الطراز المعماري لبيوت المدينة القديمة ،أرى أنَّه لتكتمل صورة مجتمع المدينة لديكم أن أحدثكم عن نظام الأسرة الكبيرة الذي كان سائداً في مجتمع المدينة وفق ما روته لي أمي ـ رحمها الله ـ ،وقد اختفى هذا النظام ؛إذ يرغب الأولاد عند زواجهم الاستقلال بحياتهم في مسكن مستقل . الأسرة هي نواة المجتمع ،وهي الركيزة الأساسية فيه ،فإذا كانت الأسرة مترابطة متكاتفة ،الأولاد يبرون بأبويهم ،وينون إليهما ،والأبوان يحسنان تربية أولادهما ،والزوجة تصون عرض ومال ،وبيت زوجها ، والزوج يحسن عشرة زوجه ،والأخوة كل واحد منهم يؤثر أخاه وأخته على نفسه ، ساد المجتمع الود والحب ،وعمَّ الخير والبركة. أمَّا إذا كانت الأسرة مفككة متباعدة يغلب على أفرادها الأثرة والأنانية ،الأولاد يعقون أبويهم ينفرون منهما ، ويتنكرون لهما، ويؤثرون أزواجهم عليهما ،ولا يتورعون عن التخلي عنهما إرضاءً لأزواجهم ،والزوجة لا تؤدي حقوق زوجها عليها ،والزوج كذلك، والأبوان لا يحسنان تربية أولادهما ،وتركاهم فريسة للضياع بكل ألوانه ،والإخوة يقتلهم الحقد ،وتحرقهم الغيرة من بعضهم البعض، انهار المجتمع ،وتزلزل كيانه ،وغلب الشر على الخير فيه ،وشحَّت الأرزاق ،واختفت المبادئ والقيم. والأسرة في المجتمع المدني أسرة متحابة مترابطة متآلفة تعيش في حب كبير قوامه الاحترام ، وحسن العشرة ،كان البيت الواحد حتى وقت قريب يحتضن الزوجان والأولاد ، ثُمَّ أزواج الأولاد ، ثُمَّ الأحفاد إلى جانب الأعمام والعمات .الصغير يحترم الكبير ،والكبير يرفق بالصغير ، ويحسن إليه، يخدم بعضهم البعض، وتوزع أعمال البيت بين الأخوات وزوجات الإخوة بينهن بالتناوب، الزوجة تحترم زوجها وتقدره ،وتعكف على خدمته ، توفر كل سبل الراحة له ،وتحترم أبواه وإخوته، ولشدة احترام الزوجة لأم الزوج ،وبر الابن بأمه كان إذن الزوجة في يد أم زوجها ،فإذا ما أرادت الخروج لزيارة استأذنت من أم زوجها ،وكانت تقول لها : ( ستِّي) ،وكانت هي وأولادها يقبلون يدي الأم والأب كل صباح ،أمَّا الأبوان فكانا يحسنان تربية أولادهما ؛ إذ يربيانهم على حب الله وطاعته والخوف منه ،وأداء فروض الدين ،وكان الأولاد يبرون بأبويهم ،ويحسنون إليهما ،,يحترمونهما ،ولا يرفعون أصواتهم عليهما ،بل كانوا من شدة احترامهم لهما ،إذا دخل البنت ،وكانوا جلوسًا يقفون احترامًا له ،وكانت البنت لا تجرؤ على شرب القهوة أمام أمها حتى بعد زواجها وإنجابها . أمَّا الإخوة فقد كانوا متحابين متآذرين يسند بعضهم البعض ،وأبناء العم كانوا كذلك إذا فرح أحدهم شاركه الجميع فرحته ،وإذا حزن شاركه الجميع في أحزانه ،وخففَّوا عنه ،وإذا وقع أحدهم في ضائقة هب الجميع لمساندته ومساعدته ،هذا الحب والتعاون والاحترام والتآلف الذي كان يسود الجو الأسري لا يقتصر على جدران البيت الواحد ،بل امتد ليشمل الحي بأسره ،فالجار أخ لجاره ،والجارة أخت لجارتها بكل معاني الأخوة. هذه الروح الجميلة الخيرة التي تفيض بينابيع الحب والخير هي التي كانت تسود المجتمع المدني ،ممَّا جعل الجميع يشهد لأهل المدينة بالطيبة ،وحسن الخلق. والرجل في المدينة المنورة يحترم المرأة ويقدرها، وهذا معروف عن أهل المدينة حتى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : لقد تعلمنا من الأنصار كيف نُعامل النساء ، ولكن كانت في المدينة عادة سيئة سادت في مجتمعات عربية ،تم التخلص منها الآن ؛ إذ كانوا في الولائم والمناسبات يضعون سفرة طعام واحدة ، يتقدم الرجال ، فيتناولون طعام الغداء ، أو العشاء ، وبعد انتهاء الرجال من تناول طعامهم ، يُدعى النساء لأكل ما تبقى من الرجال. دور المرأة المدنية في المجتمع إن كانت الأسرة هي نواة المجتمع وركيزته الأساسية ،فالمرأة هي نواة السرة وركيزتها الأساسية ،فإذا صلحت صلحت الأسرة ،وبالتالي المجتمع ،وإذا فسدت فسد الأسرة ،وبالتالي المجتمع، وقد كانت هي المحرِّك الأساسي للعلاقات الأسرية والاجتماعية ؛ إذ كانت وراء كل ذلك الترابط والتآلف تسعى بحكمتها ،وطيبة قلبها ،ونوازع الخير التي تمتلكها لتوثيق عرى الترابط والتواصل بين الأهل والقارب والجيران. فالمرأة المدنية حتى الثمانينات الهجرية من القرن الماضي كانت محرومة من التعليم ،النظامي ،ومع أنَّها كانت تعيش في غياهب الجهل ،والأمية إلاَ أنَّها بفطرتها السليمة السوية استطاعت أن تعطي ما عجزت عن إعطائه المرأة المتعلمة التي حصلت على أعلى الشهادات ،فلقد جبلت على الإيثار ،وإنكار الذات ،فكانت الأم الصالحة التي ربَّت أولادها ـ ذكوراً وإناثاً ـ على حبِّ الله ،والخوف منه وطاعته ومراقبته ،كما ربَّتهم على تحمل المسؤولية منذ الصغر ،واحترام الكبير والصغير ،لقد أحسنت هذه الأم ـ الأمية الجاهلة ـ تربية أبنائها ،فخرّجت العلماء والقضاة والوزراء والسفراء وكبار رجال الأعمال ،كما خرجت للمجتمع الأدباء والكتاب والمؤرخين والأطباء والمهندسين والمعلمين والصحفيين ،بل كان رواد الصحافة السعودية من أبناء المدينة المنورة ،منهم الأستاذ الأديب الكبير عبد القدوس الأنصاري رحمه الله ،مؤسس وصاحب مجلة المنهل ،والأستاذان الجليلان علي وعثمان حافظ ـ رحمهما الله ـ مؤسسان جريدة المدينة المنورة. كما ربَّت المرأة المدنية بناتها على الفضيلة ومكارم الأخلاق ،وحسن العشرة ،واحترام الأبويْن والإخوة والأخوات ،والزوج وأهله والإحسان إليهم جميعاً. كما ربَّتها لتكون ربة بيت ممتازة ؛ إذ كانت المرأة المدنية ربة بيت من الطراز الأول ،وكانت تتقن أعمال المنزل رغم قسوتها وصعوبتها ؛إذ كان عليها أن تستيقظ من الفجر تعجن العجين ،وتخبز الخبز ،ثُمَّ تُجهز طعام الإفطار ،وعليها أن تجلب الماء بالدلو من البئر الموجود بالمنزل ،وتملي (الزير) والقلل بالماء بعد تنظيفها بعملية ” الحك” ،وكانت تطهو الطعام على الفحم ،وتغسل الملابس بيديها ،وإذا كان لديها طفل تغسل غياراته ؛ إذ لم تكن توجد الغيارات الورقية الجاهزة الآن . كما كان عليها أن تغسل الممرات والسلالم المكسوة بالحجارة ،ثُمَّ تجفيفها. وكان بعض الأدلاء يستضيفون في مواسم الحج بعض الحجاج ،ويقدمون لهم وجبات الطعام ،فكان نساء الأسرة يقمن بطهي الطعام لهم طوال فترة الضيافة ،وقد يصل عدد الضيوف من الحجاج ثلاثين شخصًا. لقد ربَّت الأم ـ الجاهلة الأمية ـ ابنتها على أن تكون الزوجة المخلصة الصبورة الصابرة المكافحة التي تقف إلى جانب زوجها ،وتسانده ،وتعكف على خدمته ،وتسهر على راحته ،وكانت تدير شؤون بيتها دون إسراف ولا تبذير ؛إذ كانت تقوم بحياكة معظم ثيابها ،وتطريز وتشغيل ما تحتاجه. كانت المرأة المدنية رغم قسوة الحياة ،وعظم المسؤوليات قانعة بحياتها راضية كل الرضا بها ،وقلما تحدث خلافات ومشاكل بينها ،وبين زوجها ،أو أهله ،وكانت نسبة الطلاق منخفضة ،وليست بالكثرة الشائعة الآن رغم أنَّ الزوجين لا يرى بعضهما البعض إلاَّ ليلة الزفاف ،وكانت الأم تهمس في أذن ابنتها ليلة عرسها قائلة لها : هذه حياتك ،وهذا زوجك ، وهذا بيتك عليك المحافظة على كل منهما ،واعلمي أنَّك ستظلين في بيتك هذا إلى أن تودعي الحياة . كانت هذه الكلمات من الأم لابنتها في ليلة زفافها بمثابة إعدادها لتحمل أعباء الحياة الزوجية حلوها ،ومرها ،والصبر على ما قد يواجهها من أزمات ومشاكل ،والتكيف مع الجو الأسري الجديد ،وأنَّ عليها أن تلزم بيت زوجها ،ولا تتركه غاضبة ،إلى بيت أهلها ،كلما طافت سحابة على علاقتها بزوجها أو بأهله ،فرباط الزوجية كانت له قدسيته وحرمته ؛ إذ كان لا ينفصم إلاَّ لأسباب قاهرة. وهكذا استطاعت المرأة المدنية ـ ابنة الجيل الماضي ـ أن تؤدي دورها على أكمل وجه ؛إذ استطاعت أن تحافظ على كيان الأسرة وتماسكها وترابطها ،وأن تحسن تربية أولادها ذكوراً وإناثاً ليؤدي كل منهم دوره في هذه الحياة ،وهيأت لكل فرد من أفراد أسرتها السعادة والاستقرار في أجواء مليئة بالسعادة والراحة والطمأنينة والاستقرار والحب والود والتفاهم والاحترام. لقد كانت إنسانة مؤمنة خيرة ،الإيمان والخير يملأن قلبها ،فلا كراهية ،ولا حقد ،ولا حسد ،وقد تعيش مع ضرتها في بيت واحد ،ولا تحمل لها إلاَّ الحب والخير ،وهذا الخير انعكس على جميع أفراد المجتمع ،فكانوا كالأسرة الواحدة المترابطة المتماسكة. كيف كانت المرأة تقضي أوقات فراغها بالرغم من كثرة الأعباء المنزلية التي كانت ملقاة على عاتقها ،إلاَّ أنَّها كانت في أوقات فراغها تقوم بحياكة ملابسها وتشغيل الياقات الخاصة بالسديرية التي كانت تلبسها تحت “الفستان” ،وكذلك كانت تقضي أوقات فراغها في شُغل ” الأُويات” التي تركب في “المحارم” التي كانت تضفر بها شعرها ،وتقوم أيضاً بشغل سراويل زوجها وأولادها على المناسج ،وتشتغل أطرافها ( المليباري ،واللف) ،هذا ،وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المرأة كانت تسهم رفع دخل أسرتها عن طريق احترافها لشغل الأُويات ،أو التطريز ،وذلك إن كان دخل أسرتها محدوداً. كما كانت حريصة على صلة الرحم ،فكانت في أوقات فراغها تقوم بزيارة الأهل والأقارب ،وكانت تخصص جزءاً من وقتها في “الضحى” للقيام ببعض الزيارات ،ولاسيما زيارة الجيران. أمَّا في الصيف فكان معظم أهل المدينة يقضون الصيف في البساتين ،ومن كان لا يملك بستاناً يستأجر بستاناً طوال فترة الصيف ،ولذلك نجد كثيراً من نساء المدينة المنورة يجدن السباحة. ملابس المرأة المدنية وزينتها كانت ترتدي المرأة المدنية رداءً طويلًا ،وتلبس تحته سروالًا طويلًا ،وسديرية مفتوحة من الأمام بأزارير ،ولها ياقة مشغولة بحيث تظهر الياقة ،ولا يخفْيها “الفستان”. وكانت تضع على رأسها “مِحْرَمة” ،وهي قطعة قماش بيضاء شفافة ،ومستطيلة مشغولة ب” الأُوية” ،تُضفِّر شعرها بها ،ثُمَّ تُلف على رأسها الضفيرتيْن بطريقة تظهر شغل الأُوية ،وقسم الجزء الأمامي للشعر. أمَّا زينتها فكانت تتزين بالكُحل ،وتضع في كفها وقدميها “الحنَّة”، كانت تضع في وجهها بعض مساحيق الزينة المعروفة الآن. ومجوهراتها كانت” الكِرْدان”، و”السِّوَار” ، و”الثُّعبان ،وعقد “اللؤلؤ البحريني ،والبروش الألماس بالإضافة إلى القرط والخاتم. ملابس العروس ليلة زفافها أ ـ المَحف وهو عبارة عن ثوب شفاف مشغول بالتَل، وتلبس تحته بطانة ، وسديرية ،وتوضع على الصدر من الجانبين الأيمن والأيسر ،ال “لبَّة” ،وهي قطعة كبيرة من اللؤلؤ البحريني تأخذ أشكالاً عدة : مستطيلة أو مربعة أو مستديرة أو بيضاوية ،وتوضع على كل منهما قطعة من ألأماس وبروش ،ويوضع على رأس العروس تاجاً مرصعاً بالماس ، و”طرحة” طويلة ،ويوضع فوق الطرحة ” المِقنع” . كما تلبس العروس المحف في أول حفل زفافها تحضره بعد زفافها. ب- الزَّبُون وهو من قماش الكريب ستان ،يقص بثلاث قصَّات من الخلف ،ومفتوح “بإزرار” من الأمام وفوقه ثوب من ” حريرالقز” الشفاف ،ويلبس عليه عقد من اللؤلؤ فيه ساعة ذهبية تشبك بمشبك من الماس ،كما تلبس عليه عقداً آخر من اللؤلؤ ،والماس ،ويغطي الرأس “مدوَّرة “من قماش القز الشفاف ،وعليها “أُوية” من “الكنتير”. ج- الشُرعة وهي عبارة عن ثوب قد يكون لونه أسود أو أحمر ،أو غير ذلك ،ويلبس تحته السديرية ،ويوضع على الصدر ما يشبه المُرتبة الصغيرة ،يُركَّب عليها اللؤلؤ والماس والفُل والورد ،ويوضع على الرأس “تاج الماس” ،وفوقه مَقنع مشتغل بالتَّل ( وهو مسمى لشغل المرأة في المدينة المنورة) وأثناء زفة الُشُرعة لا تطأ أقدام العروس الأرض إطلاقاً ؛إذ تمشي متنقلة بين كرسيين تقوم إحدى السيدات بنقل أحد الكرسيين ،كلما خطت العروس خطوة إلى أن تصل إلى المكان المخصص لها على المنصة. د- التُّركي وهو الملبس المتعارف عليه الآن ،وتلبسه العروس ،أول الليل. هـ زفة الغُمرة وتلبس فيها العروس المقنع ،ولا يرى منها شيئاً. ولا يمكن للعروس أن تجمع في ليلة زفافها كل هذه الأنواع ،وإنَّما كان يكتفى بنوعين أو ثلاث. الاحتفالات بالزواج كان يسمى حفل عقد القران ب”التسليم” أي تسليم المهر ،ويقدم المهر في صندوق ،ومعه صينية نبات ،وبعض الأقمشة للعروس ،كما تُوزَّع فيه عُلب الحلوى ،وكانت تعمل “قِيلة الحِنَّة” ،,هي تسبق ليلة الزفاف ” نهار ليلة الزفاف” ،ثُمّ ” الدُخلة” ،و” الصَّبْحة” في اليوم التالي للزفاف .وبعد مرور سبع أيام على الزفاف يعمل السابع ،ويقدم ليلة الزفاف “التَعْتِيمَة” : وهي عبارة عن “هريسة اللوز” ،و”المَهْجَمِية” ،و”الشَّشَنِي” ، و”شرِيكَ” بكسر الشين والراء ،ويقدم يوم الصَّبحة “الزَّلابية”؟ ****** ابنة الجيل الماضي والتعليم بالرغم من أنَّه لم يكن هناك اهتمام بتعليم المرأة ،إلاَّ أنَّه كان اهتماماً بتعليمها القرآن الكريم ،فكان الأهالي يبعثون ببناتهم إلى الكتاتيب لتعلم القرآن الكريم ،ويقيمون لهن حفلات تشجيعاً لهنّ ،فإذا ما حفظت الفاتحة والمعوذتيْن ،والإخلاص يُقام لها حفل يُسمى “الصَّرْفَة” ،وإذا وصلت إلى سورة ” الضُّحى” ،أو أتمَّت سورة “عمَّ ” ،أو “تبارك” أو سورة “يا سين” ،تُقام لها ” الصُّرَافَة”، وإذا ما أتمَّت قراءة كامل المصحف يُقام لها ختم القرآن الكريم. حفل ختم القرآن ومراسيم الحفل واحدة سواءً في الصرفة ،أو الصرافة أو الختم ،ويكون الحفل على طعام الإفطار ،أو الغداء ،ويُقام الحفل في بيت الطالبة ،ويأتي زميلاتها مع معلمة القرآن “الخُوجة” ،وترتدي الطالبة المُحتفى بها ثوباً أبيضاً في الحفل. وعند إقبال زميلاتها إلى مكان الحفل ينشدن : سلام ســلام ســلام سلام ســلام عليكم فردوا السلام ثُمَّ يُنشدن: طـلبنـا بــاب مـولانــا كريـمـاً لـن يـنسـانــا وصـدَّقنا بـمـا جــانــا والصـــادق رســول الله ثُمَّ يُنشدن ترحيباً بعهد آل سعود الذي شعر فيه الجميع بالأمن والاستقرار بعد أن كان الإنسان لا يأمن على نفسه ،وعلى ماله وهو في داره ؛إذ كان اللصوص يسرقون السجاجيد ويسحبونها من تحت فراشه ،وهو نائم ويتظاهر بالنوم لئلاَّ يقتل لو أظهر أية مقاومة فكن يُنشدن: إنَّ عهد الظلـم ولــى وأتـى عـصـر الســعود فأمــنَّا وســعدنـــــا ولـه الفـضـل يــعــــود رب أيـده وظفر جيشه الشــــــم الأســــــــــود ويُنشدن للوطن فيقلن: مـا مـثل طـيبة في الوطن ما مثـل طـيبة من ســكن هـي الحـمى والســـــــكـن وهـي الـفـريـدة في الـزمـن وجـميـع مـا فيها حسن فيا النبي المصطفى صاحب الـود الوفى فيـها المـكارم والمـنـى فيما رجعت كل الممالك في العلياء رقيب ويُنشدن أناشيد تعكس مدى السعادة التي كن يتمعن بها في ظل الحب والترابط؛ إذ يريْن كل شيء جميل ،ومن هذه الأناشيد عن رحلة قمن في إحدى البساتين في إحدى العصاري ،فيقلن: إنَّا قصدنا مرة في عصر يوم ضاحية ونمشي على أقدامنا بين الجنان الخالـيـة وإذ الحقول جميلة تروي بماء ساقية وإذا البط يلعب سابحاً فوق المياه الجـارية وإذا المعيشة الصَّافية. وتُنشد هذه الأناشيد بنغمات وألحان جد جملة ،وكانت أمي رحمها تنشدها لي بصوتها الجميل. وتقوم مساجلات شعرية بين الطالبات ،ثُمَّ تقرأ الطالبة المحتفى بها بعض ما حفظته من القرآن الكريم ،ثُمَّ تقرأ هذا الدعاء: اللهـم اغـفـر لـوالديـنـا فكم لـهـم حــــق عـــلـــيـنا وكم سهـرت أعينهم عـلـينا حتى كتبنـا بعـد مـا قــــرأنـا واغـفـر لمـن علمنا القـرآن جـاهـداً وأظـهر الإســــــــلام وحـق الله فـي تـعـليـمـي جـزاك الله يـا أبي جنة ونعـيم وأنتِ يا أمي فـنعـم الـوالـدة دامـت عليـك نعمـة وفــــائدة أراك فـي الجـنـان قـاعـدة مع فاطمـة الزهراء مشــاهدة وحــــورك الـوِلـــدان يـسـقونـك مـن أنهر الـــــجِنان وخوجـتنا تستـاهل الجـزيـل ألـفين ديـنار ولـــــها قـلـيـــل وأنـتـن يا معشـر الـصبـايا صـلين على رسـول رب البرايا وأنـتـن يا معشـر النـسـوان صـليـن عـلى النـبي العدنــــان [ المصدر : والدتي رحمها الله] من ذكريات الطفولة كـنـتُ طفلة هادئة مطيعة ،لم أُضرب قط من قبل أمي وأبي ،وكنتُ خفيفة الظل في صغري ،وكان والدي رحمه الله دائماً يقص نوادري ،وهو يضحك ،وكنتُ أحس بالحلال والحرام وأنا طفلة صغيرة لم أتجاوز الثلاث سنوات دون أن أدرك حقيقتهما ،فكنتُ أعتقد أنَّ من الحرام عدم أكل الأرز حبة حبة ،وكان الإحساس بالمسؤولية يلازمني منذ الصغر . أنا والإحساس بالمسؤولية هناك أناس يولدون ويولد معهم الإحساس بالمسؤولية ،ولعلي من هؤلاء النَّاس ،أذكر ذات مَّرة كنتُ أنا وسميحة وسهام نلعبُ سوياً في بستان الفيرزوية واصطحبنا معنا أختنا الصغرى عُرينة ،وكانت صغيرة جداً لا تستطيع المشي ،،وكانت بستان الفيرزوية “كبيرة جداً ،والممر المؤدي إليها طويل جداً ،وكنا نلعبُ في البستان ،ولكن في ذاك اليوم ،مشينا إلى خارج الممر ، وتجادلت سميحة وسهام ،وكانتا دائماً تتجادلان ،وكانت سميحة تقول لسهام : -شيلي “عُرينة” أي أحمليها ! فترد عليها سهام : “شيليها إنت “! وفجأة اختفتا من ناظري تاركتين عُرينة وأنا ،ووجدتُ نفسي مسؤولة عنها ،وأدركتُ أنَّي لو تركتها فستتعرضُ لخطر كبير ،وكان عمري آنذاك لم يتجاوز الأربع سنوات فحملتها بيدي الاثنتيْن خشية أن تسقط مني ،ومشيتُ وأنا أحملها أكثر من ثلاثمائة متراً ،وعندما رأتني أمي هالها ما رأت ،وقالت لي: -كيف شلتيها ؟ فين أخواتك ؟ – قلتُ لها : اتخاصموا وما رضيوا ( أي رفضوا) يشيلوها ،وسيَّبونا (أي تركونا) ،وخفتُ عليها إذا سيَّبتها لوحدها ، و شُفْت ( رأيت) إنَّه لازم أشيلها ! والإحساس بالمسؤولية جعلني أحسُّ أنَّي مسؤولة عن مساعدة أختي سهام عندما أصيب أحد أصابع يدها اليمني التي تمسك بها بالقلم بمرض يسمى” المدُوحَس “،وهو عبارة عن ورم في الإصبع يسبب ألم شديد ، ولم تعد تستطيع وضع القلم بين أصابعها لتكتب به ،وقد أصيبت به بعد أدائها امتحان اليوم الأول في الشهادة الابتدائية ،وكما يبدو أنَّ إحدى الزميلات قد أصابتها بعين ،وهي تكتب موضوع الإنشاء؛ إذ قالت لها : _ ” ما هذا ؟كم صفحة كتبتِ ؟ ” فما أن انتهت من الامتحان وذهبت إلى البيت ،إلاَّ وتورم إصبع يدها ،ولم تتمكن من الإمساك بالقلم ،وذهبت إلى المدرسة في اليوم التالي ،وطلبت من المديرة تخصيص من تملي عليها الإجابة ،وتقوم بكتابتها ،فقالت لها : -لا يوجد أحد . فقالت لها أختي سهام: توجد ابنة خالي فوزية ،فهي ناجحة من رابعة إلى خامسة ابتدائي. ،فقالت لها المديرة :لا بأس ،فلتتول الكتابة لك . وحضرت ابنة خالي ،ولكنها كانت بطيئة جداً ،كما توجد لديها أخطاء إملائية ، فصارت سهام في حالة نفسية سيئة ،فهي تعرف جميع الإجابات ، وكان ثلاثتنا أنا وسميحة وسهام في سنة دراسية واحدة ،وكان عمري حينئذ تسع سنوات ،فطلبتُ من إحدى المعلمات أن أكتب لسهام بعدما أنتهي من الإجابة عن الأسئلة ،ووعدتها بأن أكتب ما تمليه عليَّ سهام دون أن أصحح لها إن أخطأت ،أو أذكرها إن نسيْت ،ووافقت المعلمة رئيسة لجنة المراقبة ،وقالت : -أنا واثقة منك ومن سهام. ثُمَّ أنَّ سهام كانت متفوقة ولا تحتاج إلى مساعدة أحد، إضافة إلى أنَّنا نكره الغش، فكان ثلاثتنا لا يغش بينما نرى زميلاتنا يغششن. .فكنتُ أكتب ورقة إجابتي ،وأسرع في الكتابة لأوفر باقي الوقت لسهام لتتمكن من الإجابة ،فلم يعط لسهام وقت إضافي للإجابة ،فكان عليَّ أن أكتب إجابتي ،وإجابة سهام في الوقت المحدد للإجابة لورقة واحدة ،وهو على ما أذكر كان ساعة ونصف ،وكنتُ أكتبُ ما تمليه عليَّ سهام، وكانت تراقبنا معلمة ؛إذ خصصت لنا مراقبة للتأكد بالتزامي بما وعدتُ به، ،وكانت المفاجأة أنَّ سهام كان ترتيبها السادسة على المملكة ،وكنتُ أنا العاشرة على المملكة ،لأنَّي لم أكن أركز في أجوبتي ،وكان كل فكري ينحصر في توفير الوقت لسهام ،فأي وقت أنفقه في إجابتي سيكون على حساب وقت إجابة سهام، فكنتُ أُسرع في كتابة إجابتي ،ولم أعط الإجابة حقها ،ولكني لم أندم ،بل كنتُ في غاية السعادة لحصول سهام على هذه النتيجة ،وأنَّني تمكنتُ من مساعدتها، وكانت أختي سميحة الثانية على المملكة. هذا الإحساس بالمسؤولية يلازمني حتى هذه اللحظة ،ويدفعني هذا الإحساس تحميل نفسي فوق طاقتها ،وكثيرًا ما أشقُّ على نفسي حتى ساعات مرضي .والإحساس بالمسؤولية بلا شك ينعكس على كتاباتي ،فإذا ما وجدتُ موقفًا أو رأيًا مناهضًا للإسلام أجد نفسي ملزمة بالإشارة إليه ،وتوضيح مدى بعده عن الإسلام ،وكثيراً ما واجهتني مشاكل ومتاعب في سبيل جهري بهذه الحقائق . إنَّني أحمل في داخلي هموم مجتمعي ،بل هموم أمّتي ،أمة الإسلام بأسرها ،وأحسُّ أنَّ عليَّ واجبًا تجاه ما يواجه أمتي ومجتمعي من تحديات ،وأن أعمل قدر استطاعتي ،وفي حدود إمكاناتي ما يتوجب عليَّ عمله ،لذا تجدني أعطي أكثر ممَّا آخذ ،ولا أنتظر مقابلاً من أحد ،لأنَّني أحس أنَّ ما أعطيه واجباً عليّ ،بل استكثر على نفسي ما أخذه حتى لو كان قليلًا ،وكثيرًا ما أنكر ذاتي وأوثر الآخرين على نفسي ، هكذا خلقت! *** أنا وعمتي سعاد عمتي سيدة مجتمع من الطراز الأول ،وهي شخصية اجتماعية محبوبة ،ومعظم نساء المدينة يعرفنها تزورهن ويزورهن ،في ظهر أحد أيام الصيف ذهبتُ إلى عمتي سعاد ،وكانت تسكن القصر ،وكنا نحن في الاستراحة ،وكانت عمتي تعد الطعام ،وكانت في حاجة إلى صلصلة ،فما أن رأتني ،وكنتُ في سن الخامسة من عمري ،فقالت لي : – أريدك تقفزي كالطير وتشتري لي علبة صلصلة . وكانت البقالات تبعد عن الفيروزية بحوالي أربعمائة متر أو أكثر ،إذا حسبنا مساحة ممر الفيروزية من القصر إلى أول دكان بقالة في باب المجيدي ،فأخذت أجري بسرعة شديدة على نفس واحد ،ولم أتوقف لحظة واحدة لأرتاح أو لأخذ نفس ،واشتريتُ الصلصة وعدتُ جرياً، في وقت قياسي ،ودهشت عمتي من ذلك ؛إذ نفَّذَّتُ لها طلبها وقفزت كالطير ،وأحضرتُ لها ما تريد في وقت قصير . عندما أتذكر هذه الحادثة أجد أنَّ ما قمتُ به يمثل بالفعل شخصيتي ،فأنا هكذا ،إذ طلب أحد مني طلبًا ،مهما كان شاقًا ،وكان هو في حاجة إليه ،وسوف يعينه ويساعده فأضغط على نفسي لأتمه في الوقت الذي يطلب مني إتمامه مهما كانت آلامي ومتاعبي ، فكان بإمكاني أن أعتذر لعمتي ، فالجو كان حارًا في عز الصيف ،وفي وقت الظهيرة ،ولكن أحسستُ أنَّ عمتي في حاجة إلى الصلصلة ،وأنَّني أستطيع شراؤها ،وإن كان هذا شاقًا عليَّ ،ولا أستطيع أن أصد أحدًا في طلب يطلب مني إن كنتُ أستطيع تلبيته ،وأشعر أنَّ هذا واجبًا عليَّ، فإحساس المسؤولية ملازم لي ما حييت. ذكريات لا تنسى من الذكريات التي لا تنسى يوم الاحتفال بصعود أحد أبناء جيراننا ـ في بيت أبي ذر ـ ابن الشيخ حسن عينوسة الرئيسية ليؤذن لأول مرة ،وكان من عادات أهل المدينة ممن يدخلون في وقف المؤذنين ،إذا بلغ ولد من أولادهم الذكور سنًا معينًا أعتقد سن التاسعة يصعد إلى الرئيسية ،ويؤذن لأحد الصلوات الخمس ،وكان بيت الشيخ حسن عينوسة في الداخل ،أي لم يكن على الشارع العام،،وقد طلبت من أمي زوجة الشيخ حسن عينوسة أن تساعدها في إعداد وليمة الغداء ؛إذ كان يدعى لطعام الغداء وجهاء المدينة احتفالًا بهذه المناسبة ،وابتهاجًا بها ،وكانت أمي ـ رحمها الله ـ ماهرة في الطبيخ ،ولا سيما في عمل ” البريك ” بالرقاق . كنتُ صغيرة جدًا ،ولكن لا أنسى ذاك اليوم لأنّه حدث غريب عليّ ؛إذ لم أتعود أن أرى أمي تسهر خارج بيتنا ؛إذ أمضينا معظم ساعات الليل عندهم ،وكانت أمي تفتح الرقاق ، وتجلس أمام النَّار ،وتضع الرقاق على الصَّاج ،وأعدَّت الكثير من صواني ” البريك ” . أنـا وأبــي من الحوادث الطريفة التي حدثت في طفولتي ،والتي لا أنساها حدثت لي مع أبي رحمه الله ،فعلاقتي بأبي كانت وطيدة ،وكنتُ أفهمه من نظراته ،وأفهم ما يقوله لي بدون كلام ،حدث مرَّة في رمضان وقرب العيد ،لا أذكر من قصَّ لي شعري أختي أم ابنة خالي دون علم أبي ،لأنَّ أبي ـ رحمه الله ـ كان تاركاً لنا الحرية في مثل هذه الأمور ،ولكنه عندما رآني لاحظتُ من نظراته أنَّه لم يكن راضياً على قص شعري، لم يقل لي كلمة واحدة ،فحزنتُ وبكيتُ وأخذتُ أفكر في طريقة أرضيه بها ،خاصة وأنني متعودة دائماً أن أجِّهز له ما نسميه ” بفكوك الريق ” وهو عبارة عن تمر وماء وشاي ،”وسمبوسك “،حيث تكون أمي وسميحة وسهام مشغولات بتجهيز طعام الإفطار ،وكنت أريد أن أقدِّم له “فكوك الريق ” وهو راض عنِّي ،فأخذتُ شريطتين ،وفرقتُ شعري ،وكان قصيراً جداً ،وقسمته إلى قسمين ،وربطتُ بالكاد كل قسم منه لأبيَّن لأبي أنَّ شعري لا يزال طويلاً ،ولأعبر له عن أسفي واعتذاري له ،وتعمَّدتُ أن أمر من أمامه بطريقة تلفِتُ انتباهه إلى شعري ،فرآني أبي وتبسم ،فأدركتُ وقتها أنَّه قبل اعتذاري ،وفهم قصدي ،فقدَّمتُ له “فكوك الريق” سعيدة بأنَّه صفح عنِّي ،وبعدها لم أقص شعري طوال حياته . ومن الذكريات العالقة في ذهني ،هذه الحادثة ،عندما أصَّرت أمي على تعليمنا في مدارس نظامية ،أدخلت سميحة وسهام مدرسة خاصة ،وكانت صاحبتها ومديرتها الأستاذة الفاضلة عبيدة الأيوبي التي تلقت تعليمها في سوريا، وأجري لهما امتحان تحديد مستوى ـوكانتا قد تعلمتا القراءة والكتابة ، وقد ختمتا قراءة القرآن الكريم ،ثُمّ التحقتا بمدرسة الأستاذة شرف علمي لاهتمامها بالإملاء ـ ووضعتا في السنة الثالثة ابتدائي ،كانت سميحة وسهام متفوقتان وتتنافسان على المركز الأول ،فتارة تكون سميحة الأولى ،وسهام الثانية ،وتارة أخرى تكون سهام الأولى وسميحة الثانية ،والفارق بينهما ربع درجة أو نصف درجة ،وكانتا تحصلان على العلامات الكبرى في كل المواد ،واكتشفت معلماتهن أنَّ مستواهن أفضل من مستوى الصف الرابع ،فقلن لهما :عليكما دراسة منهج السنة الرابعة في عطلة الصيف ،وتقدما لامتحان سنة رابعة في الدور الثاني ،فعملتا بالنصيحة ،وقلتُ لهما أنا أريد أن أدرس معكما ،وكان أخينا سامي هو الذي يدرسنا ،وكان ملتحقاً بجامعة الملك سعود ،وأذكر ذات مرة كان أخي سامي يشرح لثلاثتنا مادة الحساب ،وكان يعطينا مسائل معقدة في القسمة الطويلة بالملايين ،ولم يكن هذا في منهج الحساب للسنة الرابعة ،وكانت سميحة وسهام تستوعبان منه ،وكنتُ أخاف منه كثيراً ،وكان ممسكاً بمسطرة ،وكنتُ أخشى أن يضربني بها إن أخطأت ،فجاء أبي رحمه الله ،ورآني على هذه الحال ،فسأل : -لمَ تجلس سهيلة هكذا بعيدة ؟ -فقال أخي : تخشى أن أضربها! -فقال له أبي : سهيلة لا تُضرب. وكنتُ لا أفهمُ من أخي شيئًا من شدة خوفي. كان أبي يحترمني مذ كنتُ طفلة ، فلم يضربني قط ، ولم يضرب أخواتي البنات ،وكذلك أمي ؛إذ لم نُحوج أنفسنا للضرب ،وكان أبي إن أراد شيئاً لا يطلبه إلاَّ مني ،وكنتُ أساعده في إصلاح أي خلل في أعمال السباكة أو النجارة أو الكهرباء ؛إذ كان يحب أن يتولى أمور الإصلاح بنفسه ،فهذه من ضمن هواياته ،وكان لا يحضر عمالاً إلاّ إذا استعص عليه الأمر ،وكنتُ أنا مساعدته ،حتى في حساباته وحفظ أوراقه ،إذ كنتُ أمينة صندوقه ،فكان يأتمنني على أمواله وأوراقه ،وإلى الآن احتفِظ بصندوقيْن حديد وحقيبة جلد صغيرة كان يحفظ فيها أمواله وأوراقه رحمه الله وأدخله فسيح جنانه. ***** وكـانـت للـعيـد فـرحـة وكـان للعيد طعماً افتقدناه في أيامنا هذه ،وكانت لفستان العيد فرحة متميزة. وكان أبي ـ رحمه الله ـ حريصاً على أن يشتري لي ولأخواتي أجمل قماش في السوق ،وكان أبي يتمتع بذوق راق رفيع ،وعندما أتذكر الأقمشة التي كان يشتريها لنا لا يوجد مثل جمالها الآن ،إلاَّ في عروض الأزياء العالمية الباهظة الثمن جداً ،،وكان على أبي اختيار القماش ،وعلى أمي ـ رحمها الله ـ اختيار الموديل أو تصميمه ،وكانت تعطيه لخياطة ممتازة اسمها ” إسعاف ” ،وكنَّا ننام ليلة العيد وفساتين العيد ،وأحذيتنا وجواربنا فوق رؤوسنا، وكانت أمي ـ رحمها الله ـ من شدة تعبها في تنظيف البيت وإعداده لاستقبال “المعيدين ” لا تستطيع الذهاب معنا إلى صلاة العيد ،فكان أبي ـ رحمه الله ـ يصحبنا معه. وكانت من عادات جدي لأمي ـ رحمه الله ـ أن يأتي إلينا مع خالي شفيق ـــ خالي شفيق هو الوحيد من أخوالي المقيم في المدينة، أمَّا أخوالي أسعد وعبد العزيز وصلاح الدين فكانوا مقيمين في جدة ـ بعد انتهاء صلاة العيد مباشرة ؛إذ كانت أمي أول بناته يعيد عليها لأنَّ لها معزة خاصة عنده ،وكان جدي وخالي يعطيانا” البخشيش “،وكان كل منهم يعطي لكل واحدة منا خمس ريالات . كما كان عمِّي عبد الحفيظ حمَّاد ـ رحمه الله ـ يأتي إلينا بعد صلاة ا لعيد مباشرة ليهنئنا بالعيد ،وليعطينا ” البخشيش ” ،وعمي عبد الحفيظ هو عمي الوحيد الذي رأيته ؛إذ كان لي عمَّان توفيا قبل زواج أبي بأمي ،أحدهما توفي وهو شاب حديث السن ،ولم يتزوج ،وثانيهما وهو صالح توفي شاباً ،ولكنه كان متزوجاً وله ولد واحد وثلاث بنات. وكان أخي سامي يصحبنا في عصر اليوم الأول للعيد إلى المناخة ،حيث يوجد أكبر مهرجان للعيد يجتمع فيه جميع أطفال المدينة ،وكنا نلعب ونشتري “البليلة ” بالطرشي ،كما كنَّا نشتري بعض الألعاب ،وأحياناً نركب عربة “كارو” تجوب بنا بعض مناطق المدينة، ونعود إلى البيت قبل غروب الشمس. وكان من عادات أهل المدينة توزيع أيام العيد الأربع على مناطق المدينة ،بحيث يخصص كل يوم لمنطقة من المناطق ،وكان اليوم الثالث لباب المجيدي ،فكان أبي ـ رحمه الله ـ يلازم المنزل في هذا اليوم لاستقبال المعيدين ،وكنا نقدم لهم الحلوى وقهوة أو شاي أو عصير حسب رغبة الضيف. وظلَّت فرحتي بالعيد مستمرة عندما كبرت ،وكان وجود والديَّ مصدر سعادتي وفرحتي ،وليس فستان العيد أو بخشيشه ،أو فسحه. أذكر في أحد أعياد الفطر استضفنا محمد علي ابن عمي صالح ــ رحمه الله ــ وأمه ،وأختيه خالة ريا وخالة نور ،وكان مقيماً في الرياض ، أمَّا خالة نور ،فكان لها ثلاث أولاد وثلاث بنات ،وكذلك أختهما خالة ريا ،هي وزوجها وأولادها ،وكان زوجها “محمد أبو سكر ،وهو رجل عسكري لا أعرف رتبته العسكرية، وكان من المشاركين في حرب فلسطين عام 1948م ،لذا سمى ابنته البكر جهاد ،وكان يكني بأبي جهاد ،وكان لخالة ريا أربع بنات وولدان، كان هذا العيد مميزاً، لا أنساه إذ سعدنا ببنتي عمنا وبناتهما، وابن عمي ، ولكثرة الضيوف فقد أحضر والدي الطبَّاخ “عم عيد ” ،وكان هذا الطبَّاخ يستعين به أبي في المناسبات، ،وكان أحياناً يحضره ليطبخ لنا في شهر رمضان عندما تكون صحة الوالدة على غير ما يرام ،ونكون منشغلات بالدراسة لقرب الامتحان ،وللعم عيد علاقة وثيقة بالكمون ،فهو يعز الكمون كثيراً فيضع منه كمية تزيد عن الحاجة، ونبهناه إلى ذلك ، ولكنه استمر على طريقته، وفي أحد الأيام في رمضان تمكنتُ أنا وسهام من التسلل إلى المطبخ في الطابق الثاني ، حيث كان العم عيد يطبخ ،وأخذنا ” وعاء ” الكمون “وسكبناه ،ظناً منا أنه إن لم يجد الكمون فسوف يستغني عنه ،وفي اليوم التالي جلسنا على مائدة الطعام ونحن فرحات بأنَّه لن يكون فيه كمون ،فإذ بنا نجد في الطعام كمونًا، فقد أشترى كمونًا. بعد وفاة أبي ـ رحمه الله ـ كان وجود أمي ـ رحمها الله ـ بيننا يعطيني الإحساس بالأمان وبفرحة العيد ،وكنتُ ليلة العيد أقضيها معها أطلب لها على الهاتف من تريد تهنئته بالعيد من أخوانها وأخواتها ،وزوجة أبيها وزوجة عمي وبناته وسائر أقاربنا ومعارفنا ،وكانت فرحتي الكبرى وأنا أقبِّل يدها واحتضنها وأقبلها مهنئة لها بالعيد ،كانت فرحة العيد كلها تتجسد أمامي ببسمة رضا من أمي ـ رحمها الله ـ ولكن عندما توفيت فقدتُ الإحساس بالفرحة بكل شيء ،لم يعد للحياة طعم حلو بعدها ،وأصبح العيد بالنسبة لي حزيناً لأنَّ أمي مصدر سعادتي وفرحتي لم تعد فيه معي . أدركتُ الآن أنَّ الفرحة الحقيقية للصغار بالعيد تكمن في وجود الأبويْن بينهم ،فوجودهم هو العيد بذاته ،وبفقدهما لا تكون للعيد فرحة ،ولا للياليه إطلالة ،حتى الكبار منَّا ،فموت والدَّي قد انتزع من قلبي فرحة العيد ،لا بل كل فرحة. خاطرة ” “فرحة العيد ..أين أنتِ ..الآن مني؟!” وعبَّرتُ في هذه الخاطرة عن فقداننا الإحساس بفرحة العيد ،وأمتنا الإسلامية تعاني ما تعانيه ،والمسلمون يواجهون احتلالاً واضطهاداً وحروب أهلية وإقليمية ،وكتبتُ هذه الخاطرة عام 1408هـ /1988م ،قلتُ فيها : فرحة العيد أين أنتِ الآن مني ؟ …إذ كنتِ في زمن الطفولة السعيدة خير رفيق …كنتِ تعنين السعادة والحبور …والفرحة بارتداء كل جديد ..وبصحبة الوالد ـ رحمه الله ـ إلى المسجد النبوي الشريف لأداء صلاة العيد.. حقاً كانت أياماً جميلة.. وطفولة سعيدة.. وكانت للعيد فرحة .. أخذتُ أبحثُ الآن ..عن هذه الفرحة في أعماقي.. فلم أجد إلاَّ الذكريات ،ذكريات مضت وانقضت أنَّى لها أن تعود وقد انتزعت الحروب بكل بسمة ..وأخرست القنابل كل ضحكة ..ودهست الدَّبابات كل فرحة فشلَّت كل حركة .. يا فرحة العيد ..لقد أخذتُ أتطلع حولي بحثاً عنك فلم أجدك ..بحثتُ عنك في عيون أطفال ونساء الشهداء ..بحثتُ عنك في مخيمات اللاجئين في” بشاور ولبنان وغرب تنزانيا والصومال ..وجنوب السودان “،بحثتُ عنك في عيون أطفال الحجارة ..في عيون أمهات الضحايا ..ضحايا الإرهاب والاحتلال والحروب الأهلية في لبنان ،والحرب الإقليمية بين العراق وإيران ..بحثتُ عنك في عيون كل مسلم … وقد أضحى مهدداً بالاختطاف في كل حين .. بحثتُ عنك فلم أجد في تلك العيون إلاَّ الدموع ..قد تحجَّرت في المآقي . إذ وجد البؤس فيها مسكنه ..أمَّا القلق والخوف والرعب فقد اتخذوا منها موطناً ،فأين أنتِ الآن مني .. وتلك العيون تلاحقني في اليقظة والمنام. يا عيد متى فرحتي بك تعود …ولن تعود إلاَّ ببذر بذور المحبة والإيمان في كل القلوب ،وقلع جذور الكراهية والانقسام من كل الصدور فتمتلئ بالحب القلوب .. ويلتئم عقد الصفوف فمتى تكون .. ومتى تعود ..متى..متى؟! التحصيل العلمي جهاد ..مثابرة تـفـوق …مــعـانــاة هذا ما سأحدثكم عنه في الحلقة القادمة ــ إن شاء الله ـــ ، فلحديث الذكريات صلة Mine coins – make money: http://bit.ly/money_crypto
Mine coins – make money: http://bit.ly/money_crypto
Mine coins – make money: http://bit.ly/money_crypto