سهام زين العابدين حمّاد نشر يوم الإثنين الموافق 16 ديسمبر 2018م
بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة تكوَّنت الدولة الإسلامية التي أخذت تتسع حتى شملت كافَّة الجزيرة العربية، بلاد العراق وفارس، الشام الكبرى، مصر وشمال أفريقيا حتى وصلت إلى الأندلس. تُعْتَبَر هذه المنطقة من العالم القديم ” الجزيرة العربية، بلاد الرافدين، بلاد الشام وخاصَّة فلسطين ومصر، مركز الثقل في العالم أجمع ، إذ خصَّها الله بأن تكون مهد الديانات جميعًا ومولد جميع الأنبياء والرسل، ممَّا جعلها مهد الحضارات القديمة التي يرجع تاريخ بعضها إلى سبعة آلاف سنة قبل الميلاد, كما تتمتَّع هذه المنطقة بموقعها الجغرافي والاستراتيجي المُتميِّز نظرًا لتوسطها بين قارات العالم القديم، كما تميَّزت بثرواتها الزراعية الهائلة خاصَّةً بلاد الرافدين والشَّام وحوض النيل في مصر والسُّودان. وبحكم العمق التَّاريخي والثَّقافي والحضاري لهذه المنطقة وبظهور الإسلام الذي يحثُّ على استعمال العقل ، ظهرت الحضارة الإسلامية التي تنامت وتطورت وبلغت ذروتها في العصور الوسطى حين كانت أوربا تغرق في ظلمة الجهل، حيث ساهم العالِم الإسلامي بمساهمات عظيمة في كافَّة العلوم والفنون وبعض الصناعات والتقنيات الزراعية التي انتقلت إلى أوربا عن طريق ترجمة آلاف المخطوطات المتواجدة في بيت الحكمة ببغداد إلى اللغات الأوربية، وممَّا شجَّع على غزارة هذه التراجم تشجيع الخلفاء العرب لما لديهم من خلفيَّة ثقافيَّة، حضاريَّة عريقة ، حتى أنَّ كان بعضهم يدفعون وزن الكتاب ذهبًا . وظلَّت بعض هذه التراجم تُدرَّس في الجامعات الأوربية حتى القرن 18. فضلًا عن العديد من طلبة العلم الذين قدموا للدِّراسة في مراكز العلوم الإسلامية خلال القرن الحادي عشر إلى الرابع عشر. فوق كل ذلك تميُّز العنصر البشري الذي يعيش في هذه المنطقة، والذي وصفه الله في كتابه العزيز : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) نظرًا للتَّفوُّق العسكري الهائل للدولة العثمانية تمكَّنوا من ضمّ معظم البلاد العربية تحت رايتها وللأسف حين حكمت هذه المنطقة في بداية القرن السادس عشر تجاهلت تمامًا أنَّ تلك المنطقة هي الدولة الإسلامية الأصل ، وتجاهلت عراقتها التَّاريخية وأغفلت الجانب الثقافي والحضاري الذي تفرَّدت به شعوب هذه المنطقة واعتبرتهم مُجرَّد تابع مُهمل وعطَّلت قدراتهم، وفرضت عليهم العزلة عن العالم، فتوقَّفت الحركة العلمية في البلاد العربية وانتشرت الأمِّية، بينما بدأت تزدهر في أوربا ، كما أنَّ الدولة العثمانية جعلت السلطة مركزيَّة في أيدي العثمانيين الذين يفتقدون إلى الخلفية الحضارية والثقافية ، ويتبنُّون خلفية حربية توسعية سلطويَّة قائمة على البقاء للأقوى عسكريًا . فقد يقتل الحاكم منهم أخيه أو ابنه للحفاظ على السلطة . ومع أنَّ معيار القوَّة لدى الدولة العثمانية هو القوَّة العسكريَّة إلاَّ أنَّها أغفلت هذا الجانب بالنسبة للبلاد العربية ، فتركتها بلا جيوش مدرَّبة تحميها، مع وجود قوَّة عسكريَّة ضاربة من الجيش العثماني الذي استمر في التَّوسُّعات في أوربا حتى بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدت أراضيها لتشمل كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا حتى بلغت مساحتها أكثر من 20 مليون كم مربعًا وفرضت سيادتها اسميًا على العديد من الدول الأوربية المجاورة، ووصل عدد الولايات العثمانيّة 29 ولاية، ممَّا استفزَّ عداء وحقد الدول الأوربية قاطبةً عليها، فبالرغم من أنَّ الدلة العثمانية تهيأت لها كل أسباب القوة والبقاء ، من ذلك:
.1 الموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام الذي يتوسط العالم ويكون رابطًا بين أجزائه المختلفة
. .2تميُّز المنطقة بثرواتها الاقتصادية.
.3منطقة حضارية من الدرجة الأولى، فهي مهد لجميع الديانات والحضارات القديمة.
.4شعوب هذه المنطقة وُصِفت في القرآن أنَّها خير أمَّةٍ أخرجت للناس. .5
صاحب كل هذه المميّزات القوَّة العسكريَّة للدولة العثمانية إلاَّ أنَّها لم تستطع الصمود طويلًا وذلك للأسباب التالية
: 1. المركزية والعنصرية المُفْرطتيْن.
2. استفزاز الدول الأوربية بحروبها التوسعية فيها، تاركةً البلاد العربية مكشوفة بلا غطاء يحميها، ممَّا أوقعها فريسة للاستعمار الأوربي ، والتَّراجع الحضاري والتَّفكك والشَّرْذَمة، وقيام الكيان الصهيوني في قلب الأمَّة العربية.
3. افتقار السلاطين العثمانيين للخلفية الثقافية والحضارية، ولم يستثمروا الخلفيات الثقافية والحضارية والفكرية لشعوب ولاياتهم العربية والإسلامية، بل نجدهم فرضوا العزلة عليهم، وأوقفوا حركة التعليم فتفشّت الأمية بينهم التي لا تزال تُعاني منها الأمتيْن العربية والإسلامية إلى الآن، ولم يكتف العثمانيون بهذا بل نجدهم حاربوا لغة القرآن الكريم التي كانت لغة العلوم والعلماء في جميع البلاد الإسلامية، وذلك بفرضهم اللغة التركية على ولاياتهم بفرضهم سياسة التتريك.
فالدولة العثمانية توفرّت لها عناصر القوة والبقاء، ولكنها ضيّعتها بعنصريتها ومركزيتها وطموحاتها السلطوية والتوسعية، فلو حافظت عليها واستثمرتها لاستمرت كدولة عظمى حتى الآن.
[1] . لقد كتبت شقيقتي سهام ـــ رحمها الله ـــ هذا المقال قبل وفاتها بأربعين يومًا ، وهي في ذروة آلامها ومعاناتها من مرض السرطان ، وقد أوصتني أنا ( سهيلة زين العابدين حمّاد) أن أتابع نشره ومقالات أخرى، ولكن للأسف جريدة المدينة أوقفت نشر مقالاتها بعد وفاتها رحمها الله.