سهيلة زين العابدين حمّاد  خاص بمدوّنة الدكتورة / سهيلة زين العابدين حمّاد نُشر يوم الإثنيْن الموافق 2/12/ 2019م.  

بيّنتُ في الحلقة الماضية موقف مستشرقي المدرسة الإنجليزية اليهود من الجهاد في الإسلام وحروبه صلى الله عليه وسلّم، وسأتحدّث قي هذه الحلقة عن مواقف المستشرقين الإنجليز من الجهاد في الإسلام، وحروبه صلى الله عليه وسلم. موقف المستشرقين البريطانيين المسيحيين     يرى الفريد جيوم[1] أنّ الجهاد في سبيل الله لم يشمل اليهود والنصارى فيقول: “النصوص التي تحرض المسلمين على القتال في سبيل الله، تنصب بشكل واضح على الدفاع عن بلاد العرب، ولما لم يرد ذكر لليهود والمسيحيين، فليس من الواضح تمامًا إذا كان النص قد شملهم أم لا. وإذا كان هذا صحيحاً أو غير صحيح، فالمفروض أن يحارب المسلمون هؤلاء حتى يدفعوا الجزية، عن يد وهم صاغرون، وتكفي برهة من التفكير لإقناعنا بأنّ الجهاد ضد قوة غريبة تقف في وجه مقاومة محلية مسلمة أمر لا يمكن حدوثه، كما أنّ الجهاد مع أقوام من غير المسلمين لا يعتبر جهادًا بالمرة ويعرف المسلمون تمامًا أنّ ذلك العمل لليس بالجهاد [2]، ويزعم أنّ سبب الحروب هو أنّه كان في المدينة ضغط اقتصادي ظاهر  .[3] هاملتون جب [4]وزميله كالمرز يعتبر أن نشر الإسلام بالسلاح فرض ديني     في الموسوعة الإسلامية الميسرة يتحدث  هاملتون وزميله كالمرز عن الجهاد فيقولان: “الجهاد أي الحرب المقدسة. إنّ نشر الإسلام بالسلاح فرض ديني على المسلمين بوجه عام، وكاد أن يكون ركنًا سادسًا من أركان الإسلام أو فرضًا أساسيًا ولا يزال سلالة الخوارج يعتبرونه كذلك، هذا الموقف تم الوصول إليه تدريجيًا وبسرعة، فالسور المكية في القرآن، وهي حض على الصبر على العدوان؛ إذ لم يكن في الوسع انتهاج سبيل آخر، ولكن في المدينة يظهر الحق في صد الاعتداء، وبالتدريج صار قتال أهل مكة المعادين وإخضاعهم واجبًا مفروضًا، أمّا أنّ محمدًا نفسه أدرك أنّ موقفه هذا ينطوي ضمنًا على معنى الحرب المستمرة وبدون استفزاز ضد العالم الذي لا يؤمن به، إلى أن يتم إخضاعه للإسلام، نقول أنّ هذا يمكن أن يكون موضع الشك. إنّ الأحاديث صريحة بصدد هذه النقطة، ولكن الآيات القرآنية تتحدث باستمرار عن الكفار الذين يجب إخضاعهم لأنّهم خطر، وليس لأنّ لا أمان لهم، ومع ذلك فقصة الكتب التي بعث بها إلى الدول المحيطة به تبين أنّ مثل هذا الموقف العالمي كان واضحًا    في ذهنه، وهو موقف نشأ بالتأكيد بعد وفاته  .[5]    ويتناقض الكاتبان مع نفسيهما فيقولان “أما الذين يُوّجه الجهاد ضدهم، فيجب أن يدعوا أولاً إلى اعتناق الإسلام، فإذا أبو خُيروا بين أن يخضعوا للحكم الإسلامي ويصبحوا ذميين، ويعطوا الجزية والخراج وبين القتال، وفي الحالة الأولى تُؤمّن أرواحهم وآلهم وأموالهم، ولكنهم بالقطع يشكلون منزلة أدنى، ولا تكون لهم مواطنية بالمعنى الغني، وإنّما هم موالي فقط، وإذا قاتلوا جاز استرقاقهم هم وأسرهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم باعتبارها غنيمة يؤول أربعة أخماسها إلى الجيش الفاتح، وإذا دخلوا في الإسلام، ولهم أن يفعلوا هذا، ولو كانت جيوش الطرفين وجهًا أصبحوا جزءًا من الأمة الإسلامية لهم كافة حقوقها وعليهم كافة واجباتها  .[6]    فبعدما يقولا :  إنّ نشر الإسلام بالسلاح فرض ديني، نجدهما يتراجعان فيقولا :” إنّ الذين يوجه الجهاد ضدهم يجب أن يدعوا أولاً إلى اعتناق الإسلام “. زعم أوليري أنّ الإسلام ذا طابع عسكري   يقول أوليري [7]أنّ الإسلام أصبح دينًا ذا طابع عسكري، لأنّه انتشر في الوقت الذي بدأوا فيه يشتغلون بالتوسع والفتح  .”[8] موقف وات من الجهاد          يقول مونتجمري وات [9]عن نزول آية الجهاد :” وقد تلقى المسلمون قبل بدر[10]، عن طريق الوحي الإلهي، الأمر كالتالي(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).[11] ويقرر وات من عنده أنّ الأنصار لم يكونوا متحمسين للجهاد فيقول :” ونستطيع القول بأنّ الأنصار لم يكونوا متحمسين حتى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية، ولاشك أنّهم كانوا يقولون بهذا الصدد، فإذا أنزلت سورة محكمة، وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نشر الغشي، من الموت” وقد نشأت ضرورة في ذلك الوقت “أو فيما بعد بقليل” تدعو لعدم تحكيم محمد في الخلافات [12]    لست أدري من أين استقى وات قوله بإنّ القرآن  وكتب الطبقات يعرضون صورًا متكاملة عن عدم الرضا الذي كان سائدًا في المدينة حول سياسة محمد صلى الله عليه وسلم؟ هذه هي النظرة الاستشراقية البريطانية للجهاد، ونلاحظ أنّ المستشرقين البريطانيين اليهود صوروا الجهاد في الإسلام، نهب وقطع طرق، أمّا المستشرقون المسيحيون فنجد منهم من صور الإسلام أنّه انتشر بالسيف “هاملتون جب وكالمرز” ومنهم من اعتبر أنّ الجهاد لم ينص على مقاتلة اليهود والنصارى الفريد جيوم أمّا وات فيقرر ويستنتج كعادته، ويزعم أنّ الأنصار لم يكونوا متحمسين للجهاد، وأنّ القرآن يعرض صورًا كاملة عن عدم الرضا عن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم .  وطبقًا للمفاهيم الخاطئة لآيات الجهاد نقرأ في كتب التفاسير بعضًا ممَا يردده المستشرقون من مزاعم وأباطيل، دون التحري من صحة الأحاديث التي ينسبونها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فهذا النص للإمام ابن كثير في تفسيره لآية (4) من سورة محمد: )فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) قد ادعى بعض العلماء أنّ هذه الآية – المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه – منسوخة بقوله تعالى : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ] ) الآية [التوبة : 5]، رواه العوفي عن ابن عباس . وقاله قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جريج . وقال الآخرون – وهم الأكثرون – : ليست بمنسوخة[13] . ثم قال بعضهم: إنّما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله . وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء؛ لحديث قتل النبي – صلى الله عليه وسلم – النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر[14]، وقال ثمامة بن أثال لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قال له : ” ما عندك يا ثمامة ؟ ” فقال : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . وزاد الشافعي، رحمه الله، فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه، أو مفاداته أو استرقاقه أيضا[15]. وهذه المسألة محررة في علم الفروع ، وقد دللنا على ذلك في كتابنا ” الأحكام ” ، ولله الحمد والمنة . وقوله:(حتى تضع الحرب أوزارها) قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم [عليه السلام] . وكأنّه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال ” . وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إبراهيم بن سليمان، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي  عن جبير بن نفير أنّ سلمة بن نفيل أخبرهم: أنّه أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنّي سيبت الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت:” لا قتال ” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:” الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله قلوب أقوام فيقاتلونهم: ويرزقهم الله منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . ألا إنّ عقر دار المؤمنين الشام، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ” .  وهكذا رواه النسائي من طريقين، عن جبير بن نفير، عن سلمة بن نفيل السكوني به . وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم[16]، عن محمد بن مهاجر[17]، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي[18]، عن جبير بن نفير، عن النواس بن سمعان قال : لما فتح على رسول الله  صلى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله، سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، قالوا: لا قتال، قال : ” كذبوا، الآن  جاء القتال، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم، فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام ” . وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به. والمحفوظ أنّه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم . وهذا يقوي القول بعدم النسخ، كأنّه شرع هذا الحكم في الحرب إلى ألا يبقى حرب . وقال قتادة : ( حتى تضع الحرب أوزارها ) حتى لا يبقى شرك.  أمّا الإمام الطبري فخلاصة تفسيره لهذه للآية : 1.    “اختلف أهل العلم في قوله (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) فقال بعضهم: هو منسوخ نسخه قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ . 2.    وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقالوا: لا يجوز قتل الأسير، وإنّما يجوز المن عليه والفداء. 3.    أنّ الإمام الطبري يرى أنّ  هذه الآية محكمة غير منسوخة، فيقول : “وذلك أنّ صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيَّنا في غير موضع في كتابنا إنّه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة, أو ما قامت الحجة بأنّ أحدهما ناسخ الآخر.” 4.    لم يستنكر الإمام الطبري جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم, وإلى القائمين بعده بأمر الأمة, وإن لم يكن القتل مذكورًا في هذه الآية, لأنّه قد أذن بقتلهم في آية أخرى, وذلك قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ … الآية، بل ذلك كذلك. 5.     قوله إنّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرًا في يده من أهل الحرب, فيقتل بعضًا, ويفادي ببعض, ويمنّ على بعض, مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرًا, وقتل بني قُرَيظة, وقد نـزلوا على حكم سعد, وصاروا في يده سلمًا, وهو على فدائهم, والمنّ عليهم قادرًا”.   وقد وقع الإمامان الطبري وابن كثير  في خطأ منهجي كبير؛ إذ كان من الضرورة بمكان  أنّ يبيّنا من هو عقبة بن أبي معيط[19]، كما أخطأ الإمام الطبري لعدم ذكره نقض بني قريظة للعهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في وثيقة المدينة بتحالفهم مع الأحزاب ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقد طلبوا أن يحكم عليهم حليفهم في الجاهلية سعد بن معاذ، وارتضوا بحكمه، فحكم بقتل رجالهم 6.     وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر, ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ, وهو أسير في يده, ولم يزل ذلك ثابتًا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم, إلى أن قبضه إليه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دائمًا ذلك فيهم.     وليس دفاعًا عن المستشرقين/ ولكن ما ذكره الإمامان الطبري وابن كثير في تفسيرهما لهذه الآية  لا يختلف عن مزاعم المستشرقين، وفي مقدمتهم المستشرقيْن اليهودييْن مارجليوث وبرنارد لويس؟    فمن المؤسف حقًا أنّ علماءنا ومؤرخينا الأوائل قد ساعدوا المستشرقين في توجيه طعناتهم وافتراءاتهم الباطلة ضد الإسلام، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما يقرأ المستشرقون تفسير هذه الآية للطبري وابن كثير – الذي استند إلى أحاديث لم يتثبّت من صحتها في تفسيره لهذه الآية – فسيستغلونها في توجيه افتراءاتهم ومزاعمهم الباطلة مستدلين بما ذكره الإمامان الطبري وابن كثير في تفسيرهما لهذه الآية، فكيف سترد عليهم، وعلى غيرهم في ما يوجهونه من افتراءات  أُخرى إن لم يُنقّ تراثنا  من كل المفاهيم الخاطئة والروايات الضعيفة والموضوعة والشاذة التي يتناقلونها من بعض كتب تراثنا في كتاباتهم عن الإسلام والسيرة النبوية. وهذا ما عكفتُ عليه قرابة ربع قرن، وواجهتُ ولا زلتُ أُواجه هجومًا من مقدسي أقوال علمائنا الأوائل رغم بياني مخالفاتها الواضحة للقرآن الكريم والسنة الفعلية والقولية الصحيحة، والوقائع والشواهد التاريخية. المنظور الإسلامي للجهاد    وللرد على ما أثاره مستشرقو المدرسة الإنجليزية من شبهات حول الجهاد في الإسلام، وحروبه صلى الله عليه وسلم، سأبين أولًا المنظور الإسلامي للجهاد  طبقًا للفهم الصحيح، وأسباب تشريعه، وكيف نظّم الإسلام العلاقات مع الأمم الأخرى، والأسس التي وضعها في الصلح وعهد العهود والمواثيق  وأحكام الأسرى والسبايا، وهذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله،

فللحديث صلة. Suhaila_hammad@hotmail.com


Leave a Reply