سهيلة زين العابدين حمّاد خاص بمدوّنة الدكتورة سهيلة زين العابدين حمّاد الإثنين الموافق 25/11/ 2019م
الحرب ظاهرة اجتماعية قديمة صاحبت الإنسان منذ نشأته على الأرض، والرغبة في الحروب عند بعض الشعوب البدائية هي الغالبة على الرغبة في السلم خوفًا من انقضاض عدوها عليها فتظل متربصة متحفزة حتى لا يأخذها على غرة، فإذا حست بالأمان فكرت في بسط سلطانها وفرض إرادتها على الآخرين، لأنّ مقياس العزة آنذاك كان هو القهر والتسلط، فالإنسان منذ بدء الخليقة منقض علي عدوه، أو هدف لانقضاض عدوه عليه، قد يكون صاحب حق يدافع عنه، وقد يكون باغيًا لا يهدف من حربه إلّا التسلط والعدوان. ولقد سجل القرآن الكريم هذا التدافع البشري والخلاف بين الناس في قوله عز وجل:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[1] يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية “ أي لولا أن يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف . ويقول عز وجل:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [2] والدفع من السُنن العامة، وهو ما يعبر عنه الفلاسفة بتنازع البقاء، فالحرب طبيعية في البشر[3] ، ولن أستعرض الحروب عند الأمم القديمة، ولكن سأكتفي بتوضيح فكرة الحروب في الديانتين السابقتين للإسلام اليهودية والمسيحية، لأنّ للمستشرقين موقفًا من تشريع الإسلام للجهاد، ومن حروبه صلى الله عليه وسلم ، وعندما نتعرف على فكرة الحروب في هاتين الديانتين المحرفتين، ونقارنهما بأحكام الجهاد في الإسلام سيكون خير رد على ما يثيره المستشرقون من شبهات حول مشروعية الجهاد في الإسلام . الحرب عند اليهود لارفكرة الحروب عند اليهود فكرة أساسية تعبر عن علاقتهم بغيرهم من الأمم، وقانونهم هو السن بالسن، وربهم هو رب الانتقام، وهم يعتقدون أنّهم أرقى الشعوب، وأنّ غيرهم على سائر الأجناس منحة ربانية، أعطاهم الرب إياها{أنتم أولاد الرب إلهكم، لأنّكم شعب مقدس للرب إلهك، وقد أختارك الرب لكي تكون له شعبًا خاصًا فوق جميع الشعوب على وجه الأرض} .[4]هذه الخاصية التي أنفرد بها اليهود في زعمهم، ولم تعط لشعب من الشعوب غيرهم جعلتهم ينظرون إلى الحرب على أنّها الوسيلة المشروعة لتحقيق وعد الرب، وجعلتهم يتمادون في الغرور حتى ظنوا أنّهم “شعب الله المختار “. ومن ثم فإنّ حروبهم تدميرية لم يحظرها محرّفو التوراة عليهم بل أباحوها ومجدوها، ولم يضع القيود عليها، فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم، فقتلوا الرجال واستعبدوا النساء والأطفال وأحرقوا البيوت “فتضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرمها[5] بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف.. تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلاً إلى الأبد لا تبنى بعد ” [6] فالتدمير في حد ذاته من غايات الحرب، فهم يُحوِّلون المدن العامرة إلى أطلال خربة، ولا يريدون لها أن تقوم بعد ذلك، وكأن ّهذا التدمير والخراب من أجل “ الرب إلهك “. العهود عند اليهود إذا عقد اليهود الصلح مع أعدائهم، فهم يستعبدون عدوهم بهذا الصلاح، ويستبيحون أرضه، ولا لهم من هذا الصلح إلا اسمه فقط لا حقيقته، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح العشرون “حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإنْ إجابتك إلى الصلح، وفتحت لك.. فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك.. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، أمّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة.. كل غنيمة تغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك” وجاء في الكتاب الخامس من الزبور” إذا أدخلك ربك في أرض لتملكها وقد تملك أممًا كثيرة من قبلك فقاتلهم حتى تفنيهم عن آخرهم، ولا تعطهم عهدًا ولا تأخذك عليهم شفقة أبداً” [7]،وكما يكون اليهود في حروبهم وحوشاً وسيلتهم التسخير وغايتهم التدمير، فإنهم كذلك في أعقاب الحروب ينهبون الغنائم ولا يخضعون لقاعدة في الأسر والسبي. إذا خرجت لمحاربة أعدائك ودفعهم الرب إلهك إلى يدك، وسبيت منهم سبيًا ، ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة، والتصقت بها واتخذتها لك زوجة فحين تدخلها إلى بيتك تحلق رأسها، وتقلم أظافرها وتنزع ثياب سبيها عنها ..”[8] التثنية : الإصحاح العشرون “. هذه النصوص المحرفة من التوراة تفسر لنا عدم التزام اليهود بالأعراف الدولية ولا بالقانون الدولي في الحروب، فهم مؤمنون بهذه النصوص المُحرّفة، ويطبقون هذا الفهم والتفسير على معاملاتهم ويودون أن يفرضوا هذا التطبيق على شعوب العالم. فكرة الحرب عند المسيحيين ليس لدى المسيحيين تنظيم ديني للحرب، فلم يكن السيد المسيح عليه السلام مشرعًا في المسائل الداخلية ولا في المسائل الدولية، ولكنه كان داعيًا إلى تطهير النفوس بترويضها روحيًا على مبادئ الأخلاق، فجاء في الإصحاح الخامس من إنجيل متى[9]” سمعتم أنّه قيل العين بالعين والسن بالسن ،أمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الإنسان الشرير. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأخر، ومن أراد أن ينازعك ويأخذ ثوبك ، فاترك له رداء [10]، ومن سخرك بأن تسير ميلًا واحدًا فاذهب معه ميلين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده خائبًا. سمعتم أنّه قيل أحب قريبك وأبغض عدوك. أمّا أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. واعدوا لمضطهديكم، أحسنوا إلى مبغضكم وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم، ويضطهدوكم فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فهو يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والظالمين. فإن أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم، ألا يفعل حتى العشارون هكذا . وإن رحبتم بإخوانكم فقط، فأي فضل لكم على الآخرين؟ لا يفعل حتى الوثنيون هكذا . فكونوا أنتم كاملين . كما أنّ أباكم الذي في السماوات كامل . هذا ويستند أنصار الرأي القائل بتحريم الحرب تحريمًا مطلقًا إلى قول السيد المسيح عليه السلام للقديس بطرس :”أعد سيفك إلى مكانه، لأنّ كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون” على هذا تكون المسيحية تحرم الحرب.[11] ولقد بذل رجال من المسيحيين حياتهم في سبيل التمسك بتحريم الحرب، بل تحريم صناعة الجندية، وبذل آخرون جهودًا جبارة في سبيل التوفيق بين نص الإصحاح الخامس من إنجيل متى، ونص الإصحاح العاشر من نفس الإنجيل الذي يتناقض مع الإصحاح الخامس إذا جاء في الإصحاح العاشر هذا النص:” لا تظنوا أني جئت لأحمل سلامًا إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاحًا، بل سيفًا . جئت لأجعل الابن يختلف عن أبيه والابنة مع أمها، وزوجة الابن مع حماتها، فيكون خصوم المرء من أهل بيته “. وجاء في إنجيل لوقا الإصحاح الثاني عشر هذا النص: “أتظنون أنّي جئت لأجلب على الأرض سلامًا؟ أقول لكم كلا بل انقسامًا، الآن سيكون خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة ضد اثنين، واثنان ضد ثلاثة، فيعادي الأب ابنه، والابن أباه، وتعادي الأم ابنتها، والابنة أمها، والحماة زوجة ابنها وزوجة الابن حماتها .[12] وبتناقض هذه النصوص بين تحريم الحرب وإباحتها، أُثير الجدل حول ماهية الحرب العادلة فحددوها، ووصلوا إلى قرار أنّ الحرب التي قادها الحاكم أو الأمير ينبغي أن تكون عادلة، واشترطوا فيمن يعلنها أن يكون سليم النية صادقًا بلا طمع ولا وحشية، وفي القرن الرابع الميلادي وتحت قيادة الإمبراطور قسطنطين الروماني، اضطرت الإمبراطورية الرومانية المسيحية أن تستأصل شأفة الوثنية من المملكة الرومانية بالحديد والنار .[13] هذا ولم تكد تظهر نظريات الحرب في المسيحية، ولم يكد يقول رجال الدين المسيحي وعلماء اللاهوت مشروعية الحرب حتى تخلى الراغبون فيها عن فكرة تقسيمها إلى مشروعة وغير مشروعة، وانطلقوا يرفعون راية الحرب باسم الرب، وقررت الكنيسة في العصور الوسطى أنّه يستحيل مسالمة الكفار المسلمين، فهم لا يستحقون أية رأفة، وينبغي القضاء عليهم[14] ، كما نجد بعض كتّاب القانون الدولي في الغرب قد أدخلوا المسلمين في عداد الشعوب الهمجية التي يجب ألا تنال شرف الانتساب للجماعة الدولية ومن هؤلاء الكتّاب “تيودور رويش” حيث قال في كتابه “لمن الحق في الحرب ” يكفي تمجيدًا للكنيسة أنّها أقنعت المسيحية بوحدتها وبوجوب تكوين جمعية دولية تقوم في وجه المسلمين الهمج “٢”. ولن ينسي التاريخ قط الحروب الصليبية التي قامت تحت أعلام المسيحية وباسم الرب، وقد وصفها جيبون وهو من كتّاب الغرب بأنّها “تركت في التاريخ أقصى ما عرف من التعصب لها ليس ضد المسلمين فحسب، بل ضد مسيحي الشرق؛ إذ أنّهم بمجرد الاستيلاء على أورشليم اتهموهم بالإلحاد والتمرد على السلطة الشرعية سلطة البابا فاضطهدهم وحاربوهم وشردوهم ولقي مسيحو الشرق ذلك بحسرة وألم مقارنين ذلك بما لا قوه من سماحة المسلمين. إنّ الصليبيين خدام الرب يوم أن استولوا على بيت المقدس في 15/7/1099م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء وفي مذبحة استمرت ثلاثة أيام، ولم تنته إلّا لما أعياهم الإجهاد من القتل .[15] موقف المستشرقين الإنجليز من الجهاد الإسلامي وحروب الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه هذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله، فللحديث صلة. البريد اليكتروني suhaila_hammad@hotmail.com
[1] – الحج : 40.
[2] – البقرة :251.
[6] – التثنية : 13.
[8] – التثنية :الإصحاح العشرون.
[9] – إنجيل متى : 5/38-48،ص 60،دار المعارف ـ
القاهرة.
القاهرة.
[10] -إنجيل لوقا : إصحاح 6: 37-39،ص 50.
[15] – المرجع السابق : 42-43.