سهيلة زين العابدين حمّاد
نُشر في جريدة المدينة السبت الموافق 29/9/2018م

   أود أن
أوضح حقيقة هامة قبل أن أتوقف عند عنوان كتاب الإمام ابن  القيم – رحمه الله – ” إعلام المُوقعين عن
ربِّ العالمين” أنّ علماءنا الأوائل قد اجتهدوا بقدر ما حملوه من علم وفكر،
ولكن لا يعني أنّ كل ما قالوه صواب غير قابل للنقد والمراجعة، وبيان ما فيه من
أخطاء إن كانت هناك أخطاء فيما ذهبوا إليه، فهم ليسوا بأنبياء معصومون من الخطأ،
وهذا لا يُقلِّل من قيمتهم ومكانتهم العلمية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل الفتوى
توقيع عن الله، كما قال الإمام ابن القيِّم؟
وجوابًاً عن هذا السؤال، أقول:

أولًا: إنّ الإمام الجليل ابن القيم قد خانه
التوفيق في هذا المسمى، لأنّه لا يجرؤ مخلوق التوقيع عن الخالق جل شأنه، وإن كان
الله جل شأنه لم يُفوّض أنبياؤه ورسله المعصومين من الخطأ التوقيع عنه، فكيف
يُفوِّض الإمام ابن القيم البشر بذلك؟ فالله جل شأنه هو العالم بقصور فهمهم وبتحكم
الأهواء فيهم، وعدم تحررهم من موروثات مجتمعاتهم الفكرية والثقافية في الجاهلية،
والتي لم يتحرر منها الإمام ابن القيّم ذاته؛ إذ نجده قال في كتابه” إعلام
الموقعين عن رب العالمين:“إنّ
السيد قاهر لمملوكه، حاكم عليه، مالك له، والزوج قاهر
لزوجته، حاكم عليها، وهى
تحت سلطانه وحكمه شبه الأسي.”[ابن القيم: إعلام
الموقعين،ج2 ص106.طبعة بيروت سنة
1973]
فهل هذا هو حكم الخالق جل شأنه، حتى
يُعطى لقائله حقّ التوقيع عنه جلّ شأنه؟
    ثانيًا: قد حدّد الله مهام أنبيائه ورسله
التي لا تتعدى عن البلاغ والإنذار، ولنقرأ معًا هذه الآيات:
﴿يا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[المائدة:67]
﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ
اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى
بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب:38-39]
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل:125]
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[آل
عمران:159]
(وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
﴾[الإسراء:105]
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[سبأ: 28]
﴿تبارك
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.﴾[الفرقان:1]
﴿فإن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل:82]
﴿ومَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾[النور:54]
فلا توجد آية في القرآن الكريم فيها
تفويض من الله لأنبيائه بالتوقيع عنه، بل نجده جلّ شأنه يقول لنبيه محمد صلى الله
عليه وسلم:
﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن
يَشَآءُ
﴾[القصص:56]
ويقول
جل شأنه:﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ. ومَا كَانَ لِنَفْسٍ
أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ
يَعْقِلُونَ﴾[يونس: 99-100]
ثالثًا:
لو اعتبرنا الفتوى توقيع عن الله فهي تكون ملزمة وليست مُعلمة، مع أنّها مُعلمة.
رابعًا:
إنّ الإنسان لا يحق له التوقيع عن أخيه الإنسان إلّا بتوكيل منه على ذلك، فهل الله
وكّل المُفتين بالتوقيع عنه؟
خامسًا:
إن كانت الفتوى توقيع عن رب العالمين، فهذا يعني تُنسب للخالق جل شأنه كل الفتاوى
الخاطئة والتي تقلل من شأن المرأة وتسلبها كثير من حقوقها، وتنتقص أهليتها، إلّا
عند تطبيق عليها الحدود والقصاص والتعزيرات، وفيما عدا ذلك تجعلها تحت الوصاية
الذكورية من الميلاد إلى الممات
…, وكذلك
الفتاوى التكفيرية التي تستبيح دماء من يُكفّرُون!!!
للحديث
صلة
.
المصدر:
جريدة المدينة
https://www.al-madina.com/article/591042/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%AA%D9%88%D9%89-%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%8A%D8%B9-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%B9%D8%B2-%D9%88%D8%AC%D9%84-(1)

Leave a Reply