سهيلة زين العابدين حمّاد
السبت 17/6/2017م

  
أثبّتُّ في الحلقة الماضية أنّ القرآن الكريم حُفظ في الصدور والسطور معًا
في آنٍ واحد، وأنّ ترتيب الآيات ، وأسماء السور وترتيبها  توقيفي من عند الله، هذا وقد كُتب القرآن
الكريم في صحف متفرقة، فبُدِأ جمعه في عهد أبي بكر رضي الله عنه سنة 12هـ، وذلك
عند استشهاد  أكثر من سبعين  من قراء الصحابة في موقعة اليمامة، فقد  اشتد ذلك على الصحابة،

ولاسيما على عمر بن
الخطاب رضي الله عنه فاقترح على أبي بكر رضي الله عنه أن يجمع القرآن الكريم؛ خشية
ضياعه بموت الحفاظ واستشهاد القراء، فتردد أبو بكر لأول الأمر ثم شرح الله صدره
لما شرح له صدر عمر، فكان هو أول من جمع القرآن بين اللوحين، وكان أحد الذين حفظوا
القرآن كله. وأوكل لزيد بن ثابت مهمة جمع القرآن باعتباره كان أحد كتبة الوحي، وقد
استثقل زيد بن ثابت المهمة، إلّا أنّه حينما شرح الله له صدره باشر بها، وبدأ
بجمع القرآن بوضع خطة أساسية للتنفيذ، اعتمادًا على مصدرين هامين، وهما:

1.   
ما كُتب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وبإملاء منه، وكان زيد نفسه
من كتاب الوحي
.
2.   
ما كان محفوظًا لدى الصحابة، وكان هو من حفاظه في حياته صلى الله عليه
وسلم. وكان لا يقبل شيئًا من المكتوب، حتى يتيقن أنّه: مما كتب بين يدي الرسول صلى
الله عليه وسلم، وذلك بشهادة شاهدين عدلين. وأنّه مما ثبت في العرضة الأخيرة
.
     يدل
على ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر،
فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به،
وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد
شاهدان.[ كتاب المصاحف:1/181-182، وابن حجر في الفتح: 9/15]
كما يدل عليه ما أخرجه ابن أبي داود أيضًا، ولكن من طريق هشام بن عروة
عن أبيه أنّ أبا بكر قال لعمر وزيد:” اقعدا على باب المسجد، فمن جاء كما
بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه
“. [كتاب
المصاحف 1/169، وانظر جمال القراء 1/86، والفتح 9/14]
وقال السخاوي: “المراد بشاهدين: رجلان عدلان يشهدان على أنّه كتب
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنّه من الوجوه السبعة التي نزل بها
القرآن.” [جمال القراء وكمال الإقراء:1/86
.]
ولم يعتمد زيد على الحفظ وحده، ولذلك قال في حديث البخاري، إنّه لم
يجد آخر سورة براءة مكتوبة إلّا مع أبي خزيمة الأنصاري، مع أنّ زيدًا كان يحفظها، وكان
كثير من الصحابة يحفظونها كذلك، ولكنه أراد أن يجمع بين الحفظ والكتابة، زيادة في
التوثق، ومبالغة في الاحتياط
.

     وهكذا جمع القرآن في صحف بإشراف أبي بكر وعمر
وأكابر الصحابة، وتنفيذ زيد ابن ثابت وأجمعت الأمة على ذلك دون نكير، فامتازت بأدق
وجوه البحث والتحري، وأسلم أصول التثبت العلمي، وظفرت بإجماع الصحابة عليها، وعلى
تواتر ما فيها ،
وهذا يؤكد أنّه لا يوجد ناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، لأنّ الذي جمع
في مصحف أبي بكر رضي عنه، ما ثبت اعتماده في العرضة الأخيرة، وهو الأساس الذي كان
عليه مصحف عثمان رضي الله عنه، وهو المصحف المتداول بين أيدينا الآن.
   
ومن المؤسف  انخداع  بعض الكتاب والمفكرين والباحثين المسلمين في دراساتهم
القرآنية بما يشاع من أنّ العلماء أو الباحثين الغربيين أو بالأحرى المستشرقين
متَّصفون بصفة البحث العلمي وبالموضوعية وتحري الصِّدق والدقة في الاستنتاج وعدم
التعصب للآراء والأفكار[1]،
فتأثّر بعضهم  بادعاء المستشرق الفرنسي
” بلاشير” (توفي 1973م) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم   لم يعط أهمية لكتابة النص القرآني في حياته،
ولاسيما في العهد المكي الذي امتد حوالي ثلاثة عشر عامًا، وبقي مفهوم القرآن المكي
النازل بمكة والمحفوظ في ذاكرة المسلمين المكيين. وإنّما بدأ بكتابة المقاطع
الهامة من القرآن المنزل عليه في السنوات الأولى من العهد المدني، وذلك بقصد إثارة
الشبهات حول سلامة النص القرآني وحفظه من الضياع، باعتبار أنّ القرآن المكي يمثل
ثلثي القرآن الكريم تقريبًا.
فقال البعض من أولئك المتأثرين بمزاعم
” بلاشير” حول القرآن المكي: ” إنّ القرآن المكي وعدد سوره ((86)
سورة حفظ في الصدور في مكة وكتب في السطور في المدينة مع القرآن المدني، لأنّ
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب مهتمًا بكتابته آنذاك.
 
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل النص القرآني ، نص إلهي ، أم بشري للرسول صلى
الله عليه وسلّم حتى يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم متى يكتبه ؟
 فالقرآن نص إلهي تعهّد الله بحفظه بطريقة يكون
نصًا صحيحًا موثوقًا لا ريب فيه، ولا يكون كذلك إلّا بحفظه في الصدور والكتابة
معًا في آن واحد. فكُتب القرآن الكريم المكي والمدني فور نزوله، ويوجد كتّاب للوحي
المكي، كما يوجد كُتّاب للوحي المدني.
  ثمّ أنّ
الحفظة المكيون الذين حفظوا القرآن المكي، هم أنفسهم كانوا مع الرسول صلى الله
عليه وحوله عند نزل القرآن المدني، فما الجديد الذي جدّ حتى اهتم فجأة الرسول صلى
الله عليه وسلّم بكتابة القرآن، وأمر بكتابة القرآن المكي المحفوظ في صدور كبار
الصحابة المهاجرين المكيين بعد هجرته إلى المدينة المنورة؟
 إنّ مبررات المتأثرين بمزاعم بلاشير واهية ، يُدحِّضها
الآتي:
1.    أنّ القرآن المكي كُتِب بلا أسانيد، مثله مثل القرآن المدني ، وهذا
دليل على أنّه كتب فور نُزوله.
2.    كيف يكون القرآن المكي لم يُكتب فور نزوله مثله مثل القرآن المدني ،
وأوّل كلمة نزلت من القرآن كانت ” إقرأ ” ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.)[ العلق : 1- 5] وسورة
القلم سورة مكية، والتي أقسم الله فيها بالقلم وما يُسطِّره، ــــ ولله القسم بما
شاء من خلقه، وليس للمخلوق القسم بغير الله ــــ ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا
يَسْطُرُونَ ) وسورة الإسراء ، وهي سورة مكية ، وفيها قوله تعالى : ( وَكُلَّ
إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا . اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا.)[الإسراء: 13ـــ 14] وقوله تعالى في الآية (58) من
سورة الإسراء:(وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚكَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُورًا ) فكيف يُقال بعد كل هذا أنّ القرآن المكي لم يُكتب في مكة المكرّمة فور
نزوله ، وكُتب في المدينة المنورة  بعد كل
هذه الآيات المكية لعدم وجود اهتمام  بالكتابة في الدور المكي؟
3.    قصة إسلام عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وذلك عندما قيل له : : أختك
فاطمة  وزوجها اتبعتوا محمدًا،  فقال عمر أو قد فعلت ؟ فقال الصحابي : نعم،
فأنطلق سيدنا عمر  مسرعًا غاضبًا إلى دار
سعيد بن زيد زوج أخته فاطمة، فطرق الباب وكان سيدنا خباب بن الأرت يعلم السيدة
فاطمة وسيدنا سعيد بن زيد القرآن، فعندما طرق عمر 
الباب فتح سيدنا سعيد بن زيد الباب فأمسكه عمر، وقال له : أراك صبأت ؟ فقال
سيدنا سعيد يا عمر : أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فضربه سيدنا عمر، وأمسك أخته،
 فقال لها : أراكى صبأتي ؟ فقالت يا عمر :
أرأيت إن كان الحق في غير دينك ؟ فضربها ضربة شقت وجهها , فسقطت من يدها صحيفة (
قرآن ) فقال لها   ناوليني هذه الصحيفة،  فقالت له السيدة فاطمة رضى الله عنها : أنت مشرك
نجس اذهب فتوضأ ثم اقرأها ، فتوضأ عمر، ثم قرأ الصحيفة وكان فيها ( طه . مَا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى .  تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى . الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى . لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى .)[
سورة طـه :1-6] فأهتز عمر،   و قال ما هذا
بكلام بشر ثم قال  أشهد أنّ لا إله إلا
الله وأنّ محمدًا رسول الله وقال: “دلوني على محمد”، وذهب إليه ونطق
بالشهادتيْن أمامه.
  فهذا أكبر دليل على كتابة القرآن المكي .
4.   
ممن
كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم قبل الهجرة النبوية ، وا
شتـهروا ككـتبة للوحي 
:1. أبو بكر الصديق، 2. عمر بن الخطّاب ، 3. عثمان بن عفّان ، 4.علي بن أبي
طالب، 5. الأرقم بن الأرقم، 6. عامر بن فهيرة، 7. خالد بن سعيد بن العاص، 8. حمزة
بن عبد المطلب، 9. سعيد بن زيد، 10. شرحبيل بن حسنة، 11. معيقيب بن أبي فاطمة
الدوسي، 12. مصعب بن عمير، 13. عبد اللّه بن مسعود، 14.  الزبير بن العوام، 15.   خباب بن الأرت، 16.  حاطب بن أبي بلتعة، 17.  طلحة بن عبيد اللّه، 18 سعد بن أبي وقاص،  19.جعفر بن أبي طالب، 20. أبو سلمة عبد اللّه
بن عبد الأسد،  21. حاطب بن عمرو،  22.عبد اللّه بن حذافة السهمي، 23.  أبو عبيدة الجراح، 24. عبد اللّه بن أبي بكر
الصديق، 25. عبد الرحمن بن عوف … وغيرهم.
فالقرآن
المكي  كتب كله في مكة فور نزوله، وتم نقله
من مكة إلى المدينة عن طريق الصحابة الذين كانوا ينتقلون بينهما من المهاجرين
والأنصار أمثال رافع بن مالك. كما أنّ المسلمين قد استخدموا الجلد الرقيق، ونوعًا
من الورق ـ الورق البردي ـ قبل ظهور الورق الصيني لكتابة القرآن الكريم وغيره، فما
يروى من أنّ القرآن قد جمع من العسب واللخاف والأكتاف…الخ، إنّما ورد في مجال
التتبع  والجمع الذي أريد به إشراك كل من
عنده شيء من المكتوب في عهد أبي بكر رضي اللَّه عنه، ومن باب الاحتياط لزيادة
توثيق النص القرآني[2].
للحديث صلة.
Suhaila_hammad@hotmail.com



[1] .
وهذا
خلاف الواقع، فمن خلال دراستي لمناهج المستشرقين في كتاباتهم عن السيرة النبوية في
دوريها المكي والمدني وفي القرآن الكريم والسنة النبوية، والتشريعات المدنية تبيّن
لي أنّ  كتابتهم بعيدة كل البعد عن الحيدة
والموضوعية، والمنهج العلمي، وهذا ما أثبته في رسالتي للدكتوراة ” السيرة
النبوية في كتاب المستشرقين ـدراسة منهجية تطبيقية عـلى المدرسة الإنجليزية
“.
[2] .عبد
الرحمن عمر محمد اسبينداري: كتابة القرآن الكريم في العهد المكي، نشر المنظمة
الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.

One Comment

Leave a Reply