د. سهيلة زين العابدين حمّاد

الثلاثاء
22/6/2016

أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي يذاع الخامسة والنصف عصرًا في
قناة روتانا خليجية ،ويقدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور
عدنان إبراهيم، ومن الحلقات التي تستدعي التوقف عندها   حلقة (15)
” معارك المعازف والموسيقى”، فقد تفوّق الدكتور عدنان إبراهيم على نفسه
في هذه الحلقة، فسدّ جميع منافذ الذين يُحرِّمون الغناء والموسيقى بذكر أدلة صحيحة
عن إباحة الغناء والموسيقى، في مقدمتها حديث البخاري  في باب ضرب الدف في النكاح والوليمة من كتاب
النكاح، وهو :

 
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث في ” فتح
الباري”
وأخرج
الطبراني
في ” الأوسط ” بإسناد حسن من حديث عائشة رضي
الله عنها:
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مر بنساء من الأنصار في عرس لهن وهن يغنين : وأهدى لها كبشا تنحنح في المربد وزوجك في البادي وتعلم ما في غد” قال المهلب: في هذا الحديث إعلان النكاح بالدف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإمام إلى
العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح”
.
                          وكذلك ما أخرجه
 البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر،
فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: «دعهما إنّ لكل قوم عيدًا، وإنّ عيدنا  هذا اليوم».                                                                   
                            و
جاء في   في صحيح البخاري أنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان ينشد مع أصحابه:
وهناك أدلة أخرى ساقها الدكتور عدنان على إباحة الغناء كقوله إنّ
سيدنا عمر بن الخطاب كان يُغنّي عندما يكون مختليًا بنفسه.
وليس بغريب عن الإسلام أن يُبيح الغناء
والموسيقى ،لأنّه دين الفطرة، والموسيقى والغناء من الأمور الفطرية التي فطر
الله النّاس عليها، بدليل أنّ كل الأمم والشعوب في كل الأزمان والأمصار لها تراث
غنائي وموسيقي، فنظرةُ الإسلام  إلى
الإنسان
نظرةً شامله لم تقم على التجزئة،
وإنّما على التوازن. الإنسان في الإسلام مادة وروح، فهو مزيج من قبضة من طين
الأرض ونفحة من روح الله امتزج الاثنان في كيان واحد مترابط رغم اختلافهما ، ويوضح
هذا قوله تعالى في سورة ص (إِذْ قَالَ
رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا

مِنْ
طِينٍ. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)[1]  وقد تعامل الإسلام مع الإنسان وفق هذه النظرة
ووضح تعاليمه له موازنًا فيها بين المادة والروح، فلا يبخس للجسد حقًا  ليوفي حقوق الروح فيحرم المباح، ولا يبخس
للروح حقا ليوفي حقوق الجسد فيبيح المحرمات (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ
مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ
كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
[2]
    وهنا
تتجلى معجزة الإسلام في مراعاته لطبيعة الإنسان؛ إذ وازن بين رغباته الحيوانية
وسموه الملائكي، فالإنسان في نظر الإسلام من حيث طبيعته موحد بين النواحي المادية
والروحية والحاجات النفسية، فلا يجزّءه، فيؤمن بحيوانية الإنسان أي ماديته
كالداروينية التي نشأت عنها المذاهب المادية كالماركسية والفرويدية، ولا يؤمن
برهبانية الإنسان كالبوذية والهندوكية ، يقول تعالى : (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ
)[3]،
ولكنه وزان بين متطلباته المادية والروحية،
  فهو يسمو بالنفس الإنسانية، وعواطفها إلى
مراتب عليا من الطهر والعفاف، دون أن يجردها من روحانيتها أومن  ماديتها بتنظيمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة دون
أن تنحرف ،أو تفقد صفتها الإنسانية وجمالها الذي تستمده  من جمال الكون وإبداع خلقه الذي يفجِّر طاقات
الإبداع فيها، ومن نظرة الإسلام للجمال الذي يشمل الإنسان والحياة وكل ما في هذا
الكون، فأباح ممارسة الفنون لمن أودع الله من خلقه المواهب الفنية على اختلافها
من شعر وأدب وموسيقى ولحن وغناء ورسم و..الخ ، وأباح التذّوق والاستمتاع بها
لخلقه أجمعين.
 هذا ولا تقتصر نظرة الإسلام إلى الإنسان من
حيث طبيعته ومكوناته، وإنّما تمتد إلى كينونته ودوره في هذه الحياة فالإنسان في
القرآن مخلوق مكلف ذو رسالة هي الاستخلاف(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ
)[4].
فكيف يستطيع
الإنسان أن يقوم بمهمة الاستخلاف وإعمار الكون ، دون أن يُلبِّي حاجات النفس من
الترويح  والترفيه؟ فقد روى مسلم عن أبي
عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان
الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار
والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى
مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “وما
ذاك؟.” قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي
عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” والذي نفسي بيده؛ إن لو تدومون على ما
تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة
وساعة ثلاث مرات.”
  والذي يستوقف ذوو فكر وبصيرة كيف يترك
المحرّمون للغناء والموسيقى الحديثان الواردان في صحيح البخاري وهما حديث
الرُّبيع بنت معوذ ، وحديث عائشة رضي الله عنها عن غناء الجاريتيْن بحضرة الرسول
صلى الله عليه وسلم ولم يستنكره ، ويستشهدون بحديث هشام بن عمّار من معلّقات
الإمام البخاري ، وهو”
ليكون من أمتى أقوام
يستحلون الحر، والحرير والخمر والمعارف”
وفيه
هشام بن عمّار(
153 – 245 هـ = 770 – 859 م)  والبخاري  وأبود داوود والنسائي من تلامذته،  كان  يبيع الحديث،[5]
وله مناكير

، وقد  قال عنه 
الإمام أحمد :  طياش خفيفً ،
وجاء في سير أعلام النبلاء  للذهبي في
سيرة هشام بن عمّار
قلت : أما قول الإمام  أحمد فيه : طياش ; فلأنّه بلغه عنه أنّه قال
في خطبته : الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه ; فهذه الكلمة لا ينبغي[6]
إطلاقها ، وإن كان لها معنى صحيح ، لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي. وما بلغنا
أنّه – سبحانه وتعالى – تجلى لشيء إلا بجبل الطور ، فصيره دكًا . وفي تجليه
لنبينا – صلى الله عليه وسلم – اختلاف أنكرته عائشة ، وأثبته ابن عباس”
  فكيف يُقبل حديث من يقول
بالحلولية ، وهي الاعتقاد بأنّ الله يحل في بعض بني الإنسان ،
وقد عرفت هذه الفكرة في المسيحية حيث يعتقدون
أنّ الله حل في المسيح، وكذلك فرقة النُصيرية و
فِرْقة من المُتصوِّفة تعتقد بمذهب
الحُلول والاتحاد، وإمامُهم الحَلَّاج ،
 والقائلون بالحلولية يُسقطون
العبادات والحساب عمن يدعون أنّ الله قد حلّ فيه، أي يدّعون الألوهية” تعالى
الله عمّا يصفون” (
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ، ويترك حديثان
لا غبار على رواتهما، ولا يوجد ما يقدح فيهما، ومتنهما يتفق مع الفطرة
الإنسانية، ولا يوجد ما يخالفهما من القرآن الكريم؟
  ألكونهم يريدون تحريم
الغناء فيأخذون بالمطعون في أحد رواته ؟
  وكما بيّن الدكتور
عدنان أنّ نص الحديث لو سلّمنا جدلًا بصحته، فلا يُستدل به على تحريم المعازف ،
لأنّ المعازف تُحرّم إن كانت في مجلس فيه الناس يتعاطون الخمر ، ويُمارسون الزنا
، ولم يأت نص على تحريم المعازف منفردة .
كما أنّ
اعتماد الإمام البخاري هشام بن عمّار من رواته ، وهو مطعون في عقيدته،  يؤكد لنا أنّ ليس جميع رواة البخاري ثقات
يُسلّم بصحة رواياتهم،
فقد بيّن  ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري
بشرح  صحيح البخاري (110)حديثًا للبخاري
من التي انتقدها الدارقطني، وخصّص لها فصلًا، ومن ضمنها حديث” لن يفلح قوم
ولوا أمرهم امرأة”، كما خصّص فصلًا عن رواة البخاري الذين فيهم طعن بالضعف
والتدليس والإرسال والقطع وعددهم(464) راويًا.[7]
وممن طُعن فيهم عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب وسعيد المقبري، وهما
من رواة حديث” النساء ناقصات عقل ودين.
وأتساءل هنا : لمَ التضييق على
النّاس بتحريم ما أباحه الخالق جل شأنه، وقد نهى الله عن ذلك بقوله:( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ
طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ
ٱللَّهُ لَكُمْ)[8] ، والغناء والموسيقى من الطيّبات التي تريح النّفس وتُروِّح عنها؟
وإن قالوا
نُحرِّم الغناء والموسيقى سدًا للذرائع،
فأقول
:  إنّ في سد الذرائع اعتراض على ما
أباحه الله وشَّرعه ، فالله أعلم بشؤون خلقه، وبالأصلح لهم، وهو خالقهم ،
والإسلام صالح لكل زمان ومكان، والخالق هو المشرِّع ، فلا يأتي أحد من البشر،
ويتجرأ على الله ، فيُحرِّم ما أباحه 
لهوى في نفسه بدعوى درء المفاسد وسد الذرائع ، فهناك ضوابط وضعها الخالق،
أو بوحي منه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علينا أن نلتزم بها.
 هذا ونجد المحرّمين للغناء والموسيقى سدًا
للذرائع، هم أنفسهم  الذين يُبيحون للرجل
ما حرمه الله إرضاءً لشهواته ونزواته كالزواج بنية الطلاق دون إعلام الزوجة،
وإباحة استرقاق الأسيرات ومضاجعتهن دون عقد زواج ، وكذلك مضاجعة إمائهم بدون عقد
زواج!
المصدر: جريدة
أنحاء اليكترونية
http://www.an7a.com/255118/
 
 
 
 
 

 

 

 



[1]
.
ص : 71-72.
[2]
.
القصص : 77.
[3]
.
الحديد: 27.
 . البقرة : 30.[4]
[5]
.
أنظر سيرته في سير أعلام النبلاء للذهبي.
[6]
.
ص 432.
[7]
.
انظر: مقدمة فتح الباري570، 571، 604، 607.
[8]
.
المائدة :87.

Leave a Reply