الحقيقة التي ينبغي أن يدركها الجميع أنّه لا وجود لناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، والذي يقول به غير مؤمن بكامل ما جاء في القرآن الكريم، تلاوة وحكمًا.
د. سهيلة زين العابدين حماد
الثلاثاء 06/01/2015
لايزال في أذني رنين كلمات خادم الحرميْن الشريفيْن لقادة وعلماء الأمة الإسلامية للوقوف في وجه من يحاولون اختطاف الإسلام وتقديمه للعالم بأنّه دين تطرف، وكراهية، وإرهاب بقولهم كلمة الحق، وأن لا يخشوا فيه لومة لائم، ولكن للأسف الشديد لم نجد من بعض علمائنا تجاوبًا لهذه الدعوة؛ إذ سكتوا عمّا هو موجود في كتب تراثنا من تشويه للإسلام، وتصويره دين عنف وقتال وإرهاب من خلال ما سمي بعلم” النّاسخ والمنسوخ في القرآن الكريم”. فكلمّا نتعمّق في قراءة كتب التراث ونتمعّن ما فيها يتكشّف لنا كم من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها بعض من العلماء الأوائل مفسرين ومحدثين وفقهاء، وعلماء في علوم القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وإن كان بعضهم اعتمد أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبنوا عليها أحكامهم الفقهية لتعزّز ما يحملونه من موروثات فكرية وثقافية عهدوها في مجتمعاتهم وتربوا عليها، ولتخدم أغراضاً سياسية في حقبهم الزمنية، واضعين لأنفسهم قاعدة” شهرة الحديث تغلب صحة إسناده” نجد بعض المفسّرين قد أخطأوا في فهم آية:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)[البقرة: 106] دفعهم إلى تجرؤهم على كلام الله، وشرعه بإيجاد ما أسموه بالناسخ والمنسوخ ليوافق المعنى الذي فهموه، أو أرادوا فهمه، وأخضعوا الناسخ والمنسوخ لما يريدونه، فألغوا منه ما يريدون إلغاءه من أحكام، مع أنّه لم يرد نص أو تصريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بنسخ آية من القرآن الكريم، فقد حصروا فهمهم للآية على القرآن الكريم، وفاتهم أنّ المقصود شريعة موسى بنسخ آيات منها طبق الأصل، أو إنسائها بخير منها، فالنسخ في كلام العرب على ثلاثة أوجه:
الأول: نسختُ الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر، فهذا لم يغيّر المنسوخ منه إنّما صار نظيراً له، أي نسخة ثانية منه.
الثاني: نَسَختْ الشمس الظل، إذا أزالته وحّلت محله.
والثالث: نسخت الريح الآثار، إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار.
ومن هذا المعنى اللغوي للنسخ، نجدهم خرجوا عن معناه اللغوي، فجعلوا النسخ في القرآن أربعة:
نسخ التلاوة والحكم معًا، وما نسخ حكمه، وبقيت تلاوته، وما نُسخت تلاوته وبقي حكمه ،وما نسخته السنة!
وبأقوالهم هذه تلاعبوا بالقرآن الكريم، وصوّروا الخالق بأنّه متردد في أحكامه وتشريعاته، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم يُعدّل عليه، ويُلغي أحكامه، وألغوا أزلية كتابة القرآن كاملًا في اللوح المحفوظ، وأنّه من عند الله، وهذا ما يقوله الملحدون؛ إذ أوجد المفسرون والقائلون بالناسخ والمنسوخ مبررًا يُساعد من يسعوْن إلى دفع شباب الإسلام إلى الإرهاب، أو الإلحاد إلى الإيقاع بهم في هذيْن المستنقعيْن، والحقيقة التي ينبغي أن يدركها الجميع أنّه لا وجود لناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم، والذي يقول به غير مؤمن بكامل ما جاء في القرآن الكريم، تلاوة وحكمًا، وينطبق عليه قوله تعالى:(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[البقرة: 85]فالقرآن الكريم محفوظ بكامله في اللوح المحفوظ، والله المشرِّع، وخالق الكون ومدبّره، وهو أعلم بأحوال خلقه إلى أن تقوم السّاعة، ووضع تشريعه في القرآن الكريم ليكون الرسالة الخاتمة الثابتة، وناسخة للتشريعات السماوية السابقة له(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)[ الفتح: 28]أكد على قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولوْ كَرِهَ المُشّرَكون)[ التوبة:33] وهذا يوضح أن النسخ في قوله تعالى:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)ولا يعني البتة أنّ القرآن ناسخ لبعضه البعض، فلا يُعقل أنّ الخالق يُغيّر أحكامه في الرسالة الواحدة، وإنّما نسخ شريعة موسى السابقة له.
ومعنى النسخ مثلها(نسخة طبق الأصل)تأكيدًا عليها والإنساء بخير منها لما جاء في شريعة موسى عليه السلام السابقة لشريعة الرسالة المحمدية الخاتمة للشرائع والأديان، وليس لما جاء في الشريعة الخاتمة، فالهدف من الإنساء التدرج في التشريع طبقًا للتطور الفكري والحضاري الإنسانيْين، وهذا يتطلب أزمنة طويلة، والقرآن الكريم نزل في 23 عامًا، وهذا الزمن لا يحتاج إلى الإنساء لأنّه لم يحدث فيه تطور وتغير مثلما حدث بين زمني موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ إذ يبلغ الفارق الزمني بينهما حوالي(2300 سنة)وقد جعل الله شريعة الرسالة المحمدية هي الخاتمة لشرائعه وأديانه السماوية، وجعلها مرنة صالحة لكل سكان الأرض في كل الأزمان إلى أن تقوم الساعة، وقد حوى النسخ كل الحالات الممكنة على سلم التطور التاريخي إلغاء ومماثلة وتعديلًا وإضافة، والآية المنساة هي حكم عند موسى نسخ بحكم خير منه في القرآن الكريم استعمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل رجم الزانية، وتغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وكل حكم استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وهو في كتاب موسى جاء خير منه في القرآن الكريم، فهو من الأحكام المنساة والإنساء تاريخي بحت، وهو بمثابة الأحكام الانتقالية طبقًا لمفهومنا المعاصر، وهذا الفهم هو الذي ينطبق على قوله تعالى:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)
ومن الآيات التي في شريعة موسى عليه السلام، ونُسخت مثلها طبق الأصل في شريعة الرسالة المحمدية قوله تعالى:(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[المائدة: 45]فضمير(عليهم)يعود على اليهود بدليل الآية السابقة لها آية(44)من سورة المائدة:(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله)
هذا مثال لمعنى:( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ)أمّا مثال لمعنى:(أو نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَافسأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.
للحديث صلة
suhaila_hammad@hotmail.com
المصدر : جريدة المدينة
– http://www.al-madina.com/node/580257