لابد من إعادة النظر في مناهج التاريخ، والتدقيق في اختيار الألفاظ والعبارات، والوقوف على أبعادها ومدلولاتها؛ بحيث تتطابق مع الوقائع والأحداث، فيكفينا ما تقوم به الدراما التلفزيونية من تشويه لتاريخنا
د. سهيلة زين العابدين حماد
الثلاثاء 29/07/2014
بيّنتُ في الحلقة الماضية كيف عزّز معدو منهج السيرة النبوية وتاريخ الدولة الإسلامية لأولى ثانوي عام 1424هـ/2003م -عن غير قصد – فرية الإسلام انتشر بحد السيف من خلال نصيْن وردا في المنهج، أوردتهما في الحلقة الماضية مبينة أبعادهما، وتجاهل معدو المنهج المخاطر التي كانت تهدد الإسلام في بدايته من قبل الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، اللتين كانتا تحتلان البلاد التي فتحها المسلمون، وكان سكانها يُعانون من اضطهاد ديني من قبل الرومان والفرس، كما تجاهل معدو المنهج الإشارة أنّ الفاتحين المسلمين لم يُكرهوا أهالي البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، بل عقدوا معهم معاهدات تمنحهم حرية العقيدة مع توفير الحماية لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم ومعابدهم، وفي مقدمة هذه المعاهدات عهد الأمان الذي منحه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم، وصلبانهم، ولا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم..”، وعهد عمرو بن العاص رضي الله عنه للقبط الذي كتبه بيده بحماية كنيستهم، ولعن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها، وكتب أماناً للبطريق بنيامين، وردَّه إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاث عشرة سنة، وأمر عمرو رضي الله عنه باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال، وألقى على مسامعه خطاباً بليغاً ضمنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة ،فتقبلها عمرو رضي الله عنه، ومنحه السلطة التامة على القبط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة، ولم يفرق العرب في مصر بين الملكانية واليعاقبة من المصريين، الذين كانوا متساوين أمام القانون، والذين أظلهم العرب بعدلهم بحسن تدبيرهم، وأخذوا على عاتقهم حمايتهم، وأمنوهم على أنفسهم ونسائهم وعيالهم، فشعروا براحة كبيرة لم يعهدوها منذ زمن طويل، بل كانوا يعانون من ظلم البيزنطيين الذين كانوا يضطهدون اليعاقبة لأنّهم يختلفون معهم في المذهب، يوضح هذا قول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد في كتابه الدعوة إلى الإسلام: “يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي، لما عرف به من الإدارة الظالمة ،وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت ،فإنَّ اليعاقبة الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط ،الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق الذيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم)[توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة د. حسن إبراهيم حسن ،ص123.]والمعاهدة التي عقدها حبيب بن مسلمة الفهري مع أهل دبيل في أرمينيا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه – التي جاء فيها: “هذا كتاب من حبيب بن مسلمة الفهري لنصارى أهل دبيل ومجوسها ويهودها شاهدهم وغائبهم: إنّي أمنتكم على أنفسكم وأموالكم وكنائسكم وبيعكم وسور مدينتكم، فأنتم آمنون، وعلينا الوفاء لكم بالعهد ما وفيتم، وأديتم الجزية والخراج. شهد الله وكفى بالله شهيدا ”
والملاحظ هنا أنّ المجوس عوملوا معاملة أهل الكتاب، فكفلت لهم الدولة الإسلامية الحماية وحرية العقيدة .
كما أود أن أشير إلى نقطة هامة للأسف الشديد يتجاهل أهميتها كثير من معدي المناهج الدراسية لمادة التاريخ، وهو أنّ كثيرًا من أبناء القبائل العربية الذين خرجوا مع جيوش الفتح الإسلامي استقروا في البلاد المفتوحة وتصاهروا مع أهلها، وعلّموا من أسلم منهم الدين الإسلامي؛ ولذا نجد من أبناء الدول الإسلامية من هم أحفاد لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وتحت عنوان” بعض البلدان التي انتشر فيها الإسلام عن طريق الدعاة والتجار” خصّص معدو المنهج تسعة أسطر فقط للحديث عن انتشار الإسلام فيها، مع أنّ أعداد سكانها المسلمين يُساوون قرابة نصف العدد الإجمالي للمسلمين اليوم، ويتوزعون في ثلاث مناطق رئيسة في العالم، هي:
1. منطقة جنوب شرق آسيا: هذه المنطقة كانت تدين بالديانة البوذية وبعض الوثنيات المحلية، وتضم اليوم حوالي 250 مليون مسلم، وهم سدس مسلمي العالم، ويتوزعون في عدد من البلدان تبدأ من أقصى الشرق بالفيليبين وتنتهي بجزر المالديف في وسط المحيط الهندي، وبينهما أندونيسيا وماليزيا وبروناي، وهي شعوب ذات أغلبية إسلامية كبيرة، وهناك أقليات كبيرة في الفيليبين، وتتركز في إقليم مورو (مندناو) وتشكل 12% من سكان الفيليبين، ومثلها في تايلند التي يتركز المسلمون فيها في الجنوب في إقليم “فطاني” المحادد لماليزيا، وتوجد أقلية في بورما تتركز في إقليم “أراكان” المحادد لبنجلاديش، إضافة إلى أقلية في سنغافورة وهي الدولة التي اقتطعها الإنجليز من ماليزيا.
إضافة إلى انتشار الإسلام في جنوب الصين، وشمال آسيا، حيث المناطق التي تقع شمال القوقاز، وحتى سيبيريا التي تمتد من روسيا إلى المحيط الهادي، وهي المناطق التي لعب الدعاة والتجار الآتون من بخارى، دورًا كبيرًا في إسلام كثير من أهاليها. وينطبق مثل هذا الكلام على شبه جزيرة القرم التي تقع شمال شرق أوربا، وهي اليوم جزء من جمهورية أوكرانيا. ويكفي القول أنّ الغزاة المغول الذين غزوا الدولة الإسلامية دخلوا في الإسلام طواعية وهذه سابقة لم تحدث من قبل ولا من بعد أنّ الغالب يدين بدين المغلوب.
2. منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا: فاعتنق أغلبية سكانها الإسلام في أوقات متتابعة في الصومال وجيبوتي وتنزانيا وإرتيريا وجزر القمر، بل تعربت أكثر هذه الشعوب، وثلاثة منها اليوم هي أعضاء في جامعة الدول العربية، كما دخل الإسلام أثيوبيا، وكينيا، وموزمبيق.
3. منطقة غرب إفريقيا وجنوب الصحراء: يوجد فيها خمس عشرة دولة تفوق نسبة المسلمين فيها الـ70%، وتليها عشر دول تزيد نسبة المسلمين فيها عن الـ50% من مجموع السكان، فأصبح قرابة مائتي مليون مسلم في هذه المنطقة التي دخلها الإسلام بأخلاقه وقيمه وسماحته وعدله، دون أن تطأ أراضيها قدم جندي واحد من جنود المسلمين.
إنّي أتعجب كيف تفوت أبعاد تلك العبارات على أساتذة جامعات متخصصون في التاريخ؟
فلابد من إعادة النظر في مناهج التاريخ، والتدقيق في اختيار الألفاظ والعبارات، والوقوف على أبعادها ومدلولاتها؛ بحيث تتطابق مع الوقائع والأحداث، فيكفينا ما تقوم به الدراما التلفزيونية من تشويه لتاريخنا.
suhaila_hammad@hotmail.com
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS
تبدأ بالرمز (26) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى
88591 – Stc
635031 – Mobily
737221 – Zain