الواقعية وأثرها على الأدب العربي
بقلم د. سهيلة زين العابدين حمّاد
هذه المادة خاصة لقراء وقارئات المدوّنة تستمد الفلسفة الواقعية تصورها للإنسان من النظرة المادية الحيوانية للإنسان القائمة بدورها على الداروينية القديمة ،وقد ظهرت الحركة الواقعية في القرن التاسع عشر كرد فعل للمذهب الرومانتيكي المغرق في الخيال ،وتقوم الفلسفة الواقعية على المادي الملموس ،فلا تؤمن بوجود حقيقة إلاَّ ما تستطيع الحواس أن تدركه ،وما لا تدركه الحواس فهو غير موجود ،أو على الأقل شيء ساقط من الحساب ،وهذا ما جعل الأستاذ نزار قبَّاني يقول: ( أنا لا أؤمن بوجود النار إذا لم أحترق بها ..وأنا من المستحيل عليَّ أن أكتب عن شعر حبيبتي الطويل إذا لم يتكسر بين يدي كأعواد الزنبق)
وإذا كانت الواقعية الغربية الحديثة تؤمن بأنَّ الإنسان يصل إلى الحقائق عن طريق فكره فإنَّ هذا فيه من الخطورة ما فيه ؛إذ هناك من الحقائق ما لا يمكن للعقل أن يصل إليها عن طريق أدواته المعروفة ،فالعقل البشري مهما أوتي من عبقرية وذكاء ،فهو قاصر عن إدراك بعض هذه الحقائق كوحي الله لأنبيائه ،وكحادثتي الإسراء والمعراج .
أمَّا عن نظرة الفلسفة الواقعية الغربية للحياة فيعبر الدكتور محمد مندور عنها في كتابه “الأدب ومذاهبه ” فيقول : هي وجهة نظر خاصة ترى الحياة من خلال منظار أسود ،وترى أنَّ الشر هو الأصل فيها ،وأنَّ التشاؤم والحذر هما الأجدر ببني البشر لا المثالية والتفاؤل)
هذا وقد كثرت تفرعات الواقعية ومصطلحاتها ،فلقد بلغت الثماني والعشرين ،والذي يعنينا منها في موضوعنا هذا هو :
الواقعية الاشتراكية
لقد ورد تعريف هذه النظرية رسمياً في إحدى مواد دستور اتحاد الكتاب السوفيت الذي وضعه أول مؤتمر عام لهذا الاتحاد سنة 1934م ، ونص المادة هو: ( أنَّ الواقعية الاشتراكية هي المنهج الأساسي للأدب والنقد الأدبي السوفيتيين ،وهي تتطلب من الفنان أو الأديب تمثيله الواقع في حالة نموه الثوري تمثيلاً صادقاً ،وعلى هذا فإنَّ صدق التمثيل الفني للواقع يجب أن يرتبط بنوعية العمال ويدعم إيمانهم بروح الاشتراكية)” “1وتحدد على لسان “أندريه شدانوف”مدير تنظيم الحزب آنذاك في لننجراد على الوجه التالي ( إنَّ الرفيق ستالين قد عيَّن كتاباً مهندسين للنفس البشرية فما معنى هذا؟ وأية واجبات تقع على عاتقهم بهذه التسمية ؟ معناه أولاً : معرفة الحياة لا بطريقة أروسطية ميتة ،ولا ببساطة كواقع موضوعي ،وإنَّما كواقع ينمو ويتطور ثورياً ،ولهذا لابد من أن يرتبط العرض الفني الأمين للواقع وللتاريخ بمهمة التربية الأيدولوجية للإنسان العامل وصياغته بروح الاشتراكية ،هذا هو المنهج الذي نسميه في الأدب والنقد منهج الواقعية الاشتراكية)” “2.
إنَّ نص هذه المادة يبين أنَّ الواقعية الاشتراكية هي المنهج الأساسي للأدب والنقد الأدبي السوفيتيين.
هذا وتوجد هذه الفلسفة في أجزاء كثيرة من بلاد العالم المعاصر رغم اختلاف مسمياتها ،فتارة يطلق عليها الاشتراكية الماركسية نسبة إلى كارل ماركس ،أو الماركسية اللينينية نسبة إلى ماركس المصمم ،ولينين المنفذ،أو الشيوعية بوصفها تضم كل الأفكار الشيوعية السابقة وتبلورها أو الاشتراكية العلمية ،أو الواقعية الشيوعية ،وتعتبر كتابات ماركس وانجلز هي أوثق المصادر لفهم تطور الواقعية الاشتراكية” “.
نظرة الواقعية الماركسية والاشتراكية للإنسان
إنَّ نظرتها للإنسان هي ذات نظرة الماركسية أو الشيوعية ،وهي نظرة جزئية ،إذ تأخذ في حسابها الوجه المنظور للإنسان “المادي المحسوس “،وترفض أو تهمل الجانب غير المنظور ،وأعني به “الجانب الروحي”،وبالتالي تحول الإنسان إلى مادي آلي ،لذا كان موقفها من مشكلة التناقضات الداخلية في الذات الإنسانية موقف سلبي ،لأنها بدلاً من أن تقضي على هذه التناقضات بتوحيد عنصري المادة والروح كما فعل الإسلام الذي وحد بين عنصري الإنسان المادة والروح ،ووازن بينهما،فلقد بيَّن أنَّ الإنسان في أصله مادة وروح يقول تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إنَّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)” “4،فإنَّها أنكرت القيم الروحية ،وبهذا شوهت الإنسان ،وكان لابد لهذا التشويه من ثمن هو رد الفعل الذي جابهته وتجابهه من طبقة المفكرين الذين التزموا بها حيناً من الدهر ،فلم يجدوا فيها سوى تجربة مرة لا لتخلص الإنسان من تناقضه بقدر ما تزيده تمزقاً وضياعاً ،ويرجع هذا إلى تأليه الاشتراكية أو الماركسية للمادة ،وقصرت الإدراك لديها على الحواس الخمسة القصيرة المدى ؛إذ لم تستطع تجاوز الواقع المحسوس ،فلم تكن قادرة على تصور قوة خفية غير منظورة ،لذا فلقد أنكرت الفلسفات الغربية الحديثة من وجودية وماركسية واشتراكية ،وغيرها وجود الله،أمَّا المسلم فعقله المتفوق بقوة تصور الإله غير المحدود استطاع أن يصل إلى آفاق من التصور لا يمكن أن يصل إليها ذوا الإله المحسوس أو المحدود فجاء الواقع الغربي كما هو دائماً واقعاً مادياً وصفياً تسجيلياً ،ومفهومه ساذجاً سطحياً لا يتعدى إدراك الحواس ،وهو مفهوم أقرب إلى مفهوم الطفل وإدراكه للأشياء” “5.
أثر الواقعية الاشتراكية على الأدب العربي هذا وتظهر الواقعية الاشتراكية بوضوح في شعر بدر شاكر السيَّاب الذي ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي مثل قصيدة الأسلحة والأطفال ،كما تظهر الواقعية الاشتراكية في شعر عبد الوهاب البياتي ؛إذ عالج قضية الفقر من وجهة النظر الماركسية لا الإسلامية مع أننَّا لو عالجناها وفق تعاليم الإسلام لما وجد فقر في البلاد ،وتظهر الواقعية الاشتراكية أيضاً في شعر نجيب سرور وآخرين.
هذا في مجال الشعر ، أمَّا في مجال القصة والرواية فنجد الأستاذ نجيب محفوظ من أبرز الذين آمنوا بالماركسية وطبقوا فلسفتها الواقعية على شخوص قصصه ورواياته؛فكانت نظرته إلى الإنسان من خلال شخوصه نظرة مادية بحتة ،فقسمهم بصورة آلية وميكانيكية إلى أغلبية ساحقة تعيش حياة مادية بحتة ،وقلة نادرة منهم تحاول أن تعيش حياة روحية إنسانية ،ويرجع في اعتقاد نجيب محفوظ بالفصل بين الجانبين الروحي والمادي إلى فيلسوفه المفضل “برجسون” 6.
هذا وقد اعتبر الأستاذ نجيب محفوظ أنَّ الحل الأمثل لمشاكل المجتمع العربي في الاشتراكية والماركسية ،وذلك في رواياته “القاهرة الجديدة” ،و”بين القصرين”، و “السكرية” ومحتوى الاشتراكية يبينه أبطال “اللص والكلاب” ، و”الشحاذ”.
ونلاحظ أنَّه يرمز للشيوعية بالإيمان الجديد ،ويصف الدين بالقوانين الهمجية.
الاشتراكية والماركسية في أدب نجيب محفوظ
إنّ فصل نجيب محفوظ بين المادة والروح في نظرته إلى الإنسان أدى إلى تحديد موقفه من الاشتراكية والماركسية وقد غلب على قصصه الانتماء اليساري ولاسيما في ثلاثيته، وفي القاهرة الجديدة، وثرثرة فوق النيل، والتي تحدث عن غياب الله، وحارة العشاق، وبداية ونهاية، واللص والكلاب، وأولاد حارتنا. ويبين الدكتور غالي شكري أنّ نجيب محفوظ أراد في روايته أولاد حارتنا أن يستبدل الدين بالعلم فيقول:” فلقد أحسن نجيب محفوظ منذ الوهلة الأولى أنّ الدين يشكل ركيزة أساسية في بناء القيم الذي نعيش بين جدرانه في الشرق وعن طريق الدين أراد أن يدخل عالمنا الروحي حتى يستطيع – وهو داخل البناء – أن يستبدل هذه الركيزة الكبرى في حياتنا بركيزة أخرى عرفت طريقها إلى العالم المحتضر منذ زمن بعيد. وكانت الركيزة الجديدة التي حاول نجيب محفوظ أن يحلها مكان الركيزة القديمة هي العلم، ثم يقول:” وسواء كان نجيب محفوظ يعني بحارته: الإنسانية أو مصر، أو كلاهما معاً، فإنّ قضية ” الدين والعلم ” هي المحور الرئيسي في الرواية بمعنى أنّها العمود الفقري المكون من حلقات الانتماء التي تنتهي بالاشتراكية، ويري نجيب أنّ الاشتراكية هي التي تنقذ مصر من أزمتها الاجتماعية، ولذا نجده في المناقشات التي تدور بين أبطال رواياته عن الدين والاشتراكية والعلم ممن يمثلون الانتماءين: اليساري المؤمن بالعلم، واليميني المؤمن بالله، تنتهي لصالح العلم والاشتراكية ليرسخ هذا الحل في الأذهان، لذا فإنّ رؤية نجيب محفوظ لازمة المجتمع المصري – كما يقول الدكتور غالي شكري – كانت رؤية يسارية بل نجده يدعو إلى الإفادة من الفكر الماركسي، فيقول في ” السكرية ” على لسان عربي كريم: ” حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنّها وإن تكن ضرورة تاريخية ، إلا أن حقيقتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية “، أنها لن توجد إلا بإرادة البشر وجهادهم فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيراً، ولكن في أن نملأ وعي الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم جميعاً “، ويصف الدين بالهمجية فيقول: ” المجتمع الفاسد لن بتطور إلا باليد العاملة، وحين يمتلئ وعيها بالإيمان الجيد ( يقصد الماركسية ) ويحس الشعب كله كتلة واحدة مع الإدارة الثورية، فهناك لن تقف في سبيلنا القوانين الهمجية ولا المدافع. إنّ مهمتنا الأولى أن نحارب روح القناعة والخمول والاستسلام، أما الدين فلن يتأتى القضاء عليه إلا في ظل الحكم الحر “، ثم يختم حديثه بقوله: ” إن نشر العلم كفيل بطردهم، كما يطرد النور الخفافيش “، فهو هنا يعمق دعوته إلى الماركسية ويزيدها وضوحاً واكتمالاً.
ويصرح نجيب محفوظ عن إيمانه الجديد ،فيقول في مجلة ” الهلال ” الصادرة في شباط، فبراير 1970 م : ” لعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو إيماني بالعلم وبالمنهج العلمي “، فالعلم في نظر نجيب محفوظ هو دين العصور الحديثة.
ولتركيز نجيب محفوظ على الاشتراكية والماركسية ودعوته لهما في معظم قصصه جاء اهتمام المستشرقين السوفييت بأدبه بصورة خاصة فقد أعدت خمس رسائل دكتوراه في أدب نجيب محفوظ من قبل المستشرقين السوفييت:
الرسالة الأولى: باسم ” الثلاثة إبداع الواقعية النقدية “، للمستشرقين الروسي روشين عام 1967 م، والثانية: ” الروايات الاجتماعية الأولى لنجيب محفوظ “، للسيدة طاش محمد وف عام 1970م، والثالثة: ” قضية البطل في روايات نجيب محفوظ “، للسيدة ( أ. ج نادر ) عام 1971م، والرابعة: رسالة السيدة لوتس بوراجينيا عام 1982، وهي ” الروايات التاريخية في أدب نجيب محفوظ “، للسيد ” على زاده زاردوشت ” عام 1986م.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا هذا الاهتمام من الاستشراق الروسي بأدب الأستاذ نجيب محفوظ؟
أثر الماركسية الشيوعية على عبد الوهاب البياتي
قد عاش البيَّاتي عمره مؤمناً بالماركسية الشيوعية الملحدة. وقال هذا صراحة ولم يخفه، وكتب كل نثره وشعره انطلاقاً من فكره الاشتراكي الذي لا يؤمن بالأديان .. وإن كان البياتي في موضوع الدين هذا أكثر غلواً ربما من أدونيس، ونزار، لأنّ الفكرة السياسية كانت طاغية عليه وعلى شعره طغياناً تاماً، ولهذا يصدق عليه ما قلناه بصدد أدونيس ونزار، ولا داعي هنا للتكرار، خصوصا وأننا قرأنا عشرات المقالات والدراسات التي نشرت حول البياتي وشعره وفكره والتي جاءت مواكبة لموته في دمشق
1-مجدي وهبه وكامل المهندس: معجم المصطلحات في اللغة والأدب ،ص235،طبعة سنة 1979م ،مكتبة لبنان.
3-المرجع السابق: ص42.
4- الحجر: 28.
5-المرجع السابق : ص 43.
6-هنري برجسون (1859-1941م)فيلسوف فرنسي ،وفي كتابه الطاقة الروحية يبين موقفه من المادة والروح فهو “يعتقد أنَّ حياة الروح لا يمكن أن تكون نتيجة لحياة الجسد ،بل بالعكس ،فكل شيء هنا يجري كما لو كان الجسد موضوعاً تحت تصرف الروح ،ولذلك لا نستطيع أن نفرض أنَّ الروح والجسد متحدان اتحاداً يتوقف وجود كل منهما على وجود الآخر”(د. مصطفى غالب :برجسون ،ص67،طبعة سنة 1983م ،مكتبة الهلال ،بيروت.)