من الفئة الباغية؟
د. سعيد صيني
1951433هـ
المصدر : مجموعة عبد العزيز قاسم البريدية.
هناك أخطاء جسيمة يقع فيه بعض العلماء والدعاة والمتجرئين على الحكم غيابيا على الآخرين ومنهم الجيل الأول. ومن هذا الخطأ محاكمة أحد كتاب الوحي الذين أعز الله بهم وبسياسته الإسلام قرنا من الزمان.

ولا أشك في أن العقلاء من هؤلاء المتجرئين لا ينكرون أن انجازاتهم الشخصية لا تبلغ ذرة من إنجازات معاوية رضي الله عنه في خدمة الإسلام. ولا أنكر أنهم يعتمدون في محاكمتهم على بعض النصوص التي وردت في كتب السنة أو في كتب التاريخ. ومن هذه النصوص السؤال المنسوب إلى معاوية لسعد بن أبي وقاص”: ما منعك أن تسب ‏أبا التراب؟ “، والدعاء المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية “لا أشبع الله بطنه” ووصف النبي الفئة التي تقتل عمار بالفئة الباغية.
لقد ناقشت الدكتورة سهيلة حماد النصين الأولين وأثبتت بالرجوع إلى المراجع المتخصصة في التحقق من الأحاديث النبوية احتمال ضعفهما. (مجموعة عبدالعزيز قاسم:1470)
ويضاف إلى ذلك إن صدقت الرواية الأولى فإنها تقول: “قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا، فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟(سنن الترمذي 5 :638) وهنا يمكن تفسير “أمر” بوضع الشدة على الميم، أي جعله أميرا على شيء، أو أمره (بدون شدة) من الأمر. وفي التفسير الأخير جناية واضحة على نص السؤال. فمعاوية لا يخفى عليه حرمة لعن المسلم، فكيف بلعن علي. فربما بلغه أن بعض المنافين له يفعلون ذلك تقربا إليه، كما يحدث في كل زمان، فيسأل سعدا (ربما مازحا)عن سبب ترفعه عن ذلك. ولقب “أبا تراب” هو مصدر فخر للصحابي علي ابن أبي طالب، إذ قالها النبي صلى الله عليه وسلم له من باب المداعبة، وليس تحقيرا. ومعاوية لا تخفى عليه هذه الحقيقة التي جهلها أو تجاهلها من أساء فهم السؤال. فقد وردت في السياق التالي: “عن عمار بن ياسر قال كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة ذات العشيرة فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها رأينا ناسا من بنى مدلج يعملون في عين لهم في نخل فقال لي علي: يا أبا اليقظان هل لك ان نأتي هؤلاء فننظر كيف يعملون؟ فجئناهم فنظرنا إلى عملهم ساعة ثم غشينا النوم فانطلقت أنا وعلي فاضطجعنا في صور من النخل في دقعاء من التراب فنمنا. فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب. قال ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه، (يعنى قرنه) حتى تبل منه هذه (يعنى لحيته).” (مسند أحمد بن حنبل 4: 263)
والقول “لا أشبع الله بطنه” وردت في سياق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في طلبه فوجده الرسول يأكل. فالنص يقول “عن بن عباس قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب قال فجاء فحطأني حطأة وقال اذهب وادع لي معاوية. قال فجئت فقلت هو يأكل. قال ثم قال لي اذهب فادع لي معاوية قال فجئت فقلت هو يأكل فقال لا أشبع الله بطنه.” (صحيح مسلم 4: 2010) وواضح من السياق أن الدعاء كان دعاء مزاح ، وليس جادا.
وأما بالنسبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار “تقتلك الفئة الباغية” وتطبيق “الفئة الباغية” على المجموعة التي كانت مع معاوية، وليس مع علي رضي الله عنهما، فيعكس أخطاء منهجية، كثيرا ما يقع فيها المجتهدون، وهي السطحية في الفهم والتعميم. ويلاحظ ما يلي:
أولًا – تؤكد الروايات التاريخية بأن من كان موجودا عند مقتل الخليفة الراشد الثالث في المدينة هو علي، وليس معاوية رضي الله عنهما.
ثانيًا – تؤكد الروايات بأن المجموعة التي بغت وقتلت بطريقة وحشية خليفة المسلمين كانوا في جيش علي، وليسو في جيش معاوية.
ثالثًا – هناك فئة بغت على خليفة المسلمين الراشد الذي تنبأ له نبي رب العالمين بالشهادة، وبشره بالجنة. وقال له لتبرعه السخي في غزوة تبوك : ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين.”(سنن الترمذي 5: 626) ومع فضل عمار رضي الله عنه، فإن فضل عثمان ابن عفان يصعب مباراته. فهو الذي زوجه النبي ابنتين من بناته… والسؤال: أي الفئتين أحق بصفة الفئة الباغية قتلة الخليفة الراشد أم عمار ابن ياسر؟
رابعًا – امتنع معاوية ومن معه من مبايعة الخليفة الراشد الرابع، إلا أن يطبق حكم الله في المتعمدين قتل الخليفة الراشد الثالث أو تسليمهم إليه ليطبق عليهم شرع الله، ولكن علي رضي الله عنه لم يستجب لهذا الطلب، ربما حتى يستتب الأمر له.
ولو سألنا أي عاقل: أي الفئتين يحتمل أن تنطبق عليها صفة “الفئة الباغية”؟
إن الإجابة السطحية التلقائية هي: الفئة التي كانت مع الخليفة الراشد الرابع.
وأقول السطحية، وإن صدقت الرواية التي تقول بأن معاوية علق على الحديث بقوله: “إنما الفئة الباغية التي جاءت به ليُقتل”. وأؤكد السطحية في هذه الإجابة والسطحية في تقسيم المتقاتلين في صفين إلى فئتين فقط لأسباب منها:
1. تعليق معاوية، إذا صدقت الرواية، تعبر عن ذكاء فذ، حيث يرد على التهمة المبنية على الفهم الفوري بتعليق مماثل، يتناسب مع الفهم الفوري المتشكك.
2. لقد كان المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، في كثير من المعارك التي خاضها المسلمون ضد المشركين، تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم. فهل هم أفضل من المشركين؟ وهل هم بالفعل وفي الواقع من فئة النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن الحقيقة تؤكد أن المنافقين فئة مستقلة عن المسلمين في الواقع، كما أن قتلة الخليفة الراشد فئة مستقلة عن جيش الخليفة الراشد الرابع.
3. روايات قتل عمار متعددة، ومبهمة وعامة، يستحيل معها التأكيد بأن من قتله أحد أفراد جيش معاوية. والحقيقة المتوقعة والمؤكدة أن الذين قتلوه غدرا هم أحد أفراد الفئة التي قتلت عثمان ليوهموا الناس بأن فئة معاوية هي التي قتلته فهي الفئة الباغية. وهذا ليس بمستغرب منهم لأنهم، في معركة الجمل، هاجموا جيش عائشة رضي الله عنها، ليلا، ليشتبك الفريقان في القتال، ويفسد الصلح الذي توصل إليه القعقاع بين الفريقين، وبيتوا الإعلان عنه صباحا.
ومما له صلة بالموضوع إنكار البعض على معاوية تبني النظام الوراثي المعدل في الحكم بعد الخلافة الراشدة.
وأقول لهذه الفئة التي تبغي على أحد كتاب الوحي والذي أعز الله به وبأفكاره المبدعة الإسلام قرونا طويلة ما يلي:
1. لا يمكن لأحد أن ينكر الحروب التي نشأت في المدة الأخيرة من الخلافة الراشدة، سواء في نهاية الخلافة الثالثة أو أثناء الخلافة الرابعة، وذلك بسبب كثرة من دخلوا الإسلام دفعة واحدة…، ووفاة غالية الجيل الأول، وتغلغل المفسدين من أعداء الإسلام أو العنصريين في صفوف المسلمين… فاختار معاوية الصحابي المحنك والمعروف بذكائه المتميز النظام الوراثي للحكم، ليتسق مع الظروف التي طرأت. وقد أثبت التاريخ ثمار قراره هذا.
2. يتكون أي نظام من عنصرين: المضمون أو المبادئ، والشكليات أو الإجراءات. وفي الوقت الذي يضع فيه الإسلام المبادئ العامة اللازمة للتنظيم الاجتماعي (الجمعيات والمؤسسات الخاصة) والسياسي (الأحزاب والمؤسسات العامة) فإنه لم يقيد المسلمين بشكليات أو إجراءات محددة، وترك هذه الأمور للمسلمين في كل زمان ومكان ليختاروا ما يناسب واقعهم وظروفهم.( أسد ص 53-56؛ العوا ص 66-68) فقد أجاز الله توارث النبوة والسلطة بين داوود وسليمان عليهما السلام، ولم يحرمه. يقول تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِين.ُ}( سورة النمل : 16) فالمبادئ يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان لأنها تخاطب العناصر الفطرية الأساسية للإنسان. أما الإجراءات الجيدة فيجب أن تكون نتيجة للتفاعل بين المبادئ الثابتة والظروف المتغيرة المتجددة. وتختلف درجة التفاعل المطلوبة باختلاف مجالات الحياة. وهي في مجال التنظيم السياسي أعظم من غيرها.
خلاصة القول:
أقول لإخوتي ولأبنائي الذين يتجرؤون على محاكمة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إدانتهم على استحياء، أو بصراحة أحيانا وبوقاحة. أقول اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، وأحسنوا قراءة النصوص وفهمها، قبل إصدار أحكام غيابية على الآخرين. إن الفئة الباغية هي الفئة التي قتلت الخليفة الراشد الثالث، وكانت في الظاهر تحت راية الخليفة الراشد الرابع، وليس الفئة المخلصة لأحد الصحابيين الجليلين.
وأقول لهم ولنفسي ينبغي أن نبذل الجهد المطلوب واستخدام العقل الذي ميزنا الله به، ولا نقتصر على الحفظ والترديد، حتى نفهم ديننا فهما صحيحا. فإن من المؤلم أن ينزل الإسلام، متمثلا في القرآن الكريم والسنة النبوية قبل أربعة عشر قرن، ولا نفهمه في عصرنا الفهم الصحيح، وفوق هذا نتجرأ على محاكمة الآخرين غيابيا وندينهم بوقاحة لا تليق بالمسلم العادي، فكيف بالعالم.
وأسأل الله السلامة من الضلال وتضليل الآخرين لي ولجميع المخلصين لدين رب العالمين.

sisieny@hotmail.com

19/5/1433هـ

Leave a Reply