شبابنا بين النزعة الدينية و.. الغلو والتطرف
د. سهيلة زين العابدين حمّاد
  الإنسان متدين بطبعه ،فالفطرة الإنسانية جُبِلت على التديْن ،  والإسلام دين الفطرة يوضُّح هذا قوله تعالى : ( فأقم وجْهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله ،ذلك الدِّين القيِّم ولكن أكثرَ النَّاسِ لا يعلمون ) 

والأسرة هي  الأساس في تكوين البناء الإنساني روحياً ،وعقلياً ، وعقائدياً وجسدياً،ووجدانياً وانفعالياً واجتماعياً،لذا نجد الإسلامَ قد حرصَ على هذا التكوين ،ووضع أسسَه في قوله صلى الله عليه وسلم : ( تخيروا لنطفكم فإنَّ العرقَ دسَّاس ) ،وذلك ليضمنَ سلامةَ النَّسلِ من الأمراضِ الوراثيةِ التي تنجبُ أولاداً معتوهين ،ومعوقين .
وكما اهتم  بسلامةِ النَّسلِ عقلاً وجسداً قبل مولده  نجده  بيَّن دورَ الأسرةِ في البناء الروحي والعقائدي للإنسان بعد مولدِه  في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود إلاَّ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ،وينصرانه ،ويمجسَّانه)  
وتقومُ  التربيةُ الرُّوحيةُ على  ترسيخِ حبِّ اللهِ في قلوبِ الناشئة  حباً يجعلهُم يحرصُونَ على إرضائِه في كلِّ أقوالِهم وأعمالهِم ،وسلوكياتِهم ،وتصرفاتهم ،والاجتناب عن كل ما يغضبُه ،فالإنسانُ إذا أحبَّ إنساناً يسعى لإرضائه ،وعدمِ إغضابِه ،فما بالك إن كان الحبيبُ هو الله الخالقُ جلَّ شأنه؟وبذلك يتبيَّن لنا أنَّ مفهومَ التربيةِ الروحيةِ الصحيحةِ مستمدٌ من الإيمانِ والعملِ ،والعقيدةِ والأخلاقِ ،والموازنةُ بين مطالبِ الدُّنيا والآخرة بلا إفراطٍ ولا تفريط. فالتربيةُ الرُّوحية السليمة هي التي ترسم المعيارَ الصحيح لتنمية مختلفِ جوانبِ الشخصية الإنسانية تنميةً شموليةً ،فهي مصدر هدايةِ العقل ،بالإيمان بالله عزَّ وجل وتوحيدِه ،وصفاءِ  النفس بسكينتِها وطمأنينتِها ،وتزكيةِ الأخلاقِ بالتحلي بالفضائلَ والقيم والمثلِ العليا ،وطهارةِ الأبدان باستعمال أعضائها وجوارحِها في حقِّها وصونِها من المعاصي والفواحش ،وتسخيرِها للعبادةِ وأعمالِ الخير النافعةِ للفردِ والجماعة ،وحسنُ العلاقةِ الاجتماعية مع الآخرين بالتكافل والتآزر والتعاون على البر والتقوى.
  وبذلك تكون التربيةُ الروحيةُ حقاً عماد التنشئةِ المتكاملة ،وبدونها لا يستقيمُ بناءُ الشخصيةِ الإنسانيةِ التي تصبح معرَّضةً في كل وقتٍ للخللِ والاضطرابِ نتيجةً لأبسط الهزات ،وأهون الأزمات. 
  والسؤال الذي يطرح نفسه :
هل الأسرة السعودية تقوم الآن بدورها في هذه التربية بمفاهيمها ومدلولاتها وأهدافها الإسلامية؟
  للأسف الشديد أنَّنا لم نهيئ أولادَنا وبناتنِا ليكونوا أباء قادرين على القيام بهذه المسؤولية كما يجب ،بمعنى أنَّ كثيراً من الأباء والأمهات إمَّا يكونون متأثرين بالفكر الغربي،ويدينون بالولاء لكل ما هو غربي  ،وثقافتهم الإسلامية ضحلةٌ وضعيفة ومشوَّهة ،ويربون أولادهم طبقاً لثقافتهم،وتوجهاتهم ،فيكون من أولادنا نسخاً ممسوخة من الغربيين ،وفريق آخر فهْمُه للإسلام فهماً قاصراً متطرفاً منغلقاً  ،دائرة المحرمات لديه كبيرة ،كلمتي “الكفر” ،و”الحرام ” و ” الشرك”, ” والعلماني ” هي الغالبة في أحكامه ،كما نجده يفتقر إلى الحوار مع أولادهِ، متبنياً ثقافة المنع عليهم ،وسطوته  الذي لا يسمح لزوجِه ,وأولادِه بالنقاش والحوار،كما نجدهُ يفرضُ على أبنائه العزلة عن العالم فيحُِّرم على بيته دخول الصحف ،لأنَّ بها صور ،والصور حرام ،ويُحرِّم عليهم مشاهدة الفضائيات ،وعندما يذهب هؤلاء الأولاد إلى المساجد قد يجدون إمام المسجد على شاكلة أبيهم أو أبويهم ،وقد يكون معلمهم في المدرسة يحمل فكراً متطرفاً ،إضافة إلى ما تحويه بعض المواد الدينية من غلو وتشدد،فيُغذّضون  بالفكر المتطرف في البيت والمدرسة والمسجد ؛وإذ بهم يحملون   ذات الفكر ،ويرددون  ذات العبارات ،جاعلين  من أنفسهم مقررين مَنْ مِنْ أهله وأصدقائه وزملائه وأقربائه،أو جيرانه  كافراً ،أو مشركاً ،أو ملحداً ،أو علمانياً .!
  فهؤلاء الذين تربوا هذه التربية سيكونون على عزلة عن العالم المحيط بهم ،وسيكونون سريعي التكفير ،ورمي الناس بالكفر والإلحاد ،وسريعي الانقياد لأية دعوة تتظاهر غيرتها على الإسلام ،وحرصها عليه ،ومثلُ هؤلاء هم الذين غُرِّربِهم ،وتورَّطوا في الإرهاب ،كما  لا ننسى جانباً مهماً وخطيراً ،وهو غياب الأبويْن عن البيتِ فترة طويلة ،وترك تربية الأولاد لخادمات جاهلات من بيئات ومجتمعات أخرى تسيطر على عقُولهن أساطير وخرافات وعادات وتقاليد جاهلية ،ومنهن من يكن بوذيات أو مسيحيات ،ونستطيعُ أن نقول إنَّ من أبناءِ هذا الجيل تربية “خادمات ” فالأم التي تعمل ،ويتطلب عملها أن تكون خارج البيت أكثر من ثمان ساعات يومياً ،وإن كانت تعمل في قرى نائية ،فقد تصل هذه الساعات إلى الاثنى عشر ساعة،فقوانين العملِ وأنظمتِه لم تُفرق بين رجلٍ وامرأة ،ناسين أنَّ المرأةَ هي أمُّ وزوجة قبل أن تكون موظفة ،وعليها مسؤوليةٌ أساسيةٌ هي مسؤولية التربية والإعداد،بينما الرجلُ متفرغٌ لعملِه الوظيفي ،وعملُ المرأةِ في مجتمعِنا أصبحَ يشكلُّ ضرورةً اقتصادية،فراتب الزَّوجِ لا يكفي لمتطلباتِ الأسرة  ،وهناك نساءٌ بتن يعلن أسرَهن 
  أيضاً نجد غياب الأب عن البيت فترة طويلة ،وعدم حرصِه على التعرفِ على مشاكلِ أولاده ،والجلوسِ معهم ،والتعرفِ على مشاكلهِم واحتياجاتِهم ومناقشتِهم في مختلف القضايا ،والتعرف على أصدقائهم وزملائهم وأسرهم ،يجعل الأولاد عرضة لمصادقة قرناء السوء الذين قد يجرونهم إلى هاوية المخدرات أو مستنقع الإرهاب ، أو تبنى أفكارٍ ومعتقدات إلحادية كعبادة الشيطان ،أو إباحية ،أو فكر متطرف…أو …إلخ.
  الزمام  لا يزال في أيدينا ،ولم ينفلتُ منا بعد ،وبإمكاننا تصحيح وجهة شبابنا والاستفادة من نزعة التدين لديهم ،وتوجيهها إلى الوسطية والاعتدال بدلاً من الغلو والتطرف الديني ،أو اللاديني ،ويكون ذلك بالآتي :
1- توجيه الخطاب الديني إلى الوسطية والاعتدال ،واستبعاد الأصوات المكفرة ،والمضيِّقة على عباد الله بتوسع دائرة المحرمات  ،وتضييق دائرة المباحات بتحريم ما أباحه الله للإسراف في استخدام قاعدة سد الذرائع ودرء الفتن. 
2- فتح أبواب الاجتهاد في الدين ،فقد جمد الفقه الإسلامي ،وانحصر في ما وصل إليه الفقهاء في القرن الرابع الهجري ،وبات فقهاؤنا يرددون ما قاله الفقهاء السابقون ،ولا يأتون بآراء فقهية جديدة تتماشى مع متطلبات العصر ،مع ارتكازها على الثوابت الإسلامية. إنَّ جمود الفقه الإسلامي ،هو الذي جعل من الغلو والتطرف الديني يتمكنان في مجتمعنا ،حتى أصبح من شبابنا الصغار من يحمل فكراً متطرفاً مثل رجل متنطع في التسعين من عمره.
3- فتح أبواب الحوار مع شبابنا ،والاستماع إليهم ،وإبدائنا الاهتمام ونحن نستمع إليهم،ونُنصت إليهم ،ونحترم طرحهم  ،فهذا يمنحهم الثقة بنفوسهم ،ويقربهم منا لأنَّه يُشعرهم بأنَّنا نحبهم ونحترمهم .
4- تعديل المناهج الدراسية بما فيها المناهج الدينية التي ينبغي أن يكون الاهتمام فيها ينصب على التعاملات والسلوكيات ،وليس على العبادات فقط ،كما ينبغي أن تناقش قضايا الشباب ،وقضايا العصر ،وتجيب عن كل ما يثيره الشباب من تساؤلات،وأن ترتكز المناهج على إعمال العقل ،وليس على النقل وحفظ الصم .
5- من أهم مظاهر الغلو والتطرف الديني النظرة الحولاء  الدونية للمرأة ،وانتقاصها وتهميشها وإقصائها ،واعتبارها مصدر كل فتنة ،ومحط كل شهوة ،ومعارضة أي مطلب شرعي لها ،بل نجد الآن ظهرت ظاهرة جديدة في مجتمعنا ،وهي حرمان الصغيرات من الذهاب إلى المدرسة ،ولن يعتدل الميزان الاجتماعي لدينا ،إلاَّ باعتدال  النظرة إلى المرأة ،بالنظر إليها نظرة الإسلام لها ،ومنحها كامل حقوقها الدينية والمدنية والمالية والاجتماعية والسياسية التي منحها إيَّاها الإسلام  ،وإتاحة لها فرصة المشاركة في الحياة العامة ،فالمجتمع الأحادي يناقض سنة الله في خلقه لهذا الكون القائم على نظام الزوجية ،فالأحادية تسلط وعبودية واستبداد ،وقد رأينا كيف عاث القطب الأوحد  في الأرض فساداً وقتلاً وتقتيلاً ،وحرقاً وتدميراً !!!
6- الاستفادة من طاقات الشباب في توجيهها الوجهة الصحيحة بما يعود إليهم ،وإلى مجتمعهم بالفائدة ،وذلك بالإكثار من مشاريع وبرامج لصالح الشباب.
البريد اليكتروني:suhaila_hammad@hotmail.com
………………………..
نشر في جريدة عكاظ.



Leave a Reply