د. سهيلة زين العابدين حماد
تواصلاً مع حديث الأمس حول مشروعية الاختلاط نقول: هناك آية أخرى من القرآن توضح مشروعية الاختلاط وكشف الوجه
، وهي قوله تعالى : ( قُلْ للمُؤْمِنين يَغضُّوا من أبصّارِهم ويَحْفظُوا فُروجهم ذَلِكَ أزكى لهُم إنَّ الله خَبِيرٌ بِما يصْنَعُون *وقُلْ للمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ منْ أَبْصَارهِنَّ وّيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظهرَ منها وليَضْرِبن بِخُمْرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ)[ النور : 30،31] هنا أمر الله المؤمنين والمؤمنات بغض البصر ،ولو كان الاختلاط وكشفه الوجه مُحرَّمين لما يطالب الرجال بغض البصر ،مادامت النساء معزولات عن الرجال ومغطيات وجوههن ،ولو كان غطاء الوجه واجباً على المرأة لقال جل شأنه كما قال ابن حزم ( «وليضربن بخمرهم على وجوههن» بدلا من قوله تعالى ( على جيوبهن ) أي نُحورهن. ولو كان غطاء الوجه واجباً على المرأة نأو النقاب ولبس القفازين لما جعل إحرام المرأة في وجهها وكفيها ،وعليها أن تُفدي إن فعلت ذلك ،أمّا النقاب ولبس القفازين فهما من مبطلات الإحرام . ورغم أنّ الله جل شأنه جعل دعوة النساء عامة تشمل الرجال والنساء مثل دعوة الرجال ،فقال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعْضُهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر) إلاَّ أنَّا نجد خطابنا الديني يقصر دعوة النساء على النساء فيما يخصهُنَّ. وبالرغم من أنَّ بيعة الرضوان ،وهي على القتال في سبيل الله ،قد شارك فيها أربع من النساء ،وقد قال الله فيهم قوله تعالى : ( إِنَّ الذينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بَمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً)[ الفتح : 10]،وقال تعالى في ذات السورة : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعَونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلوُبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحَاً قَرِيبَاً.).[ الفتح : 18 ]إلاَّ أنَّنا نجد خطابنا الديني يتجاهل دلالة هذه الآيات عند حديثه عن الاختلاط ،وكذلك الأمر بالنسبة لحديث ابن عباس عن أخيه الفضل في قصة الخثعمية الحسناء ،ونظره إليها مكرراً ،وإعجابه بحسنها ، ،وتخريجه من رواية الشيخين كان بعد رمي الجمرة أي بعد تحللها من الإحرام والرسول صلى الله عليه وسلم لم يلزم المرأة بتغطية وجهها ،وقد بيَّن ابن حزم ،وابن بطَّال وجه دلالة الحديث على أنَّ الوجه ليس بعورة ،وتأييد ابن بطَّال قوله بجواز النظر إلى وجه المرأة إذا أمنت الفتنة بإدمان الفضل النظر إلى وجهها .. إلى غير ذلك من الفوائد ؛مثل ذكر الإجماع على أنَّ للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ،ولو رآه الغرباء. [محمد ناصر الألباني : جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة ، ص 225.] إلاَّ أنَّنا نجد في منهج الثقافة الإسلامية للصف الثالث ثانوي بنات يعلل عدم أمر الرسول المرأة الحسناء بتغطية وجهها، واكتفائه بإشاحة وجه الفضل عنها ،بأنَّه ربما أمرها فيما بعد بتغطية وجهها ،وعدم النقل لا يعني عدم المنع، وهنا نجد أنَّ واضعي المنهج قد وقعا في محظوريْن كبيريْن من أجل تحريم كشف الوجه ،أولهما تأخر الرسول صلى الله عليه وسلم في الإبلاغ بالنهي ؛ إذ تباطأ في نهي المرأة عن المحرَّم إن كان محرم عليها كشف الوجه ،وثانيهما : القصور في تبليغ السنة النبوية . كما نجد فصلاً تاماً بين صفوف النساء والرجال في المساجد بما فيها المسجد النبوي الشريف بحوائط ليس فيها فُرَج تحول دون متابعة النساء الإمام من خلال صفوف المصلين ،بينما هذه الحواجز لم تكن موجودة في العهد النبوي، ولم تكن موجودة إلى عهد قريب ،بدليل ،طلب الرسول صلى الله عليه وسلم تأخير النساء رفع رؤوسهن من السجود حيث لا حجاب بين الرجال والنساء، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : ( كان النَّاس يُصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ،وهم عاقدو أزرهم من الصغر على رقابهم ،وفي رواية عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ،فقيل للنساء : لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً) [رواه البخاري في كتاب أبواب العمل في الصلاة ،ورواه ومسلم في كتاب الصلاة ] وقال الحافظ ابن حجر : وإنَّما نهى النساء عن ذلك لئلاَّ يلمحن عند رفع رؤوسهن من السجود شيئاً من عورات الرجال. [ ابن حجر : فتح الباري ،5/180-181.] وهذا الحديث يبيَّن أن صفوف النساء خلف صفوف الرجال كانت بلا حجاب يفصل بينهما. والسؤال هنا : إن كان الأمر كذلك فلماذا الفصل التام في كل مساجدنا بما فيها المسجد النبوي بحوائط إسمنتية ،أو حواجز لا فُرج فيها ،ممَّا يستحيل على النساء الاقتداء بالإمام، وحتى في صحن الطواف وضعت الحواجز في المربع الصغير المخصص للنساء ،فلا يرين الكعبة إلاَّ واقفات؟ كما نجد هناك من يشكك في صحة رواية محاجة المرأة القرشية لعمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ،عندما أراد تحديد المهور ، فيمنع زيادة المهر عن أربعمائة درهم ،فعارضته هذه المرأة القرشية في المسجد ،وعلى رؤوس الأشهاد ؛إذ قالت له : « أما سمعت الله يقول : ( وإن آتيْتُم إحداهُنَّ قِنطاراً ) ،فما كان من عمر رضي الله عنه إلاًّ أن قال : « أخطأ عمر وأصابت امرأة»»
ويرجع تشكيكهم في صحتها لأنَّها دليل على الاختلاط ،وتُعلي من شأن المرأة ،وقد أخضعتُ رواة هذه الواقعة لعلمي الجرح والتعديل ،وثبت صحة الرواية. وبعد هذه الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية القولية والفعلية لا مبرر البتة للضجة التي أُثيرت حول الاختلاط في مركز علمي راق يضج بعلماء وهبوا حياتهم للبحث العلمي وخدمة الإنسانية ،ثمَّ أنَّ هناك من علمائنا ومشايخنا وأساتذة جامعاتنا قد درسوا في الخارج في جامعات مختلطة ،وكان من أساتذتهم نساء. إنَّ خطابنا الديني للمرأة وعن المرأة في حاجة إلى تصحيحه ،وبنائه على الفهم الصحيح للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة المتعلقة بالنساء ،وتنقيته من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ،وكذلك من العادات والأعراف والتقاليد والتي يعود بعضها إلى عصور التراجع الحضاري التي أقصت المرأة وحكمت عليها بالجهل والقهر والعزل، وحرمتها من المشاركة في الحياة العامة ،ولا تزال آثار هذه العصور تخيم على عقول البعض منا ،فيعارضون أي إنجاز فيه للمرأة نصيباً ،كمعارضتهم فتح مدارس للبنات قبل نصف قرن محرِّمين التعليم على المرأة ،وصمود الملك فيصل رحمه الله آنذاك وإصراره على تعليم البنات حرَّر تلك العقول من تلك القيود البالية التي لا تتفق مع ديننا ،وأصبح لدينا عالمات وفقيهات وباحثات وأكاديميات وطبيبات وأديبات وإعلاميات في مختلف المجالات ،بل أصبح لدينا عالمات عالميات متميزات حققن إنجازات لم يحققها ملايين الرجال ،ووقفة خادم الحرمين الصامدة أمام معارضي مشاركة المرأة في هذا الصرح العلمي الكبير تعني أن هذا الصرح سوف يحتضن هؤلاء العالمات ،ويوفر لهن كل الإمكانيات والأجواء التي تجعلهن يقدمن المزيد مثلما أسهم في تعليمهن بابتعاثهن للدراسة في الخارج ،كما سيخرِّج لنا عالمات أُخريات في مختلف المجالات العلمية ليشاركن مع أخواتهن العالمات حياة سندي التي صنِّفت من أفضل خمسة عشر عالِماً في العالم وغادة المطيري وإلهام أبو الجدايل وسارة القثامي وسلوى الهزاع ،وسميرة إسلام ,وغيرهن كثيرات اللواتي تحدث العالم عن إنجازاتهن واكتشافاتهن العلمية التي لم يسبقهن أحد إليها . فافخر يا وطني ببناتك، وثق يا أبا متعب أطال الله عمرك وأيَّدك بنصر من عنده أنَّنا نحن بنات هذا الوطن الغالي لن نخذلك أبداً ،كما أنَّنا لم نخذل من قبل أخاك الفيصل رحمه .