يعتقد البعض أنَّ الساحل الغربي للخليج العربي ليس له عمق حضاري ،ولا عهد له بالحضارة،وأنَّه لم يعرفها إلاَّ بعدما هبطت عليه الثروة النفطية ،وحتى هذه الحضارة بناها على أكتاف الآخرين ،ويُعرِّف البعض الإنسان الخليجي “أنَّه برميل بترول متحرك ،أو ” بنك متنقل “
،وسأحاول من خلال هذه القراءة  تصحيح هذا الخطأ الجسيم الذي وقع فيه البعض ،والذي للاسف يمثل صورة الإنسان الخليجي لدى الغالبية العظمى من الناس الذين ينظرون لنا نحن سكان الخليج ،بصورة ذات ملامح مشوهة تتسم بالسطحية والاتكالية ،واللامبالاة ،لخلوها من العمق الحضاري والعلمي والثقافي والفكري،فهي لم تظهر على صفحات التاريخ إلاَّ بعد اكتشاف البترول بها ،ولذا لم تعرف بقيمة الثروة التي هبطت عليها ،فتنفقها هباءً على توافه الأمور.
وهذه نظرة سطحية بُنيت على الجهل بشخصية الإنسان الخليجي ،وكفاحه ونضاله ،فأنت إذا أردت أن تعرف شعباً لابد لك أن تعرف العناصر البشرية المكونة له ،وكيف كان يعيش ؟ وكيف كان يفكر ؟ وكيف كان يعمل ؟أي تغوص في أعماق نفسه ،وتعيش معه حياته بآلامها وآمالها ،بأفراحها وأتراحها ،بل تعيش معه حتى ساعات لهوه وتسليته ،فهذه التفاصيل عن الحياة الاجتماعية للشعوب تعرفنا بمعادنها ،وبحضارتها ،وبقدرتها على مواجهة الخطوب ،وعلى الابتكار والإبداع لتكيف نفسها مع البيئة التي تعيش فيها ،وقصة الإنسان الخليجي تحمل بين طياتها قصة كفاح وصبر عبر قرون خلت تبين لنا كيف كافأ الله عزّ وجل هذا الإنسان على صبره وقوة إيمانه بمصدر أساسي من مصادر الثروة يشكل عصب حياة هذا العصر ،فعوَّضه عن سلعة كمالية ” اللؤلؤ” بسلعة أساسية ” البترول”
  ولعلّ هذه القصة تكون حافزاً لأبناء هذا الجيل والأجيال القادمة الذين يتصارعون على الثراء ،أو الذين يتملكهم اليأس في طلب الرزق ،أنّه لا يأس مع الحياة فبقوة الإيمان بالله والصبر مع الكفاح والجهاد في السعي لكسب الرزق الحلال هي التي تؤدي بالإنسان إلى بر الأمان فيحقق طموحاته وآماله ،ولعل في هذه القصة أيضاً دروساً وعبر لأبناء الخليج بصفة خاصة ،فالأباء والأجداد بنوا وشيَّدوا وكافحوا في ظروف جد قاسية ،وأنَّهم صبروا على عيشة الكفاف ،وتحملوا قسوة المناخ ،وعلى الأبناء أن يُقدِّروا نعمة الثراء ،ويحافظوا عليها ويستثمروها لخير العباد والبلاد ،وليواصلوا المسيرة بإيمان وصبر وقوة وثبات وعمل جاد،وأن يحافظوا على مقومات الشخصية الخليجية، وتراث أمتهم ليتمكنوا من مواجهة التحديات الجمة التي يتعرضون لها من قبل الآخر ،وليحافظوا على كيانهم دون الذوبان في الآخر .
وسأبدأ بالرد على من ينفي عن الخليج العربي العمق الحضاري بإلقاء الضوء على هذه اللمحة التاريخية.
لمحة تأريخية:
  يرى بعض المؤرخين أنّ الخليج العربي هو مهد الحضارة ،بل مهد الجنس البشري ،وأنَّ الكنعانيين ـ ومنهم الفينيقيين ـ كانوا يقطنون سواحله الغربية قبل نزوحهم إلى سواحل الشام وفلسطين ،وأنَّ سفنهم مخرت مياهه قبل أن تنزل إلى البحر الأبيض المتوسط ،فكانوا يتاجرون مع الهند وإيران وسواحل الجزيرة العربية الجنوبية وإفريقية.
  ومن هؤلاء المؤرخين المؤرخ اليوناني “هيرودتس” 484-425 ق.م ،واسترايو الجغرافي الروماني “64ق.م -19 للميلاد ” الذي أشار إلى المقابر الموجودة في جزر البحرين بأنَّها تشبه مقابر الفينيقيين ،وأنَّ سكان هذه الجزر يذكرون بأسماء جزرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية ،وقال أيضاً إنَّ في بعض هذه المدن هياكل تشبه الهياكل الفينيقية الشامية . 
  ومن أقدم الممالك التي قامت على الخليج العربي مملكة ” أرض البحر ” Sea land انبعثت في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد ،وكانت تسيطر على منطقة تمتد من قرب مصب شط العرب إلى جزائر البحرين ،وفي النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد لعبت هذه الدولة أو التي خلفتها دوراً هاماً في جنوبي غربي آسيا ،ويبدو أنَّها تضم  بابليين وعرب ،وقد قضى الكيشيون عليها في أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد ،وبعد ذلك بخمسة قرون قامت دولة ثانية في أرض البحر لم تعمر طويلاً ،وبعد فترة قصيرة أخذ اسم ” أرض البحر” يتردد في نقوش الملوك الاشوريين ،وذلك من زمن “شلناصر الثالث”(58- 824ق.م)إلى زمن ” سنحاريب” (05-681ق.م) حيث قام آخر ملوك ” أرض البحر” بثورة على سيده سنحاريب الذي تمكن بواسطة أساطيله البحرية التي بناها الفينيقيون الذين جاء بهم إلى عاصمته “نينوى” أن يهزم ملك “أرض البحر” الذي لجأ إلى عيلام التي تقع في الجنوب الغربي من إيران وتمتد إلى الخليج العربي .
 هذا وقد أشار بعض المؤرخين إلى أنّ جزيرة “دلمون ـ المنامة” كانت مركزاً للحضارة السومرية ،وموقعاً تجارياً عظيماً منذ أيام السومريين “3000ق.م ” بين العراق والهند وغيرها  .فلقد كان الخليج ممراً حيوياً للتجارة وشتى أنواع العلاقة بين كتل السكان الكبيرة في مناطق الزراعة والحضارة في العراق والسند ،واستمرت هذه العلاقة الهامة عبر الخليج خلال كل العصور التاريخية بدرجات متفاوتة ،وبخاصة في عصور ازدهار الممالك التي تحكم رأس الخليج سواءً كانت فارسية أو سلوقية أو ساسانية أو إسلامية عباسية ،مع الأخذ في الاعتبار أنَّ الخط الملاحي تعدى بلاد السند إلى الهند وأفريقية والصين من الألف الأولى قبل الميلاد على الأقل .
هذا وقد شهد العام التاسع للهجرة سيادة الإسلام في الجزيرة العربية ؛إذ قدمت الوفود إلى المدينة المنورة ممثلة للقبائل العربية من أنحاء الجزيرة العربية لتعلن دخولها في الإسلام ،وذلك منذ رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في أواخر سنة ثمان ،وقد بلغ مجموع ما ذكرته المصادر أكثر من ستين وفداً ،وسمي عام التاسع من الهجرة بعام الوفود ،وفيه توحدت الجزيرة العربية سياسياً لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام ،فرغم أنَّها عرفت نشؤ الدويلات ،ونظم السياسة قبل الإسلام مثل معين وسبأ وحمير وكندة والغساسنة والمناذرة ،لم تتتمكَّن من توحيد الجزيرة العربية تحت رايتها ،وحتى حضاراتها اضمحلت وطغت البداوة على مراكزها قبل الإسلام .وتمكّن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحقيق وحدة الجزيرة العربية في أقل من عشر سنوات ،رغم قوة الروح الفردية ،وتغلغل العصبية القبلية والنزعات الجاهلية ،وكانت وحدة قوية صادقة في الر وح والعقل والسلوك كانت لبنة قوية وأساساً صلباً قامت عليه الدولة الإسلامية التي نشرت الإسلام على رقعة شاسعة من آسيا وأفريقية وأوربا  .وأصبحت الدولة الإسلامية تمتد من المحيط الهادي شرقاً إلى أواسط أوربا غرباً ،وشيدت أعظم حضارة شهدتها البشرية منذ أن خلق الله هذا الكون إلى أن تقوم الساعة. 
 وعلى الخليج العربي ظهر أشهر ملاَّح عربي هو “أحمد بن ماجد ” ،كما نشأت على ضفافه دولة عُمان البحرية القوية التي استطاعت فتح جنوبي إيران وسيطرت على أفريقية الشرقية ،وبعد اكتشاف طريق” رأس الرجاء الصالح ” ،والوصول إلى الهند في نهاية القرن الخامس عشر ،ومطلع القرن السادس عشر بدأ سيل المراكب الأوربية وتجارها ومغامروها وسياسيوها وجيوشها من برتغاليين وهولنديين وفرنسيين وإنجليز يتهافتون على السفر إلى الخليج العربي والهند والصين وغيرها من بلاد الشرق الأقصى سعياً وراء ثروتها وخيراتها وكنوزها ،ففي أوائل هذا القرن كان الخليج العربي ينتج نصف محصول العالم من اللؤلؤ ،وكان يقدر عدد المراكب التي تفتش عن اللؤلؤ آنذاك ثلاثة آلاف وخمسمائة مركبة . وفي الثلاثينات من هذا القرن أُكتِشف البترول في دول الخليج الذي يعتبر من أهم مناطق البترول في العالم ،وبها ثلثي احتياطي النفط في العالم .
   ورغم أنَّ البرتغاليين ثُمَّ الهولنديين ،ثُمَّ البريطانيين ، قد تغلبوا على بعض أجزاء من الخليج ،وكذلك الفرس والعثمانيين ،إلاَّ أنَّه ظل محافظاً على صبغته العربية ،فقد زاره الرحالة الدانمركي ” كارتس نيبون” في عام 1765م ،وقال بأنَّ الخليج المذكور بشاطئيه ،وأنَّ جميع البلدان الواقعة على ساحليه هي عربية لحماً ودماً ،وأنّ جميع سكانه من العرب يتكلمون العربية ،وحكامه ـ  بلا استثناء ـ  عرب  .  




  – المرجع السابق : ص 23، 24.
  -المصدر السابق : ص 24.
  – د. محمد رياض ،الخليج والخليجيون قبل عام 1930 م ،مجلة دراسات الخليج العربية عدد 36 ،ص 219.
  -د.أكرم ضياء العمري : السيرة النبوية الصحيحة ،ج2 ،ص 541ـ 545.
  –  مصطفى مراد الدباغ ،قطر ماضيها وحاضرها ،ص 26 ،20.
  – المرجع السابق : ص 26.



الدكتورة سهيلة زين العابدين حماد
 suhaila_hammad@hotmail.com



Leave a Reply